سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود

أضواء على شخصيته بمناسبة اليوم الوطني السعودي

سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود
TT

سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود

سعود بن هذلول... مؤرخ آل سعود

من منظور هاوٍ للتاريخ لا متخصّص فيه، يُكتب هذا المقال بمناسبة اليوم الوطني السعودي، الذي تحل ذكراه في الثالث والعشرين من سبتمبر (أيلول)، للحديث عن هذا العَلَم المخضرم، الذي يجمع بين كونه أميراً ومؤلّفاً لكتاب لعله الوحيد في موضوعه التاريخي لأحد أفراد الأسرة المالكة صار يُطلق عليه «مؤرِخ آل سعود» واستمرّ المؤرّخون يقتبسون منه مما زاد من أهميّته مع مرور السنوات، وتمكّن مؤلّفه قُبيل وفاته عام 1983 من إعادة إصداره وإضافة الأحداث التي جدّت عليه منذ طبعته الأولى، كاعتداء جهيمان على المسجد الحرام (20 نوفمبر (تشرين الثاني) 1979)، والكتاب في 425 صفحة، من تقديم الموسوعي محمد ناصر العبودي.
فضلاً عمّا يُعرف عنه من البساطة في عرض محتوى كتابه، ومن رغبته كما ذكر في المقدمة بتسجيل التاريخ دون زيادة أو نقصان، فإنه لم يتبع المنهج التقليدي السردي الذي سار عليه المؤرّخون الأوائل، واعتمد على أبرز المراجع المتاحة في حينه، وعلى السماع من المعمِرين الذين أدركهم في حياته، وقد عاصر وشارك في بعض الأحداث المتأخّرة التي يُعدّ مرجعاً أوّليّاً فيها، وكان مما انفرد بإيراده مثلاً في طبعته الأولى تفاصيل حادثة اعتداء ثلاثة يمنيين في الحرم المكّي الشريف على الملك عبد العزيز، وولي العهد الأمير سعود (حج عام 1935) وكان المؤلّف شاهد عيان للحادثة.
أدرك من خلال الإطار الزمني الذي عاشه، معظم جيل التأسيس الأول الذي صنع الأحداث أو شارك فيها، أو روى أخبارها عن قرب، وزعماء القبائل وشخصيّات المجتمع، ورجالات الأسرة الحاكمة ومنهم الإمام عبد الرحمن والد الملك المؤسّس عبد العزيز وإخوانه وأنجالهم، وناصر بن سعود بن فرحان (ت 1930 تقريباً) وعبد الله بن جلوي (ت 1935) وعبد العزيز بن عبد الله بن تركي (ت 1936) وسعود بن عبد العزيز (الملقّب بسعود الكبير ت 1959) وسلمان بن محمد (ت 1974) وعبد العزيز بن مساعد بن جلوي (ت1977).
كان شخصيّة اجتماعيّة، ودوداً محبّاً لمجالسة الناس ومعرفة أحوالهم، ملمّاً بقبائل الجزيرة العربيّة وجغرافيّتها وتاريخها المعاصر، والتقى المؤرّخين السعوديين والأجانب الزائرين من جيله، ولم ينفرد بما كتب فاتّخذ من العارفين بالتاريخ الشفوي والمكتوب من استشارهم من أمثال محمد العبودي وعبد الرحمن الرويشد (ت 2016) ممن لهم إحاطة مشهودة بالتاريخ الوطني والاجتماعي السعودي الحديث، وهي جميعاً عوامل رغّبته مجتمعة بالاهتمام بكتابة التاريخ.
في تقديمه للكتاب، استعاد العبودي مقولة للعلّامة حمد الجاسر بأن «أكثر الذين كتبوا في تاريخ الجزيرة العربيّة وفِي التاريخ السعودي على وجه الخصوص، هم من الأجانب» ولذلك احتفى العبودي بتصدّي المؤلّف لمهمّة التأريخ لبلاده، مستفيداً من معرفته بمجريات الأمور وبظروف المجتمع وأسماء المواقع والقبائل والزعامات السياسيّة المجاورة، وأثنى على نهجه في رصد الحوادث وتحليل أسبابها ونتائجها وفق الأسلوب الحديث في تدوين التاريخ.
وَمما امتاز به جهده، الجمع بين ميدانين رئيسيين في دراسات التاريخ هما؛ سرد الأحداث وروايتها، وسيَر الشخصيّات التي صنعتها، حيث أرّخ لأبرز مفاصل الدولة منذ قيامها قبل ثلاثة قرون، في حين خصّ حكّامها كما يدلّ عليه عنوان الكتاب، بنُبذٍ مرجعيّة من تراجمهم.
كان فيلبي من المؤرخين الغربيين الذين التقوا به، واستفاد من وثائق يقتنيها، وأثنى عليه في كتابه (الذكرى العربيّة Arabian Jubilee 1951) وقال «إنه كنز ثمين للمعلومات النافعة، وبخاصة بالنسبة للغموض الذي يتعلق بفروع الأسرة التي ينتمي هو نفسه إلى أحدها» وكان العلّامة حمد الجاسر، ممن اطلع على الكتاب بعد صدور طبعتيه، واستشهد به في بعض قراءاته التاريخيّة ومطالعاته لكتب الباحثين، وكان مما قاله عنه «والأمير سعود (1906 - 1983) له مؤلَّف دعاه (تاريخ ملوك آل سعود) نُشر سنة 1960 في طبعته الأولى، انتهى فيها إلى ذِكْر وفاة الملك المؤسس عبد العزيز صباح يوم الاثنين، التاسع من نوفمبر 1953 وأشار إلى تولّي الملك سعود وانتهى، ثم أصدر طبعته الثانية عام 1982 بإضافاتٍ كثيرة، انتهى فيها إلى ذِكْر حوادث سنة 1980 ومع أن المؤلِّف اعتمد كثيراً على مَن تَقَدَّمَه، إلا أنَّ لإضافاته المتعلِّقة بحياة الملك المؤسس محلَّها لدى المعنيين بالتاريخ، لكونه من أسرته ولمعاصرته له ولأنه من مرافقيه ورجال دولته».
التقاه كاتب المقال مرّات عدة، كانت أولاها عام 1964 حينما كان أميراً لمنطقة القصيم، وسجل معه حديثاً إذاعياً عُرض
في حينه وتلقّى منه يومذاك الطبعة الأولى من كتابه، وأجرى معه عام 1977 لقاءً تلفزيونيّاً مطوّلاً (ما زال محفوظاً) وكان في تلك الأيام قد أنهى إضافات كتابه، وروى في اللقاء الكثير من الذكريات عن سيرة الملك عبد العزيز، وعن جملة من الحوادث التي شهدها أو شارك فيها، والتحدّيات التي واجهها تأسيس السعودية من القوى الإقليميّة المناوئة، وذكر أسماء عدد ممن أسهموا في تأسيس الدولة، وأثبت ما تأكّد لاحقاً من أن إجمالي من اعتلى سور الرياض مع الملك عبد العزيز أربعون فارساً، توفّي آخرهم وهو الأمير عبد العزيز بن مساعد بن جلوي عام إجراء المقابلة (1977) ومعهم عشرون مرافقاً.
واستعرض جزءاً من سيرة الملوك الثلاثة سعود وفيصل، وخالد الذي حصل التسجيل في عهده، وكشف الحديث اطّلاعه على كتب المؤرخين، وبخاصة خير الدين الزركلي (شبه الجزيرة في عهد الملك عبد العزيز، أربعة أجزاء) ومنير العجلاني (تاريخ البلاد العربيّة السعودية، خمسة أجزاء) وعبد الله محمد البسّام (تحفة المشتاق في أخبار نجد والحجاز والعراق) ومحمد أمين التميمي واضع نواة مشجّرة العائلة المالكة وتحدّث عن مخطوط التميمي في التاريخ، ربما قصد بها مذكّراته الشخصية التي دوّنها بعنوان (لماذا أحببت ابن سعود؟) وأهداها إلى الملك عبد العزيز أثناء زيارته لمصر (1946) ونشرتها دارة الملك عبد العزيز (1999) وتحدّث عن شاعريّة الإمام تركي بن عبد الله آل سعود مؤسّس الدولة السعودية الثانية (ت 1843) مُستشهداً بقصيدته المعروفة:
طار الكرى من موق عيني وفرا وفزيت من نومي، طرا لي طواري
كما أشاد بقريحة الشاعر الشعبي محمد عبد الله العوني (ت1923) صاحب الملحمة (المطوّلة) الشعريّة التي وثّق بها توحيد السعودية ووصفه بـ«متنبّي زمانه» بالنسبة للشعر النبطي، واستشهد بالأُهزوجة المشهورة التي نظمها قُبيل وقعة الشنانة (قرب الرسّ 1904) وما تزال تُستعاد في العرضات الوطنيّة:
منّي عليكم ياهل العوجا سلام واختصّ أبو تركي عمى عين الحريب
وتعبير «العوجا» يُقصد به الدرعيّة (العاصمة الأولى للدولة السعودية) يَرِد كثيراً في الشعر النبطي وفي بعض الفصيح، و«أبو تركي» كُنية الملك عبد العزيز، فتركي أكبر أبنائه (شقيق الملك سعود) ولد عام 1900 يسمى تركي الأول، ولّاه إمارة القصيم وعمره سبعة عشر عاماً، وهو أول حاكم إداري من أبناء الملك المؤسّس يتولّى إمارة إقليم، وتوفي سنة 1919 في وباء الحمّى الإسبانيّة التي أصابت شبه الجزيرة العربيّة، وسُميت «سنة الرحمة».
وقال إنه يتذكّر في طفولته زيارة الكابتن الإنجليزي ويليام شكسبير عام 1915 قادماً من مقر عمله السياسي في الكويت، في عام معركة «جراب» التي رغب أن يحضرها فقُتل فيها (وجراب موقع شمال العاصمة على مقربة من المجمعة والزلفي) وتطرّق في المقابلة إلى علاقة نجد مع الأتراك، وإلى تأسيس السعودية في مرحلتها الثالثة المعاصرة ورجالاتها، وقصة تجريد الأحساء والقطيف من الترك، واستخلاص شمال القصيم من موالاة أمير حائل ابن رشيد،
وأتى في حديثه على ذكر بعض من عمل في معيّة الملك من أمثال عبد الله السليمان الحمدان وأخيه حمد السليمان وعبد الله المحمد الحمدان (أبو عليوي) ومحمد بن دغيثر وعبد الرحمن بن زيد ومحمد بن شلهوب وعبد الله بن نفيسة (عمعوم) وعبد الرحمن الطبيشي وإبراهيم بن جميعة وفهد بن معمّر وفيصل بن حشر ومحمد بن سحمي بن حشر (وهما من آل عاصم من قحطان) ومشاري بن بصيّص (من برية من مطير) ومهدي بيك المصلح (أول مدير للأمن العام). ومن بين من خصَهم بالذكر والإشادة بتاريخهم من القادة؛ الشريف خالد بن منصور بن لؤي العبدلي أمير الخرمة قديماً (ت 1932) ومحمد بن هندي شيخ قبيلة عتيبة آنذاك (ت 1933) والمقابلة ثريّة بمعلومات ضيفها واطّلاعه، أُتيحت قبل أسابيع على قناة اليوتيوب بعد مرور أربعين عاماً على إجرائها وحظيت بكثافة المشاهدة.
شخصيّة المقال، هو سعود بن هذلول (من فرع آل الثنيان) يتّصل مع فروع الأسرة الحاكمة في جدّها الأول سعود بن محمد بن مقرن والد مؤسس إمارة الدرعيّة (الدولة السعودية الأولى) ووالده هو هذلول بن ناصر بن ثنيان، المقتول عام 1906 في «روضة مهنّا» في منطقة القصيم، وهي معركة مبكّرة فاصلة وقعت بين أمير نجد آنذاك (الملك) عبد العزيز وأمير حائل حينئذ عبد العزيز بن متعب بن رشيد الذي تُوفّي فيها.
وُلد عام 1906 (تاريخ ولادة الملك فيصل، شريكه في الرضاعة) بُعيد مقتل والده، حضر الأواخر من غزوات حقبة التأسيس، ومنها معركتا «السبلة والدبدبة 1929» والمناوشات مع اليمن عام 1934 في عهدي الملك عبد العزيز والإمام يحيى حميد الدين، وتولّى إمارة المنطقة الشماليّة الغربيّة (تبوك ثم ينبع) في عهد الملك عبد العزيز، وإمارة منطقة القصيم في عهد الملك سعود، وتوفي عن ثمانية وسبعين عاماً ميلادياً، مخلّفاً - بحسب المؤرّخ الرويشد - ثلاثة عشر ولداً من الأبناء وعشراً من البنات.
*إعلامي وباحث سعودي


مقالات ذات صلة

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم