حكايات البداية للممثل الذي قيل له «ابحث لك عن مهنة أخرى»

مهرجان «كان» يتذكر ثلاثية إيستوود - ليوني

المخرج سيرجيو ليوني الذي صنع من إيستوود نجما  -  كلينت إيستوود في «من أجل حفنة دولارات أكثر»
المخرج سيرجيو ليوني الذي صنع من إيستوود نجما - كلينت إيستوود في «من أجل حفنة دولارات أكثر»
TT

حكايات البداية للممثل الذي قيل له «ابحث لك عن مهنة أخرى»

المخرج سيرجيو ليوني الذي صنع من إيستوود نجما  -  كلينت إيستوود في «من أجل حفنة دولارات أكثر»
المخرج سيرجيو ليوني الذي صنع من إيستوود نجما - كلينت إيستوود في «من أجل حفنة دولارات أكثر»

من بين العروض الخاصّة التي يوفّرها مهرجان «كان» السينمائي في دورته الحالية التي تنتهي يوم الأحد المقبل، ثلاثية المخرج الإيطالي سيرجيو ليوني (1929 - 1989) مع الممثل كلينت إيستوود (83 سنة).
إنها ثلاثة أفلام دخلت تاريخهما المشترك، وإيستوود طالما أكّد أن ليوني من بين من يكن لهم التقدير لدوره في اكتشافه. هذه الأفلام الثلاثة هي «حفنة دولارات» (1964) و«لأجل حفنة دولارات أكثر» (1965) و«الطيّب والسيئ والبشع» (1966) وفيها لعب ذلك الشاب الطويل أدوار المقاتل الذي لا يحمل اسما والذي حط، في الفيلمين الأولين، وسط حرب العصابات، وفي الثالث وسط الحرب الأهلية الأميركية بأسرها.
قبل ذلك، لم يكن الجمهور الواسع عرف ذلك الاسم الذي سيصبح نجما كبيرا قبل نهاية العقد الستيناتي. فهو أم التمثيل سنة 1955 عندما كان لا يزال في السادسة والعشرين من العمر. المخرج جاك أرنولد الذي عرف بأفلام الرعب والتشويق أسند إليه دورا صغيرا في «انتقام المخلوق» (Revenge of the Creature)، وكان ذلك أول ظهور له على الشاشة. الهوليوودي العتيق آرثر لوبين منحه دورين صغيرين قبل نهاية العام ذاته هما «فرنسيس في البحرية» و«لادي غوديفا المنبوذة» (Lady Godiva of Coventry). هذا من قبل أن يعود جاك رينولدز ويمنحه دور الطيّار الذي يقصف العنكبوت الضخم في Tarantula: حكاية عالم مهووس باستخدام مادة إشعاعية تكبر حجم عنكبوت أسود مما يحوّله إلى وحش لا يمكن الحد من فتكه. دور إيستوود لا يزال صغيرا وهو يقود سرب الطائرات الحربية التي ستقصف هذا العدو بالنابالم!
هذا المنوال من الأدوار الصغيرة استمر في العام التالي: «لا تقل وداعا أبدا» لجيري هوبر (لعب إيستوود فيه دور موظف في مختبر طبي). هذا الفيلم من بطولة «النجم» روك هدسون الذي انزعج من كون إيستوود يرتدي نظارة طبية وهو لا فاحتج. بعد تجربة عدّة نظارات لم يجدها هدسون مناسبة تم خلع النظارة من على إيستوود وأعطاها لهدسون كي يسكت.
ثم هو في الوسترن الأول له «نجمة في الغبار» (A Star in the Dust) لتشارلز هاس، وإيستوود فيه أحد المزارعين في مشاهد قليلة، ثم هو في «إبحار القوارب» (Away All Boats) لجوزيف بفني حيث يظهر إيستوود ويختفي في لقطات قليلة ترد في نصف الساعة الأول من الفيلم. المخرج آرثر لوبين عاد فطلبه لفيلم ثالث بينهما هو «أول امرأة أعمال رحّالة» (The First Traveling Saleslady) حيث دوره هنا أكبر قليلا من أدواره السابقة، ثم كان آرثر لوبين مرّة رابعة وأخيرة مخرجا لـ«هروب من اليابان» (1957) حيث ظهر إيستوود في دور صغير كبحّار.
إنها الفترة التي كان مستقبل إيستوود السينمائي فيها في مهب الريح رغم حداثة عهده، فأخذ يعمل في مهن يدوية صغيرة. خلالها طلبه ويليام أ. ولمان لدور كبير في فيلمه الأخير «هذه هي الحرب» (ولمان صاحب أول فيلم حاز الأوسكار وهو «أجنحة» Wings سنة 1927). مرة أخرى غار بطل الفيلم، تاب هنتر، من إيستوود فتنازل ولمان عن رغبته ومنح إيستوود دورا صغيرا. في العام التالي قامت مخرجة غير معروفة اسمها جودي كوبلان بتحقيق فيلم وسترن صغير عنوانه (Ambush at Cimarron Pass) وكان ذلك أول دور فعلي لإيستوود رغم أنه ليس دور بطولة: إنه جندي عنصري ومثير للمتاعب يمتثل، غصبا، لقيادة سكوت برادي الذي عليه النفاذ برجاله من كمين للهنود الحمر.

* وسترن مطبوخ
عند هذا الحد، توقف إيستوود عن التمثيل للشاشة الكبيرة بعدما انتقي للظهور في دور مساند أوّل في المسلسل التلفزيوني الوسترن «روهايد» (Rawhide). هذا المسلسل (1959 - 1965) من إنتاج شركة كولومبيا التي ذكر إيستوود في بعض تصريحاته لاحقا أن مديرها قال له بصراحة «لن تصبح نجما في المستقبل بسبب حنجرتك البارزة. نصيحتي أن تبحث عن عمل آخر». لكن إيستوود لم يبحث عن عمل آخر، وعمله في ذلك المسلسل رفع من شعبيته (كان أكثر شبابا من باقي الممثلين)، ولفت نظر المخرج الإيطالي ليوني الذي طلب منه، سنة 1964، ترك كل شيء ولعب بطولة «حفنة من الدولارات».
لم يكن ليوني نفسه يعرف ما الذي سينجزه هذا الفيلم من ردود فعل. ورد في الحقبة التي انتشرت فيها أفلام «سباغيتي وسترن». سمّيت كذلك لأنها كانت «تطبخ» في الاستوديوهات الإيطالية. لكنها كانت عديدة، ولاحقا ما أقدمت عليها شركات ألمانية وإسبانية من بين أخرى.
إلى أن أخرج ليوني هذا الفيلم كان مضى عليه نحو 25 سنة من العمل ككاتب ومساعد مخرج ثم مخرج وحدات الأكشن في أفلام تاريخية مثل «هيلين الطروادية» (1956) و«آخر أيام بومباي» (1959). هو الآخر وجد أن طريقه لا يؤدي إلى أي ازدهار إلا إذا بدأ إخراج الأفلام، وهو ما فعله بدءا من أول الستينات. حين أخرج «حفنة من الدولارات» كان بات جاهزا ليفاجئ العالم بما سمّاه «الشاعرية الصامتة».
لكن هذا الفيلم الذي لعب فيه إيستوود دور مقاتل يؤلّب عصابتين تحتلان بلدة منسية من بلدات الغرب الأميركي، لكي تتقاتلا، مأخوذ عن فيلم أكيرا كوروساوا «يوجيمبو» (1961)، وليوني وجد نفسه مطالبا بتوضيح نفسه أمام المحكمة. القضية منعت الفيلم من العرض لفترة داخل الولايات المتحدة، مما يمكن معه القول إن إيستوود شهد رواجه سينمائيا خارج أميركا وليس فيها أولا.
بناء على هذا النجاح قام إيستوود وليوني بالتعاون معا في فيلم «من أجل دولارات أكثر»، وهذه المرّة جلب ليوني من هوليوود ممثل أدوار الشر لي فان كليف. وكما جعل ليوني من إيستوود اسما معروفا، جعل من لي فإن كليف اسما معروفا أيضا. ففي السابق كان فان كليف عبارة عن شخصية متوترة في أفلام الوسترن الأميركي. صالح للقاتل في كل الحالات والذي يموت قبل أو مع نهاية كل فيلم. هنا هو في دور البطولة الثانية وشخصيته أكثر هدوءا من ذي قبل. هذا الفيلم كان بداية سلسلة لاحقة من أفلام السباغيتي وسترن التي استغلته ومنها سلسلة «ساباتا». أيضا تحت إدارة ليوني في هذا الفيلم الممثل الألماني كلاوس كينسكي الذي لاحقا وجه المخرج فرنر هرتزوغ المفضّل لحين وفاة الممثل سنة 1991.
حين تم تقديم العرض لإيستوود تم تخييره بين 20 ألف دولار وسيارة «فيراري» أو 25 ألف دولار من دون سيارة. اختار إيستوود السيارة على أساس أن عميله لا يستطيع أن يتقاضى عمولته عن السيارة.
الفيلم الثالث والأخير في ثلاثية ليوني مع إيستوود كان «الجيد والسيئ والبشع» (The Good‪,‬ The Bad and the Ugly) سنة 1966. تختلف القصة عن سابقتيها لكن إيستوود يبقى بلا اسم. إيلاي والاك (الذي أعجب به ليوني عندما شاهده في دور الشرير الأول في «الرائعون السبعة» (لجون ستيرجز - 1960 والمأخوذ عن فيلم آخر لكوروساوا هو «الساموراي السبعة» (1954) يشارك إيستوود في دور الرجل السيئ ولي فان كليف في دور البشع. والحكاية عن ثروة من المال مدفونة في مقبرة ولا أحد يعرف داخل أي قبر بالتحديد تم دفنها. كل من السيئ والشرير يحاول إجبار الطيّب (إيستوود) على إخبارهما بالمكان. هذا كله على خلفية الحرب الأهلية وعلى نحو ملحمي كان بداية لفيلمين ملحميين كبيرين لليوني هما «حدث ذات مرة في الغرب» (1968) و«حدث ذات مرة في أميركا» (1984)‪.‬

.. وبعد ذلك
المخرج الآخر الذي صنع شهرة إيستوود بيديه هو دون سيغال الذي تلقفه حال عودة إيستوود إلى أميركا سنة 1968 وأسند له بطولة «خديعة كوغان» (Coogan‪›‬s Bluff) الذي ظهر في الأسواق مع فيلم أميركي آخر من بطولة إيستوود هو «أشنقهم عاليا» (Hang ‪›‬em High). عدد الأفلام التي مثّـلها إيستوود تحت إدارة سيغال أربعة. في عام 1971 أخرج إيستوود أول فيلم له هو «أعزف لي ميستي» (Play Misty For Me) الذي لم يكن وسترن أو بوليسيا كما معظم أعماله الأخرى.



السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
TT

السينما في 2025... عام مفصلي لتطور تقنيات الإبهار

«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)
«سريع وغاضب» واللامعقول (يوينڤرسال)

في مجمله، كان عام 2025 نقطةً مفصلية في مسار السينما على أكثر من صعيد. بدقّة عالية يمكن تحديد العام الحالي على أساس نقطة تفصل بين ما قبله وما بعده، تماماً كما حدث عندما داهم وباء «كورونا» العالم قبل 5 سنوات، فوجدت السينما، كغيرها من القطاعات، نفسها في موقع التحدي والمواجهة.

لكنّ ما يحدث هذه المرّة يختلف؛ فالسينما تدخل عصراً جديداً تبلورت ملامحه في الأعوام السابقة، ثم تجسّد عام 2025 بوصفه واقعاً ثابتاً وقوة مؤثرة في مختلف عناصر الصناعة. الإحاطة بهذه التطورات تكشف حجم تأثير دخول التقنيات إلى عمق البنية الصناعية للسينما.

«بوليت» المطاردة تبدو واقعية لليوم (وورنر)

استبدال شامل

حتى سنوات قليلة مضت، ظلّ إنتاج الأفلام يجري بالطريقة التقليدية: الموافقة على المشروع، ومن ثَم تطويع كل الإمكانات الفنية والتقنية لخدمته وفق موضوعه ونوعه. وكان من المعتاد اللجوء إلى تقنيات الكمبيوتر غرافيكس لإتمام ما يصعب تحقيقه واقعياً، مثل مشاهد مطاردات السيارات في أفلام مثل «بولِت» (Bullitt) 1968، و«ذَ فرنش كونكشن» (The French Connection) 1971، و«رونَن» (Ronin) 1998، التي كانت تُنجز بجهود بشرية شاقة وبمخاطر حقيقية.

اليوم تغيّر القاموس التنفيذي بالكامل. بات في الإمكان تصوير ممثل يركض في «شوارع باريس»، وهو في الحقيقة واقف داخل ستوديوهات «يونيڤرسال»، أمام شاشة خضراء. ويكفي عقد مقارنة بين تلك الأفلام الكلاسيكية وأي فيلم من سلسلة «Fast and Furious» للتأكد من حجم التحوّل.

لكن المدّ لا يتوقف هنا. فالاعتماد على الذكاء الاصطناعي شهد هذا العام قفزة جديدة. صار من الممكن، تنفيذ الفيلم من السيناريو إلى الشاشة عبر منظومة غير بشرية بالكامل: كتابة، إخراج، تصوير، مونتاج، بل وحتى أداء الممثلين.

دافع رئيس

قبل أسبوعين، اعتلى المخرج غييرمو دل تورو منصّة «أميركان فيلم إنستتيوت» لتسلُّم جائزته عن فيلمه الجديد «فرانكنستين»، ونال تصفيقاً حاراً حين أعلن: «فيلمي فني في كل لقطة. خالٍ بنسبة 100 في المائة من الذكاء الاصطناعي».

وعلى الرغم من هذه المواقف، يبقى الدافع الأساسي لاعتماد التقنية واضحاً: تقليص الميزانيات الضخمة للأفلام التجارية. فالذكاء الاصطناعي قادر على خفض التكاليف إلى النصف تقريباً، بحيث تبقى الرواتب هي العبء الأكبر وحدها.

وهذا يتقاطع مع استعداد جمهور واسع لقبول كل ما يقدّم له ما دام يحتوي على جرعات عالية من الأكشن والخيال، دون الاكتراث بما إذا كان الفيلم «بشرياً» أم مُنتجاً آلياً.

«فرانكنستين» 100 في المائة سينما (نتفليكس)

تفكير بالنيابة

يرى المدافعون عن الذكاء الاصطناعي (AI) أنّه يطوّر بصريات الفيلم ويجوّد مؤثراته، لكن هذا صحيح بقدر محدود. فالسينما بلغت قممها على أيدي فنانين أكفّاء صنعوا روائع مثل «ووترلو»، أو «بوني وكلايد»، أو «لورنس العرب»، أو «صنست بوليڤارد»، أو «القيامة الآن».

ما يطلبه الذكاء الاصطناعي ببساطة هو: «لا تفكّر... سأفكّر نيابةً عنك».

وهو ما يشبه ما حدث مع الهواتف الذكية وخرائط «غوغل»: استبدال الجهد الذهني بالاعتماد التام على التقنية.

ولا يعمل الذكاء الاصطناعي وحده في هذا المسار. فعام 2025 هو الامتداد الأكثر شراسة لما بدأ قبل سنوات مع المنصّات المنزلية، التي توفّر عليك مهمّة الانتقال إلى صالات السينما. غايتها ليست راحتك ولا حتى مساعدتك على الحد من النفقات (لم ترتفع أسعار التذاكر إلى المستوى الحالي إلا كرد فعل على انخفاض الإقبال) بل مد أصابعها إلى محفظتك كل شهر. أنت بالتالي، وعلى عكس روعة الحضور الفعلي لصالة السينما، لست أكثر من رقم محفوظ ومصمم لكي تُفيد جهة لن تقوم مطلقاً بتوفير أفلام فنية أو تعالج موضوعات جادّة بفاعلية طالما إنها ليست مطلب الجمهور.

وفي هذا السياق جاء هجوم «نتفليكس» الأخير لشراء «وورنر»، في خطوة توسّع رقعة هيمنة المنصّات. بينما جاء دخول «باراماونت» على خط الاستحواذ لعرقلة هذا التفرّد وإعادة بعض التوازن إلى المنافسة.

لكن السينما المناوئة لم تُهزم بعد وتجد في المهرجانات الفنية مساحة كبيرة للمقاومة كما في مواقف مخرجين يدركون جيّداً أن عليهم الصمود في وجه هذه التيارات.


شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
TT

شاشة الناقد: ثلاثة أفلام من مهرجان «البحر الأحمر» تكسر المعتاد

«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)
«العميل السري» (مهرجان البحر الأحمر)

THE SECRET AGENT ★★★★

إخراج: ‪ كلايبر مندوزا فيلو‬

البرازيل | تشويق سياسي

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

يتألّف هذا الفيلم الذي شهد عرضه الأول في مهرجان «ڤينيسيا» هذا العام واستُقبل جيداً في مهرجان البحر الأحمر قبل أيام من 3 أقسام، كل منها بعنوان مختلف، لكن ليس بغرض سرد 3 حكايات مختلفة، بل لربط أحداث كل فصل وشخصياته بخيط واحد يتناول، بالإيحاء غالباً، الجريمة السياسية في البرازيل سنة 1977. وسواء تحدّث القسم الأول عن جرائم قتل ارتكبها نظام تلك الفترة ضد المواطنين، أو رغبة بطل الفيلم مارسيلو (واغنر مورا) في البحث في أرشيف الدولة عن تاريخ عائلته (القسم الثاني)، أو لجوئه للتخفي بعيداً عن أعين مطارديه في محاولته لإعادة فهم وتقييم الواقع المُعاش (عموم الأقسام الثلاثة)، فإنه يوفّر من خلال شخصية بطله نظرة جامعة لأثر الاضطهاد السياسي على حياته فرداً وحياة الآخرين مجموعةً. وهو يفعل ذلك بدراية كاملة وبحرية فنية تجعل الفيلم أكثر إشباعاً لمحبي السينما وتمنح المُشاهد معالجة تبدو كما لو كانت مستقاة من خطوط أحداث لا نراها، بل نعايشها كما نعايش الماثل أمامنا. هذا كان شغل فيلو منذ فيلمه الأول «أصوات مجاورة» (Neighboring Sounds) وما زال شغله الآن، حيث ما نراه وما لا نراه يتساويان في الإيحاء والأهمية.

يستخدم فيلو السينما مرآة تعكس ذاكرة تقض المضاجع. مارسيلو يعيش في ماضيه كما في واقعه الحالي. يلجأ إلى بلدة تعيش طقوساً احتفالية لا يأبه لها كثيراً، إذ إن غايته إعادة الوصل بينه وبين ابنه الذي يعيش في الخيال. كل هذا والشعور بأن السلطة والعاملين فيها أو متعاملين معها موجودون عن قرب، حتى وإن لم نرَ لهم حضوراً فعلياً.

يتحرك الفيلم بحرية بين موضوعاته وأقسامه، غير مرتبط بمنهج سرد معيّن، ولكثرة مشاغله وما يود البحث فيه هناك تطويل يطغى، لكنه يبقى قادراً على جذب الاهتمام طوال الوقت. ما يتبلور على الشاشة هو عمل يجمع بين سيرة شبه شخصية لرجل يرفض نسيان الأمس وبين حب السينما كلغة تعبير، وثقة المخرج بالكيفية التي ينجز فيها مفرداته هذه.

BLACK RABBIT‪,‬ WHITE RABBIT ★★★

إخراج: شهرام مقري

طاجيكستان/ الإمارات العربية

المتحدة | دراما

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

هذا فيلم غريب يُقدّر لحريّة المخرج في معالجته المبنية، بوضوح، على الخروج من شروط السرد المعتمد عادةً إلى آخر يتطلّب من المُشاهد التحرك بالاتجاه نفسه، متجاوزاً بدوره ما اعتاد عليه.

«أرنب أسود، أرنب أبيض» (مهرجان البحر الأحمر)

يدور في أرض تعود إلى استوديو حيث يُصوَّر فيلمان معاً في رقعة واحدة. رغبة المخرج مقري تعتمد على الإكثار من استخدام حريّته في رصف الفيلم الذي يريد كما يريده. هذا يخلق وضعاً تتكرر فيه المشاهد والحوارات، كما الحال عادةً خلال صنع الأفلام. نرى المشهد نفسه مع تغيير طفيف أكثر من مرة، تبعاً لرؤية مخرج يهوى التجريب ويراه مدخلاً مناسباً لسينماه. امرأتان ورجل ومسدس قديم هم محور ما يدور، لكن في وسط ما يبدو تكراراً، حضور لطبقات جديدة تتوالى الظهور.

من حسنات الفيلم التصوير (لمرتضى غايدي)، الذي يؤسس لنظام عمل متكامل يتواكب مع رغبة المخرج في تشغيل مخيلة المُشاهد وتعزيز أسلوبه. في أحيان كثيرة، يؤدي ذلك، ولو بالقصد، إلى الخلط بين الحدث الذي يقع في الفيلم الذي نراه، وذلك الحدث الآخر الذي ينطوي عليه الفيلم داخل الفيلم.

LOST LAND ★★★

إخراج: أكيو فوجيموتو

اليابان/ ماليزيا/ فرنسا

دراما عن الهجرة

عروض 2025: مهرجان «البحر الأحمر»

لا بد أن الشعور الإنساني في صميمه هو ما يدفع مخرجاً يابانياً للانتقال إلى بنغلاديش لتصوير موضوع محلي الحدث مع شخصيات محلية بدورها.

«أرض مفقودة» (مهرجان البحر الأحمر)

في «أرض مفقودة» متابعة لمصير صبي في الرابعة من العمر وشقيقته ابنة التاسعة، وقد قررا الاشتراك في رحلة تبدأ في حافلة تقل عشرات الأشخاص وتنتهي بهما بعد أيام من المشاق، وقد أصبحا وحيدين. مما يتبدى أن غاية المخرج فوجيموتو هي الحديث عن الهجرة غير الشرعية عموماً، مع تمهيد للشخصيتين قبل التحوّل عنهما لتصوير آخرين يؤمّون الهدف نفسه ويعيشون مصاعبه. سيعود المخرج للصبي شافي وأخته سميرة لاحقاً بعد أن يؤسس صورة عامة.

رغبة هذين الولدين هي ترك بنغلاديش في محاولة للقاء والديهما اللذين كانا قد هاجرا إلى ماليزيا. ليس هناك كثيراً لتداوله حول ظروف ما قبل قرارهما بالهجرة، لكن الحكاية تنتهي بهما وقد وجدا نفسيهما في تايلاند. على ذلك، يلتقي هذا المنهج مع حقيقة أن الشخصيات المحيطة تهاجر من دون القدرة على اتخاذ قرارات صائبة. في عموم الفيلم، هم آملون بمستقبل أفضل في عالم لا أمل فيه بالنسبة إليهم على الأقل.

★ ضعيف | ★★: وسط| ★★★: جيد | ★★★★ جيد جداً | ★★★★★: ممتاز


شهد أمين لـ«الشرق الأوسط»: «هجرة» يكسر نموذج المرأة الواحدة

شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
TT

شهد أمين لـ«الشرق الأوسط»: «هجرة» يكسر نموذج المرأة الواحدة

شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)
شهد أمين في حوار معها من داخل مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)

بين حضور دولي، بدأ مع فيلم «سيدة البحر» عام 2019، وصولاً إلى اختيار فيلمها الجديد «هجرة» لتمثيل السعودية في سباق الأوسكار 2026، تبدو المخرجة السعودية شهد أمين أكثر وضوحاً في صياغة رؤيتها السينمائية، خاصة أن الفيلمين يتقاطعان في السرد النسوي، حيث يقدمان نظرة لأحوال المرأة ومعالجة عميقة لقصصها.

وفي حوار أجرته معها لـ«الشرق الأوسط» من داخل مهرجان البحر الأحمر السينمائي بجدة، حيث يشارك فيلمها في المسابقة الرسمية، جاء السؤال الأول عن هذا التقاطع، لتجيب: «كنتُ واعية تماماً وأنا أعمل على (هجرة)، فأنا لا أريد تكرار نفسي، ولا تقديم فيلم يشبه (سيدة البحر)... أردتُ أن أكتب من نقطة مختلفة، من اللحظة التي نعيشها الآن، ومن السؤال الذي يشغلني شخصياً: ما الذي أريد قوله للعالم اليوم؟».

نساء الأجيال الثلاثة

أمين، التي تقدم في «هجرة» رحلة المرأة السعودية عبر 3 أجيال، تشير إلى انزعاجها من الفكرة الدارجة اليوم حول تصوير «المرأة المعاصرة» بوصفها النسخة الوحيدة الصحيحة، وكأنها جاءت لتُصحّح أخطاء الأجيال السابقة من الأمهات والجدات وكل النساء السابقات، مضيفة: «شعرتُ أن هذه النظرة فيها قدر من النرجسية». وتتابع: «نحن نرى الحياة اليوم من منظور معاصر ومختلف جذرياً، لكن هذا لا يعني أن تفكيرنا هو الصحيح وتفكيرهنّ هو الخطأ... كنتُ أريد أن أعطي حقاً للنساء اللواتي جئن قبلنا».

وتمضي لشرح رؤيتها التي تشكلت في «هجرة» قائلة: «أردتُ أن أقدم أجيال النساء من دون أحكام... نعم، هناك صراع بين الأجيال، لكنه صراع ينتهي بتفاهم، وبإدراك أن اختلافنا طبيعي وليس تهديداً. اليوم، العالم كلّه يضغط ليجعلنا نموذجاً واحداً، وفكرة واحدة... بمعنى: إذا لم تشبهني فأنت مخطئ أو شرير أو مريض. بينما الحقيقة أننا يمكن أن نختلف، ونظل نتقبّل بعضاً».

فيلم هجرة يتناول العلاقات المتشابكة بين أجيال من النساء (الشرق الأوسط)فيلم «هجرة» يتناول العلاقات المتشابكة بين أجيال من النساء (الشرق الأوسط)

«هجرة»... الحكاية العميقة

حضرت «الشرق الأوسط» عرض فيلم «هجرة» في المهرجان، حيث شهد إقبالاً كبيراً وبيعت التذاكر بالكامل، والفيلم الذي يأتي من بطولة خيرية نظمي ونواف الظفيري والوجه الصاعد لمار فادن، تعود قصته لعام 2001، حين تقرر الجدة اصطحاب اثنتين من حفيداتها لأداء فريضة الحج، وبعد أن تتوه واحدة منهما، تقرر الجدة في لحظة صعبة أن تترك الحج وتبحث عن حفيدتها الضائعة، وخلال الرحلة يتكشف الكثير من الأسرار.

شهد أمين حرصت على إظهار واقعية العلاقة الإنسانية بين الجدة والحفيدة، بعيداً عن الحوارات المطولة والتعابير المبالغ بها، حيث برزت لغة العيون والإيماءات بشكل أكبر في أداء كل شخصية، كما أظهرت تفاصيل ما يحدث حول رحلة الحج ذاتها، والشخصيات الهامشية التي تعيش على بيع السبح وماء زمزم وتوصيل الحجاج، والطقوس التي تعصف بالمكان في تلك الفترة الغنيّة بالقصص والأحداث، ما يجعله فيلماً ينحاز للعمق وصدق التجربة.

الأوسكار... الواقعية قبل الحلم

وبواقعية شديدة، تجيب أمين حول سؤالها عن فرص فيلم «هجرة» في الوصول إلى القائمة القصيرة ومن ثم النهائية للأوسكار، قائلة، «دعينا نقول إن الوصول إلى القائمة القصيرة هو الخطوة الأهم... وبصراحة، كل مخرج يكون لديه قدر من التفاؤل في هذه المرحلة، لكن يجب أن نكون واقعيّين؛ لأن الوصول إلى الأوسكار لا يعتمد فقط على جودة الفيلم، بل يحتاج أيضاً إلى حملة إعلامية ضخمة في لوس أنجليس».

وتستكمل حديثها: «نتمنى الوصول إلى القائمة القصيرة، لكني أرى أن الوصول إلى القائمة النهائية صعب جداً... ومع ذلك، لم لا؟ نقول إن شاء الله... في هذا العام أفلام عربية جميلة وقوية، وجودتها عالية، وأتوقع أن يصل أحدها إلى الأوسكار... نتمنى أن نكون نحن، لكن قد يكون فيلماً عربياً آخر، لا أحد يعلم!».

أحدث جلسة تصوير لشهد أمين في مهرجان البحر الأحمر (المهرجان)

أفلام المهرجانات أم السينما التجارية؟

ولأن أفلام شهد أمين دائماً حاضرة في المهرجانات السينمائية بخلاف دور العرض التجارية، تحتم علينا سؤالها إن كانت مخرجة لأفلام المهرجانات، لترد: «بصراحة، نعم. أفلامي تُصنَّف عادة ضمن أفلام المهرجانات، صحيح أن (سيدة البحر) عُرض في صالات السينما، لكن حضوره كان أفضل في المهرجانات».

وترى أمين أن هناك فرقاً كبيراً بين أفلام شباك التذاكر والأفلام التي تُقدَّم للمهرجانات، وعن ذلك تقول: «الأفلام التجارية تستهدف السوق مباشرة، وتُبنى على فورمات معروفة تشبه ما اعتدنا عليه في السينما الأميركية أو نوع الأفلام الخفيفة التي يعرف الجمهور شكلها مسبقاً، بحيث يدخل المشاهد الفيلم وهو يعرف تقريباً الإيقاع المتوقع، والنهاية المحتملة، والمشاعر التي سيخرج بها».

وتضيف: «أفلام المهرجانات شيء آخر... فهي أفلام تحاول أن تأخذ الجمهور في رحلة مختلفة، بتجربة بصرية أو سردية غير مألوفة. ليست مصممة لاسترضاء الجميع، وقد لا تحظى بقبول واسع، لكنها دائماً تحمل طبقات وعمقاً وتجريباً أكبر من الأفلام التجارية، ولهذا السبب نجد المهرجانات تبحث عن هذا النوع من الأعمال؛ لأنها تضيف صوتاً جديداً وشكلاً جديداً للسينما».

وبالسؤال عن طرح «هجرة» في صالات السينما السعودية، تكشف أمين عن أن الموعد «قريب جداً»، وقد يكون «في مطلع عام 2026 تقريباً»، لكنها تؤكد أن القرار يعود للموزّعين والمنتجين. وتضيف: «الحلم الحقيقي لأي صانع أفلام هو تحقيق المعادلة الصعبة: فيلم يحمل عمقاً فكرياً وشاعرية، وفي الوقت نفسه يمنح الجمهور تجربة ممتعة ومؤثرة... إذا نجح (هجرة) في ذلك فسأكون ممتنّة جداً».

المخرجة العربية... خارج القوالب

وعند الحديث عن حضور المخرجات العربيات، من هيفاء المنصور إلى كوثر بن هنية ونادين لبكي وشيرين دعيبس، في المهرجانات الدولية، ترى أمين أن الصورة أكثر تعقيداً مما يبدو، قائلة: «في الغرب، وخصوصاً في أميركا، تعمل المخرجات غالباً في مساحة السينما المستقلة؛ لأن السينما التجارية ما زالت ذكورية... القصص يكتبها رجال، ويُنتجها رجال، وتُساق ضمن قوالب مألوفة».

وتشير إلى أن السينما المستقلة تمنح المخرجات مساحة أكبر لتقديم رؤية مختلفة، مضيفة: «في العالم العربي اليوم، عدد المخرجات الشابات أكبر من عدد المخرجين، ولهذا نراهن كثيراً في المهرجانات العالمية... البعض يظن أن وجود المرأة في هذه المنصات هو مجرد (مجاملة)، وهذا غير صحيح إطلاقاً... كل الأسماء التي نراها - من الخليج إلى شمال أفريقيا - قدّمت أفلاماً تستحق مكانتها».

وتختم المخرجة شهد أمين حديثها بالقول: «دائماً ما يُسألني الناس: ما الصعوبات التي واجهتها لأنك امرأة؟ الحقيقة أن المخرجات السعوديات والعربيات اليوم أكثر حضوراً من نظيراتهن في أوروبا... وأنا فخورة جداً بذلك».