لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟

الكاتب والصحافي مالكولم غلادويل يمنح معنى مختلفا لقصة «ديفيد وغولايث»

لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟
TT

لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟

لماذا ينتصر الضعيف على القوي؟

يندفع الراعي ديفيد (داود) باتجاه المقاتل الضخم غولايث (جالوت). بخفة وسرعة يقذف ديفيد الحجر الذي أصاب المقاتل في مقدمة الرأس. يسقط غولايث بعد أن أصيب بالدوار. قبل أن يستوعب ما حدث له ينقض عليه الراعي الصغير. يسحب منه سيفه بسرعة ويجز رأسه ويعلن انتصاره. هذه باختصار تفاصيل القصة الدينية الشهيرة التي تحمل رمزية واضحة: انتصار الضعفاء على الأقوياء.. انتصار العدل حتى لو كان ضعيفا على الظلم حتى لو كان قويا.
لكن الصحافي والكاتب الشهير مالكولم غلادويل يرى في كتابه الصادر حديثا الذي يحمل عنوان «ديفيد وغولايث» القصة من زاوية مختلفة. ديفيد لم يكن ضعيفا تماما كما نتصور، وغولايث لم يكن قويا بتلك الصورة التي نتخيل. مع وجود العون الإلهي، فإن الراعي الشاب استغل أيضا نقاط ضعفه وحولها إلى قوة. أولا، اختار نمطا جديدا للمقاتلة يعتمد على المباغتة، والذي يختلف عن الطريقة التقليدية الشائعة وهي تشابك الخصمين. كان يدرك أن تشابكه مع ذلك المقاتل الضخم يعني موته المحتم. هذا هو الخطأ الذي وقع فيه غولايث الذي توقع المعتاد فأصيب بالمفاجأة. ثانيا ديفيد رفض أن يرتدي الخوذة والدروع النحاسية التي كانت ستعوق وتثقل حركته، لأنه فكر باستراتيجية مختلفة تماما. ثالثا ديفيد كان ماهرا في استخدام المقلاع الذي جعل منه سلاحا فتاكا ومميتا. غولايث بدوره كان تقليديا لكنه أيضا كان يعاني من ثقل في الحركة واضطراب في الرؤية. لهذا عندما رأى ديفيد ظن مخطئا أنه يحمل سيفا.
هدف الكاتب من رؤيته الجديدة والمختلفة للقصة رمزي أيضا: الضعفاء ينتصرون على الأقوياء إذا عرفوا كيف يستغلون نقاط ضعفهم. «الأقوياء» لا تعني فقط الخصوم في المعركة، بل الظروف القاهرة والمشاكل الصحية، والمستويات المادية المتدنية، والفصول الدراسية المزدحمة، وغيرها. كل هذه الحالات التي ربما نراها كعقبات أمام نجاحنا ربما تكون أحد مصادر قوتنا التي لا ندركها لأول وهلة.
بأسلوبه الصحافي المشوق يسرد العديد من القصص التي تؤكد مرة بعد أخرى على وجاهة فكرته. في ما يخص عالم المال، يذكر قصة أحد أشهر رجال الأعمال الناجحين في هوليوود، الذي دفعته ظروفه الصعبة في الطفولة إلى إلهابه بالطموح لتكوين ثروة هائلة. عندما كان صغيرا كان أباه يأتي بفواتير الكهرباء مرتفعة الثمن ويهزها أمام وجهه قائلا له «عندما تخرج من البيت تترك نور غرفتك شغالا، نحن ندفع الآن ثمن كسلك!». في مرة أخرى دعاه الأب للعمل معه في مهنته الشاقة التي تتطلب جهدا بدنيا كبيرا. العمل كان مرهقا ومتعبا ومقرفا. يقول عنه «كرهته جدا.. لكن أبي تعمد أن يجعلني أعيش هذه التجربة القاسية لأنه لا يريدني أن أعيش هكذا طيلة عمري». هذه الظروف الصعبة والحالة الفقيرة، تحولت من مانع إلى دافع. زرعت في الطفل الصغير الرغبة الجامحة في النجاح المادي مهما كان الثمن. قام بالمتاجرة في عمر صغير جدا. استمرت معه هذه العزيمة طوال عمره ودفعته ليكون أكثر الرجال ثراء. ولكن بعد ذلك وقعت المعضلة وهي: هو عاجز تماما عن خلق هذا الحافز داخل أولاده الذين يدركون أن أباهم يملك ثروة طائلة، لهذا لا يملكون الطموح ولا العزيمة ولا الصبر الذي يملكه هو. يقول «لا يمكنني أن أفعل كأبي وأهز فواتير الكهرباء أمام وجوههم. هذا غير منطقي إذا كانوا يرون سيارات الـ(لامبورغيني) مركونة في الجراج!». من هنا يلمس الكاتب بذكاء فكرته الرئيسة. هو الضعيف الذي قهر الظروف الأقوى منه، وأولاده الأقوياء الذين ستخنقهم الظروف المريحة. تنطبق هذه الفكرة على أولاد المهاجرين. الآباء يعملون بكد ويحققون ثروة كبيرة، والأولاد يصابون بالدلع والكسل ويبرعون في شيء واحد فقط وهو: تبديد هذه الثروة!
الكثيرون يعتقدون أن قلة عدد الطلاب في الفصل الدراسي أفضل من الفصول المزدحمة قليلا. يقول الكاتب إن هذه القناعة التي صدقها الآباء لدرجة الهوس غير صحيحة. الفصول التي تضم عددا قليلا من الطلاب لا تختلف عن الفصول المكتظة التي فيها 40 طالبا أو أكثر. أفضل الفصول هي التي تضم تقريبا 20 طالبا، أقل قليلا أو أكثر قليلا. لكن لماذا؟! في الفصول المكتظة لا يمنح المعلم الطالب الاهتمام الكافي، ولكن في الفصول الصغيرة يجد المعلم والمعلمة صعوبة أيضا في تقسيم الطلاب إلى مجموعات مختلفة كل مرة، وتضعف القدرة على البدء بحوارات علمية وثقافية تنعش مخيلة الطلاب الصغار، والسبب كما يقول أحد المعلمين «في الفصول الصغيرة يتصرف الطلاب كالأشقاء في المقعد الخلفي من مؤخرة السيارة. ببساطة، ليس هناك أي طريقة لتبعد الأولاد المشاكسين عن بعضهم». معلم آخر يقول إنه كان لديه فصل بتسعة طلاب فقط وكان ذلك أشبه بالكابوس. الحوارات لا تنتعش بسهولة في المجموعة الصغيرة من الطلاب، ومن الصعوبة القيام بألعاب بهدف التدرب على الكلمات والقواعد. كل هذا لا تجده في الفصول متوسطة العدد، فمن السهل تكوين مجموعات، والنقاشات تقدح بسرعة. وهناك سبب آخر مهم وهو أنه في الفصل متوسط العدد من المهم أن يعيش الطالب بين مجموعة من الطلاب لديهم نفس المعاناة والقلق من المواد الدراسية، لأن ذلك سيبعده عن الإحساس بالعزلة. أضف إلى ذلك أن عددا كبيرا من الطلاب سيطرحون باستمرار الأسئلة نفسها التي يواجه هو نفسه مشاكل معها، مما سيساعده في تحصيله العلمي. يستطيع الطالب في الفصل متوسط العدد - الضعيف في هذه الحالة - أن يتعلم أكثر من الفصل منخفض العدد - القوي في هذه الحالة - الذي ربما يضر الطلاب ويعزلهم أكثر مما ينفعهم.
لكن ماذا عن البعض ممن لديهم حالات صحية تعوقهم عن النجاح؟ يقول المؤلف إن هذا الوضع الضعيف قد يكون السبب الرئيس لنجاحهم وتفوقهم. يسمي العلماء هذه الحالة بـ«الصعوبات المرغوبة». ماذا يعني هذا؟ العديد من القصص تشرح ذلك. في واحدة من هذه القصص كان هناك شاب يعاني من عسر القراءة. المصابون بعسر القراءة ينسون أول الجملة إذا وصلوا لنهايتها، لذا فإن استيعاب ما يقرأون مسألة شديدة الصعوبة. قرر هذا الشاب بعد نهاية الدراسة الثانوية أن يشتغل كعامل بناء، ولكن بعد أن قدم ابنه الأول قرر أن عليه أن يلتحق بالتعليم العالي ليصبح محاميا ويكسب المزيد من المال لدعم عائلته. لكن كيف يمكنه أن ينجح في مواده الدراسية وهو عاجز تماما عن قراءتها؟ لم يكن أمامه إلا استراتيجية واحدة وهي أن يطور بقدر ما يستطيع مهارة السمع والقدرة على التذكر. بينما كان زملاؤه في الفصل الدراسي مشغولين بتسجيل بعض النقاط المهمة التي يضيع منهم بعضها بسبب انشغالهم في الكتابة، كان هو يستمع بإنصات شديد ويحاول بقدر ما يستطيع الاستيعاب. قبل الاختبارات كان يجلس مع أحد زملائه الذي يسرد له أبرز النقاط المتوقعة في الاختبار، بينما يكون هو غارقا في حالة من الصمت والاستماع المركز. نجحت استراتيجيته واستطاع أن يتجاوز الدراسة ويصبح اليوم أحد أشهر وأنجح المحامين المختصين في الدعاوى القضائية. قدرة الاستماع المذهلة والذاكرة الفولاذية التي طورها في دراسته ساعدتاه في نقاشاته مع المحامين الآخرين وفي استنطاق الشهود واقتناص الاعترافات. عسر القراءة تحول إلى الصعوبة المرغوبة التي دفعته ليضغط على نفسه ويخرج بحل ناجح لمشكلته.
شاب آخر كانت لديه المعضلة نفسها. بدل أن يطور القدرة على الاستماع طور القدرة على الإقناع. عقب أغلب الاختبارات التي يأخذ فيها درجة متدنية بسبب عدم قدرته على القراءة، يذهب ليجتمع مع الأساتذة محاولا إقناعهم بوجهة نظره وصوابية إجاباته. مع الوقت تطورت مهارة الإقناع لديه بشكل لافت واستطاع بعد جدل طويل مع الأساتذة أن يغير غالبية درجاته. الـF يحولها إلى D، والـD إلى C، والـC يحولها إلى B، وهكذا. هذه القدرة الفائقة على الجدل والإقناع ساعدته ليس في التخرج في الجامعة فقط ولكن جعلته اليوم واحدا من أكبر المنتجين في هوليوود. ذكرتني ملكة التفاوض والإقناع عند هذا الرجل بقدرة كبار وكبيرات السن في السعودية (على الأرجح هذا موجود في بلدان عديدة) على التفاوض وكسر الأسعار عندما يتعلق الأمر بالبيع والشراء. لا يظهرون أي ضعف عاطفي نحو السلعة التي يرغبون في شرائها حتى لا يستغله البائع كورقة للضغط عليهم، بل يتركونه في حالة جهل تام بنواياهم. لديهم قدرة كبيرة على التفاوض والأخذ والعطاء وكسر الأسعار والخروج بأفضل الصفقات. أعصابهم فولاذية، والنقاش يمكن أن يستمر لوقت طويل حتى لو كان الخلاف على ربع أو نصف ريال سعودي. لكن المسألة لا تتعلق بحجم بالمال ولكن بحق التفاوض والجدل نفسه. لكن من أين أتت هذه المهارة والقدرة المثيرة للإعجاب؟ لو طبقنا نظرية الكاتب يمكن أن نخرج بإجابة منطقية بعض الشيء، وهي أن الظروف الحياتية الصعبة التي عاشوها في صغرهم أجبرتهم على اكتساب هذه القدرة كأداة للصراع والبقاء ومن أجل توفير القليل الذي يعني الكثير بالنسبة لهم. مع مرور الوقت، تغلغلت هذه الملكة داخلهم حتى اندمجت في نسيج شخصياتهم. هذا التحليل يفسر لماذا لا يملك أبناؤهم أو أحفادهم القدرة ذاتها. الظروف المعيشية الأفضل لم تجبرهم لاكتساب هذه المهارة الضرورية، فأصبح من السهل على البائعين الجشعين أن يفترسوهم بسهولة.
يسرد الكاتب عددا من الحالات والقصص التي تؤكد مرة أخرى على منطقية فكرته الرئيسة. في الرياضة يذكر المؤلف قصة فريق ضعيف المستوى في كرة السلة تحول لأقوى الفرق بعد أن حول ضعفه لقوة. اختار مدرب الفريق أن يستخدم طريقة كرة القدم للعب السلة. في لعبة كرة السلة يمنح اللاعب المساحة الكبيرة والوقت الكافي حتى يتحرك ويقذف بالكرة، لكن المدرب طلب من اللاعبات أن يلاحقن ويحاصرن أي لاعب يمسك بالكرة، كما يفعل لاعبو كرة القدم، ويضيقن عليه حتى يخطأ في التصويب أو التمرير. نجحت الخطة ونجح الفريق في تخطي فرق أخرى رفيعة المستوى. في الفن يعود الكاتب إلى قصة الرسامين الانطباعيين في باريس في منتصف القرن الثامن عشر الذين رفضت أعمالهم من قبل الصالون الرسمي الذي كان يحدد معايير الفن الجيد والمحترم. بعد نقاشات طويلة في ما بينهم قرروا أن يعلقوا لوحاتهم في مبنى آخر، وبعدها اشتهرت أعمالهم. يقول الكاتب إن هؤلاء الفنانين فشلوا في الانتشار عندما فكروا بطريقة أن يكونوا «أسماكا صغيرة في أحواض كبيرة»، ونجحوا عندما قلبوا المعادلة، أي أصبحوا «أسماكا كبيرة في أحواض صغيرة»، لأنهم لفتوا انتباه الكثير من محبي الفن لأعمالهم المجهولة سابقا. بدا تصرفهم في البداية هزيمة وضعفا، لكنه تحول إلى أقوى مصادر قوتهم.
رسالة الكتاب لمن يعتقد أنه ضعيف وعاجز هي: لا أحد ضعيف إذا عرف كيف ينظر إلى مصادر عجزه ويحولها إلى مصادر قوته. أما الرسالة الموجهة للأقوياء فهي: حذار من القوة فقد تكون الحبل الذي يلتف على رقابكم!

«ديفيد وغولايث»
المؤلف: مالكولم غلادويل



أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
TT

أوانٍ فخارية من مدافن دار كليب الأثرية في البحرين

قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية
قطع فخارية من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة مصدرها موقع مدافن دار كليب في المحافظة الشمالية

تحوي مملكة البحرين سلسلة من المقابر الأثرية، تُعرف باسم «تلال مدافن دلمون»، سُجلت ضمن قائمة التراث العالمي التابعة لـ«منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة» (اليونيسكو) في صيف 2019. تضم هذه السلسلة في الواقع مجموعات عدة من المدافن، منها مجموعة تقع في أقصى جنوب مدينة حمد، وتجاور قرية دار كليب التي تبعد عن المنامة نحو 25 كيلومتراً. بدأ استكشاف «مدافن دار كليب» في عام 1965، حيث عمد باحثان يعملان لحساب «شركة نفط البحرين» (بابكو) إلى إجراء أول أعمال المسح فيه. وصل هذا الخبر إلى البعثة الدنماركية التي كانت تعمل في هذه الناحية من الخليج خلال تلك الفترة، فباشرت دراسة الموقع بشكل معمّق. توالت مواسم التنقيب خلال العقود التالية، وأدت إلى الكشف عن مجموعات متنوعة من اللقى، منها مجموعة من الأواني الفخارية تعود إلى حقب متلاحقة من الزمن.

تحمل «تلال مدافن دلمون» اسم إقليم برز شرق الجزيرة العربية خلال الألفية الثالثة قبل الميلاد، كما تشهد المصادر السومرية، وكانت جزيرة البحرين حاضرة من حواضر هذا الإقليم الوسيط الذي شكل حلقة وصل بين بلدان الشرق القديم، الأوسط والأدنى. خرج من هذه المدافن عدد كبير من القطع الفخارية تعكس هذه التعددية، منها مجموعة من القطع مصدرها حقل «مدافن دار كليب» الذي يمثّل كما يبدو الطور الأخير من تلك الحقبة الغنية. تبرز في هذا الميدان بضع أوانٍ تتميز بحلل زخرفية تبدو غير مألوفة في محيطها، منها آنية على شكل زهريّة من الحجم الصغير، كشفت عنها بعثة محليّة في منتصف تسعينات القرن الماضي، وهي اليوم من محفوظات متحف البحرين الوطني بالمنامة. يبلغ طول هذه الزهرية المخروطية 12 سنتيمتراً، وعرضها 9 سنتيمترات، وهي من نتاج القرنين الأخيرين من الألفية الثانية قبل الميلاد، كما يؤكّد أهل الاختصاص، وتكوينها بسيط، ويغلب عليه اللون العسلي المائل إلى الأخضر الزيتي.

تُزين القسم الأعلى من هذه الزهرية شبكة من الخطوط الأفقية الدائرية، تحوي في وسطها خطاً متعرّجاً. خُطت هذه الشبكة باللون الأسود، وتقابلها شبكة مشابهة مختزلة تزيّن القسم الأسفل منها. بين هاتين الشبكتين، تحضر شبكة عريضة تحتلّ القسم الأوسط، وقوامها زخرفة نباتية متناسقة تعتمد طرازاً مكرّساً، يُعرف في قاموس الفنون باسم «بيبال»، أي شجرة التين الهندسية المقدسة. خطّت هذه الزخرفة النباتية كذلك باللون الأسود، وتتشكّل من أربعة أغصان أفقية تحمل أطرافها سلسلة من الأوراق اللوزية المرصوصة بشكل تعادلي في بناء محكم، وفقاً لنسق فني اعتُمد بشكل واسع في المناطق الشمالية الغربية من جنوب آسيا، وبات من خصائص حضارة وادي السند التي توهّجت على مدى قرون من الزمن، وبلغت نواحي عديدة من الشرق الأدنى وجنوب آسيا.

تبدو زهرية دار كليب على الأرجح من نتاج وادي السند، وتشهد للروابط الثقافية المتواصلة التي جمعت بين هذا الوادي وإقليم دلمون. لا نجد ما يماثل هذه الآنية في هذا الميراث، غير أننا نقع على قطعة تشابهها بشكل كبير، مصدرها المناطق الشرقية من المملكة العربية السعودية، وهي قطعة شبه مجهولة، قدّمت عالمة الآثار غرايس بوركهولدر تعريفاً بها ضمن كتاب لها صدر عام 1984، تناول مجموعة من اللقى الأثرية تمّ اكتشافها في هذه المناطق الشرقية.

خرجت من مدافن دار كليب كذلك مجموعة من القطع الفخارية تعود إلى الحقبة التي أطلق فيها المستكشفون الإغريقيون على جزيرة البحرين اسم تايلوس، وهي الحقبة التي تمتد من القرن الثالث قبل الميلاد إلى فترة دخول الإسلام. تُشكّل هذه القطع مجموعة من مجموعات مشابهة خرجت من المدافن المجاورة، وتحوي قطعاً تتفرّد في بعض الأحيان في تكوينها، منها قطعة من الفخار المزجّج، عُثر عليها خلال حملة محليّة تمّت بين عام 1993 وعام 1994، وهي من محفوظات المتحف الوطني بالمنامة.

صُنعت هذه الآنية بين القرن الأول والقرن الثاني للميلاد على الأرجح، وفقاً لتقنية نشأت قديماً في جنوب بلاد ما بين النهرين، وهي على شكل جرة لها عنق طويل، طولها 32.5 سنتيمتراً، وعرضها 22 سنتيمتراً. تشابه هذه الجرة في تكوينها العام جرة معاصرة لها خرجت من الموقع نفسه، وتتميّز بعروة على شكل مجسّم حيواني، تحل مكان العروة التقليدية المجرّدة من أي شكل تصويري. يصعب تحديد نوعية هذه البهيمة، والأرجح أنها تمثل كبشاً ذا قرنين مستديرين، وتشكّل امتداداً لتقليد قديم، تبدو شواهده محدودة في هذه الناحية من الجزيرة العربية.

يحضر هذا الكبش في قالب جامد تغيب عنه أي حركة ظاهرة، وتبدو قوائمه الأربع ثابتة في وضعية واحدة ثابتة، يغلب عليها طابع التحوير والتجريد. يتبع تكوين رأس هذه البهيمة هذا النسق، ويتميّز بقرنين عريضين صيغا على شكل هلالين متوازيين.


آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
TT

آخر ما قاله سعد الله ونوس عن «الخفقة السوداء في الرأس»

سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم
سعد الله ونوس كما بدا في الفيلم

مصعد المستشفى لا يكفّ عن الرنين، بينما المرضى وزوارهم يخرجون ويدخلون إليه. الممرات أشبه بنفق معتم. أطباء يعاينون صورة شعاعية، قبل أن تظهر لنا الكاميرا سعد الله ونوس على سرير المرض شاحباً، متعباً، هزيلاً، وقد فقد شعره، يتناول الدواء من يد شخص إلى جانبه، وتثبّت الممرضة إبرة المصل في ذراعه.

هكذا يبدأ «الوثائقي» المعنون: «هناك أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء»، الذي صوره المخرج عمر أميرالاي، مع صديقه الكاتب المسرحي سعد الله ونوس، قبل فترة قصيرة من وفاته يوم 15 مايو (أيار) 1997، وعرض يوم 28/11، في سينما متروبوليس ببيروت.الكلمة الأخيرةالفيلم بمثابة وصية، أو لنقل الكلمة الأخيرة التي تركها لنا هذا الكاتب الكبير بنصوصه كما بانخراطه الكامل في القضايا التي أحاطت به. منذ البدء يصارح أميرالاي سعد الله ونوس، الواقف «على حافة تخوم رجراجة بين الحياة والموت»، أنه جاءه ليستنطقه كشاهد على مرحلة «لتكون لسان حال جيلنا في هذا الصراع».

الفيلم سجل بعد اتفاق أوسلو، ونوس متوجس مما سيأتي، مزاجه جنائزي، ليس فقط بسبب المرض، بل بسبب الحالة العامة أيضاً. ثمة شرطان للسلام لم يتحققا بالنسبة لسعد الله ونوس. أن يحصل تغيير جوهري وجذري في البنى الاجتماعية والسياسية في إسرائيل. وأن يحصل الشيء نفسه في البلاد العربية من جهة أخرى. عندها التاريخ قد يجبرنا وتحت وطأة اليأس على التغيير والتجدد. نكبة 1948 «أقولها حرفياً إن إسرائيل سرقت السنوات الجميلة من عمري، وأفسدت على إنسان عاش خمسين عاماً، مثلاً، الكثير من الفرح، والكثير من الإمكانات»، يقول ونوس في مطلع الفيلم الذي عرض في سينما «متروبوليس» في بيروت قبل أيام، إلى جانب فيلم آخر «إلِيبسِس» للمخرجة ساندرا إيشيه تتحاور فيه مع عمر أميرالاي ضمن فعالية «حواران على أهبة الموت» لـ«سينماتك بيروت».

مات «رائد المسرح السياسي»، سعد الله ونوس بعد صراع طويل مع سرطان في البلعوم كان يفترض ألا يمهله أكثر من ستة أشهر بحسب الأطباء، لكنه بقوة الكتابة تمكن من المقاومة خمس سنوات. ومن حسن حظنا أنها كانت من أغزر فترات حياته إبداعاً، كتب خلالها أروع مسرحياته، وشارك في هذا «الوثائقي» البديع الذي تحدث خلاله عن العلاقة العضوية التي ربطته بالقضية الفلسطينية، وأحداث المنطقة كيف عاشها بروحه وضميره ووجدانه، حتى لتشعر وهو يتحدث أن المآسي التي مرّت نهشت جسده، حتى أودت به، وهذا ما يعتقده هو نفسه.

عمر أميرالاي

أميرالاي الساخر حد البكاء بقدر ما يبدو سعد الله ونوس حزيناً ومكفهراً، نرى صديقه عمر أميرالاي حين تحاوره المخرجة الفرنسية، في الفيلم الثاني، ساخراً هزلياً بمرارة، حتى تختلط الدموع بالقهقهات. ويجيب على الأسئلة باعتباره يعيش في عام 2030 خاصة وأن كل التوقعات في الخمسين سنة الماضية، حصلت، ولم يعد من مكان للخيال. لقد أصبح كل شيء واقعاً، وما سيحدث غداً نعرفه اليوم. فهو كسوري - كما يقول - يعيش خارج الزمان والمكان. والسوريون واللبنانيون يتقاسمون الشيء نفسه. فهما توأمان سياميان لا يوجد جرّاح يمكنه أن يفصل مصير أحدهما عن الآخر، المقرون بـ«اليأس».

«أشياء كثيرة كان يمكن أن يتحدث عنها المرء» (1997) يكتسب أهميته من حيث أنه اختصار لوجع جيل كامل في ساعة سينمائية مكثفة. تبدأ من نكبة 48 حيث فتح ونوس عينيه على قصة شابين من قريته «حسين البحر» تطوعاً في جيش الإنقاذ، ليحررا فلسطين من الذين جاءوا ليحتلوها. كان ترقّب مغمّس بالرهبة والخوف على مصيرهما. لكن الشعور تطور بمرور السنوات: «كنا نكبر وتكبر القضية معنا».

يسير الفيلم على وقع نقاط المصل وصوتها وهي تتدحرج ببطء إلى عروق ونوس. «كنا بلاداً فقيرة» لكن مع كل الهموم اليومية الكثيرة «كنا نحمل هموم القضية وتحولاتها على كواهلنا النحيلة، المتعبة».هزيمة 1967 لحظة حاسمة بعد أن استقر في الأذهان عبر سنوات الكذب والتدجيل أن نكبة 1948 كانت نتيجة الخيانة والأسلحة الفاسدة، وأنها لم تكن أبداً بسبب ضعف القدرة القتالية عند الجندي العربي. «زرعوا في أذهاننا أن مسألة هزيمة إسرائيل هي مسألة ممكنة، في أي لحظة».لذلك جاءت هزيمة 67 مدويّة. «لم أتصور أن القوات العربية في مصر بالذات، وكذلك في سوريا هي من الضعف والتفكك إلى الحد الذي بدت فيه خلال الأيام الستة». وعدت الأنظمة العربية بأنها ستحمي الوطن وأنها المؤهلة للقتال، ولم تفعل شيئاً إلا مراكمة الهزائم.

البكاء مع بلوغ النهاية مشاهد استسلام الجنود كانت مؤلمة. «الصدمة حادة وعنيفة، إذ أحس الجميع أنهم مطعونون بكبريائهم، أنهم مهانون حتى العظم». مشاهد تتخلل المقابلة، منها الأطفال المشردون في الخيام، يأكلون الخبز اليابس مع الشاي، عبد الناصر يعترف بمسؤوليته بعد الهزيمة ويتنحى، جنود إسرائيليون يقصفون بالطائرات، جنود عرب يستسلمون. تتالى المشاهد التي تدعو كلها لمزيد من الانكسار.يكاشفنا ونوس وكأنما يستعيد اللحظة حية. عندما تأكدت الهزيمة «شعرت أنني سأموت في تلك اللحظة، شعرت أنني أختنق.» بكى وبكى، وشعر أنها النهاية. وأن عمراً قد انتهى، وأن التاريخ قد توقف، وأن وجوده قد انطوى.

أهمية حرب 73 أنها كشفت بعد هزيمة ساحقة، أن إسرائيل ليست حصناً منيعاً لا يمكن مسّه، وليست تلك الدولة غير القابلة لأن تجرح وتخسر معارك. «لذلك صفقنا كثيراً. عندما قامت حرب 1973. مجرد شعورنا بأن جنودنا يستطيعون أن يقاتلوا، أعاد لنا شيئاً من الثقة المضعضعة والمعدومة بالذات».

لكن هذه الحرب، من ناحية أخرى، في رأي ونوس، أجهضت الفوران المبشّر بعد 67، وربما أنها كانت في ذهن بعض من شاركوا فيها مقدمة لما أتى بعدها.لم يبقَ سوى الانتحارحين زار أنور السادات إسرائيل أصاب ونوس الذهول. جلس وكتب «أنا الجنازة والمشيعون معاً». كان ذلك آخر نص، ومن بعده التزم سعد الله ونوس الصمت. كان متوتراً ولا يستطيع السيطرة على نفسه بعد أن أنهى كتابة ذلك النص. «تناولت حبة النوم، وحاولت أن أخرج من حالتي. بعد ساعتين أو أقل استيقظت أشد توتراً وضيقاً وكانت الظلمة شاملة أمامي. في تلك الليلة أقدمت على محاولة الانتحار الجدية».

في فترة الصمت الطويلة المغمسة بالاكتئاب، أمضى معظم وقته في القراءة والتأمّل، وفي مواجهة أسئلة التاريخ الموجعة، إلى أن أنعشت مشاعره انتفاضة 1989 وحفزته على كسر الصمت. في تلك السنة بدأ يخطط لكتابة مسرحيته «الاغتصاب». لم يكن غريباً أن يكسر صمته بمسرحية تتناول الصراع العربي الإسرائيلي، وتحاول تحليل بنية النخبة الحاكمة في إسرائيل.

عندما راودته فكرة المصالحةنهاية المسرحية، أثارت الجدل، لأنها تضمنت حواراً بينه وبين طبيب نفسي إسرائيلي، يردد طوال المسرحية مقتطفات من سفر إرمية مستنزلاً اللعنات على السياسة العدوانية للنخبة الحاكمة في إسرائيل، والتي لا تؤدي فقط إلى الإجهاز على الفلسطيني، وإنما على تدمير الإنسان اليهودي أيضاً.

يعترف أنه في تلك اللحظة، كان يفتح باباً على الصلح، وأن إسرائيل في مسرحيته لم تعد حُرُم. «مجرد أن أقدم في المسرحية شخصية يهودية إيجابية تحتج على ما يحدث، وعلى ممارسات (الشين بيت) إزاء الفلسطينيين وعمليات التعذيب التي يقومون بها، مجرد أن أقدم شخصية من هذا النوع إنما يحمل في طياته تعاطفاً مع الإسرائيليين».

المشكلة في البلاد العربية أيضاً، بهذه البنى المتخلفة التي لم تحدّث و«تجعل من شعوبها كماً بشرياً مهملاً» حيث لا يجد المواطن أمامه سوى أن «يطأطئ رأسه».

العلاقة بين القصف والسرطانيعتقد سعد الله ونوس أن ثمة علاقة مباشرة بين حرب الخليج التي أجهزت على بقية الآمال الموجودة لدى العرب، وبدء شعوره بالإصابة بالورم أثناء الحرب، وخلال القصف الجوي الوحشي الذي كانت تقوم به الولايات المتحدة الأميركية ضد العراق. ثم جاءت مفاوضات مدريد بعد هزيمة العراق التي يصفها بـ«الاستسلام» لأنها «لا يمكن أن تكون بداية لسلام حقيقي». الاتفاقات التي تمخضت عنها «ما هي إلا فصل من فصول هذه الحرب الدائرة التي يمكن أن تطول بيننا وبين إسرائيل».

إسرائيل غدت حقيقة تاريخية، غير أنه بقراءة متأنية يستنتج أنها لا تملك مقومات الاستمرار، هي مشروع خاسر. «لا حياة لها إلا إذا اندمجت كجزء في الكل، لا كمخفر مهمته أن يدمّر المنطقة، ويجعلها ممرغة باستمرار في الهزيمة والتخلف والتفتت».يسأله أميرالاي: «هل سنموت، وفينا العلة التي اسمها إسرائيل؟»يجيب: «على الأقل بالنسبة لي شخصياً، من المؤكد أن هذا سيحدث».

أميرالاي رحل هو الآخر عام 2011. ولم يشكّ ونوس بأن جيله كله سيمضي و«في رأسه تلوح هذه الخفقة السوداء الشبيهة بعلامة، هي علامة الخيبة التي تذوق مرارتها على مدّ عمره. لأن إسرائيل ستكون باقية حين يذهب جيلنا إلى نهاية حياته».


علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
TT

علماء الآثار يعثرون على حطام سفينة قديمة قبالة الإسكندرية

اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)
اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية (الشرق الأوسط)

أعلن علماء الآثار البحرية، الاثنين، اكتشاف حطام سفينة ترفيهية مصرية قديمة عمرها 2000 عام تحت المياه قبالة سواحل الإسكندرية.

ووفقاً لوكالة الصحافة الفرنسية، عثر غواصون على هيكل السفينة الذي يزيد طوله على 35 متراً وعرضه نحو 7 أمتار، تحت المياه في ميناء جزيرة أنتيرودوس، حسبما أعلن المعهد الأوروبي للآثار البحرية في بيان.

ووجدت على السفينة كتابات يونانية «قد تعود إلى النصف الأول من القرن الأول للميلاد» و«تدعم فرضية أن السفينة بُنيت في الإسكندرية».

وأضاف المعهد ومقره في الإسكندرية أن السفينة «كانت على ما يبدو تضم مقصورة مزينة بشكل فاخر، وكانت تُشغّل بالمجاذيف فقط».

أسس الإسكندر الأكبر مدينة الإسكندرية عام 331 قبل الميلاد. وضربت سلسلة من الزلازل وأمواج المد ساحلها ما أدى إلى غرق جزيرة أنتيرودوس التي اكتُشفت عام 1996.

على مر السنين، عثر الغواصون على تماثيل وعملات معدنية وكنوزاً أخرى في الجزيرة الغارقة، بعضها معروض في المتحف اليوناني الروماني بالإسكندرية.

ونشر مدير المعهد الأوروبي للآثار البحرية فرانك غوديو، مؤخراً، تقريراً عن أنتيرودوس ومعبد إيزيس فيها، استناداً إلى عمليات استكشاف تحت الماء أُجريت منذ تسعينات القرن الماضي.

وأكد المعهد أن الأبحاث المستقبلية حول الحطام المكتشف حديثاً «تبشر برحلة شيقة في حياة مصر الرومانية القديمة وديانتها وثرواتها ومجاريها المائية».

والإسكندرية موطن لآثار قديمة وكنوز تاريخية، لكن ثاني أكبر مدينة في مصر عرضة بشكل خاص لتداعيات تغير المناخ وارتفاع منسوب مياه البحر، إذ تغمرها المياه بأكثر من 3 مليمترات كل عام.

وتقول الأمم المتحدة إنه في أفضل السيناريوهات سيكون ثلث الإسكندرية مغموراً بالمياه أو غير صالح للسكن بحلول 2050.