فرناندو بيسوّا... الكاتب المختبئ وراء أنداده السبعين

المغربي المهدي أخريف يترجم يومياته للعربية

فرناندو بيسوا
فرناندو بيسوا
TT

فرناندو بيسوّا... الكاتب المختبئ وراء أنداده السبعين

فرناندو بيسوا
فرناندو بيسوا

صدرت عن دار توبقال للنشر بالدار البيضاء «يوميات» الشاعر والكاتب البرتغالي فرناندو بيسوّا بترجمة المهدي أخريف الذي سبق له أن ترجم «كتاب اللاطمأنينة» الذي نُشر بعد 47 عاماً من وفاة بيسوّا. ظهرت اليوميات، كما يشير المترجم في مقدمته المُقتضبة، أول مرة باللغة البرتغالية عام 2007 وهي تغطي سنوات مهمة من حياة بيسوّا الدراسية وانشغالاته الأدبية والفكرية خاصة في المرحلة الأولى المحصورة بين عامي 1906 - 1908، أما المرحلة الثانية الممتدة بين الأعوام 1913 - 1915، فهي مرحلة النضج العميق، والقدرة على تحليل الأحداث الشخصية والعامة، والانخراط في الحياة الثقافية، والسياسية، والفلسفية، واضطلاعه بدورٍ رائد في الحداثة الأدبية البرتغالية.
ثمة قصور واضح في عنونة الكتاب، فهو ليس مجرد «يوميات»، وإنما هناك «مُذكّرات شخصية» و«مُخططات سكنيّة وببليوغرافية»، إضافة إلى مسْرد بتأثراته الأدبية التي تبدأ منذ عام 1904 وتنتهي بعام 1913 حينما يستغني عن الجميع بمن فيهم شكسبير وملتون وروسو والنُخبة الأدبية التي كان يمحضها حُباً من نوع خاص.
يحتاج أي مقال عن بيسوّا إلى توضيح التباس القصد فهو لا يكتب بأسماء مُستعارة Pseudonyms وإنما يختبئ وراء شخصيات خيالية مُخترعة أطلق عليها اسم Heteronyms وهي تختلف تماماً عن سابقتها لأن هذه الأخيرة لديها هيئتها المفترضة، وسِيرها الذاتية، وأساليبها الخاصة. ويمكن أن نُطلق عليها عربياً وصف «الأنداد» أو «الأقران السّرييّن» للكاتب، وقد بلغ عددهم في خاتمة المطاف 72 قريناً كما يشير خبيره ومترجم أعماله ريتشارد زينيث، غير أن هناك ثلاث شخصيات نديّة شعرية بارزة وهي ألبرتو كاييرو، وريكاردو ريس وألفارو دي كامبوس. وهناك شخصيتان نديّتان تكتبان النثر وهما برناردو سواريس مؤلف «كتاب اللاطمأنينة» وباراو دي تيفي الذي دبّج كتاب «التربية الرواقية».
لم ينشر بيسوّا خلال حياته القصيرة سوى أربع مجموعات شعرية بالإنجليزية وكتاب واحد باللغة البرتغالية وهو «رسالة»، أما بقية الكتب الشعرية، والنثرية، والنقدية، والفلسفية فقد وزّعها على أنداده السبعين الذين قالوا كل شيء تقريباً من دون خوف أو مراوغة.
قبل أن نلج في تفاصيل هذا الكتاب لا بد من الإشارة إلى أن فرناندو بيسوّا هو شاعر، وناثر، وناقد أدبي، ومترجم، وفيلسوف، ومحلل سياسي لكنه يفضل القول بأنه مترجم ولا يجد حرجاً في إضافة كلمة «تجاري» لأنه كان ينهمك يومياً في ترجمة الرسائل إلى شركات كثيرة خلال العقدين الأخيرين من حياته كي يؤمِّن هاجسي المعيشة والسكن، فقد عاش في خمسة عشر منزلاً متنقلاً من غرفة مُستأجرة إلى أخرى بسبب ضيق ذات اليد. ومع ذلك فقد كانت نزعته الإبداعية الثرّة هي المحفِّز القوي لمواصلة الحياة والاستمتاع بها طالما أنه يعيش حياة حُلمية مفترضة لا تمس الواقع الصادم إلاّ مسّاً خفيفاً.
لم تكن حياة بيسوّا سهلة، منسابة فقد تخللها الكثير من الصعوبات والأحداث المفجعة. فبعد ولادته بخمس سنوات توفي والده متأثراً بمرض التدرّن الرئوي، وبعدها بسنة واحدة مات أخوه الأصغر خورخي وهو لم يجتز عامه الأول. ثم جاء الزواج الثاني لوالدته من ضابط عسكري عُين قنصلاً للبرتغال في دوربان، عاصمة المستعمرة البريطانية السابقة ناتال، الأمر الذي اضطره للالتحاق بوالدته في جنوب أفريقيا ومواصلة تعليمه حيث تألق في دراسته الجامعية ونال جائزة الملكة فيكتوريا التذكارية عن أفضل ورقة بحث تُقدّم باللغة الإنجليزية. وعلى الرغم من تفوقه الدراسي وإحرازه نتائج متقدمة، فإنه لم يوفق في مواصلة دراسته في الحقل الدبلوماسي بعد أن عاد إلى لشبونة عام 1905، كما أن اشتراكه بمظاهرة طلابية ضد رئيس الوزراء البرتغالي جواو فرانكو وضعت حداً لهذا الحلم الدراسي وأجهضته تماماً.
يمكن القول بأن بيسوّا كان قارئاً نهماً في شبابه ومن بين قراءاته المهمة «المنطق» لأرسطو طاليس، «تاريخ الفلسفة» لهيغل، و«نقد العقل الخالص» لإيمانويل كانت، «رحلات شيلد هارولد» لبايرون، «عشية القديسة أغنيس» لكيتس، «الطائش» لموليير، «الوثيقة المختلسة» لإدغار ألن بو وسواها من الكتب الأدبية والفلسفية والثيوصوفية لاحقاً.
تكشف اليوميات عن التناقضات الحادة التي تنطوي عليها شخصية بيسوّا المعقدة، فهو ميّال للعزلة، ويجد ضالته في القراءة والتأمل. وكان يتساءل بحرقة: «لماذا نصفي معارض لنصفي الآخر؟ ونصرُ أحدهما هو هزيمة للآخر» (ص24). فعلى الرغم من عُدّته الفلسفية وقدرته على التحليلإ فإنه كان عاجزاً عن فهم شخصيته الوعرة، المتشابكة الأطراف، وقد يكون الشاعر أوكتافيو باث هو أفضل من شخّص بيسوّا حينما قال: «إنه الكائن المجهول من لدن ذاته»! ولعل إشكالية هذه الشخصية تكمن في حُلُميتها، ونأيها عن الواقع المحسوس فحتى محبوبته الحلوة التي تتجلى أمامه هي من صنع المخيلة المشتعلة التي تجترح علاقة حُب مجنحة قد لا يعرفها الأسوياء فكيف بالمجانين العباقرة الذين يلهثون وراء الأشياء المستحيلة الأقرب إلى السراب؟ لا ينكر بيسوّا جنونه حينما يقول بالفم الملآن: «أنا مجنون جنوناً عسيراً على الفهم» (ص29) ثم يجزم بعد عدة سطور بأنه «محضَ حُلُم» (ص30).
لا شك في أن مذكرات بيسوّا الشخصية هي أشدُّ عمقاً من اليوميات، وأكثر جاذبية منها. فبعد أن توقف عن القراءة الجدية ماعدا الصحف، والقصص المسلية، والأدب الخفيف قال: «إنّ القراءة هي شكل مُستَرَق من أشكال الحُلُم» (ص55) والأغرب من ذلك أنّ بإمكانه أن يعوّض لذّة القراءة بالتواصل مع الطبيعة، ومراقبة الحياة، تماماً مثلما يعوِّض حبيبته الواقعية بعشيقة حُلُمية، ويبدِّل أصحابه الواقعيين بأصدقاء افتراضيين ومع ذلك فلا منجاة من العزلة، ولا خلاص من الإحساس الممضّ بالوحدة الأبدية.
يقترن اسم بيسوّا بالحداثة البرتغالية التي جسّدها عبر ثلاث حركات فنية جمالية بين عامي 1913 - 1915 وهي الباوليّة Paulismo والتقاطعيّة والحسيّة وهي تندرج جميعاً ضمن الحداثة «البيسوّية» دون أن ننسى بأن بيسوّا قد تبنّى المستقبلية كمذهب حداثي يستجيب لرؤيته الفنية والإبداعية.
أفردَ بيسوّا ثلاث صفحات من كتابه للشعراء والأدباء الذين تأثر بهم منذ 1904 وحتى عام 1913 وهي أغزر فترات حياته قراءة، فقد تأثر بجون ملتون وغالبية شعراء الحقبة الرومانسية وهم بايرون، وشيلي، وكيتس، ووردزوورث، وتنيسون، وإدغار ألن بو، وخصوصا بقصصه، وكارليل في النثر. ثم يليهم بودلير، وأنتيرو، وجونكايرو، وسيزاريو بيردي، وخوسيه دورا، وإنريكي روزا. ويمتد هذا التأثر بأنطونيو كارييا دي أوليفيرا وأنطونيو نوبري، كما تأثر بالرمزيين الفرنسيين. يختم بيسوّا تأثره بـSaudosismo وهي حركة أدبية جمالية، دينية وفلسفية ذات طابع وطني ظهرت في البرتغال في الربع الأول من القرن العشرين وتعني «الحنين إلى الماضي» وكانت هذه الحركة قريبة جداً من مجلة آكَيّا A Águia ذات النزعة الحداثية.
أشْعرته هذه التأثرات المتنوعة بأنه كائن متعدد المشارب ينهل معارفه من الجهات الأربع على الرغم من عزلته الفردية التي تحفِّز عالَمه الافتراضي المتخيل، وتدفعه لأن يكون متفرجاً على الحياة دون أن يتورط فيها، ويخوض تجاربها إلى أقصى مدى ممكن.
كتبَ بيسوّا سواء باسمه أو بأسماء أنداده أجناساً أدبية كثيرة كالقصة القصيرة، والرواية، والمسرحية، والشعر، والنقد الأدبي، والمقال السياسي، والبحث الفلسفي، والدراسة الفكرية، كما ترجم الكثير من الكتب من اللغتين الإنجليزية والفرنسية إلى اللغة الإسبانية ليغذّي نزعة الحداثة السائدة آنذاك.


مقالات ذات صلة

كتب شركة ناشئة تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي (أرشيفية)

وسط اعتراض كتّاب ودور نشر… شركة ناشئة تسعى لإنتاج 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي

ينتقد كتّاب وناشرون إحدى الشركات الأميركية الناشئة التي تخطط لنشر ما يصل إلى 8 آلاف كتاب العام المقبل باستخدام الذكاء الاصطناعي.

«الشرق الأوسط» (لندن)
ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور
TT

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

شعراء «الخيام» يقاتلون بالقصائد وشواهد القبور

لم تكن بلدة الخيام، الواقعة على التخوم الشرقية للجنوب اللبناني، مجرد تفصيل هامشي في خارطة جبل عامل، وتاريخه المحكوم بالقلق العاصف وصراعات الدول والمصالح، بل كانت ولا تزال واسطة عقد القرى المحيطة بها، بقدر ما كان لها النصيب الأوفر من كل حرب تقع، أو سلام يتحقق، أو ربيع ينشر ملاءات جماله على الملأ. والأرجح أن الأهمية التي اكتسبتها البلدة عبر الزمن، تتراوح أسبابها بين سحر موقعها الجغرافي، وعراقة تاريخها الحافل بالأحداث، وتعدد القامات الأدبية والشعرية التي أنجبتها البلدة عبر القرون.

ولعل في تسمية الخيام أيضاً، ما يعيد إلى الأذهان منازل العرب الأقدمين، والمساكن التي كانت تقيمها على عجل جيوش الفتوحات، والخيم المؤقتة التي كان الجنوبيون ينصبونها في مواسم الصيف، عند أطراف كروم التين، بهدف تجفيف ثمارها الشهية وادّخارها مؤونة للشتاء البخيل. وإذا كان الدليل على ذلك حاضراً في ذاكرة سهل الخيام المترعة بآلاف الأشجار والنصوب والكروم، فإن الشعر بدوره كان جاهزاً للتحول إلى مدونة كبرى لذلك العالم الزراعي، الذي كادت تطيح به عشوائيات عمرانية مرتجلة وبالغة الفظاظة.

ورغم أن جغرافيا البلدة التي تشبه ظهر الفرس، بهضبتها الطويلة المطلة على الجولان والجليل وجبل حرمون، هي التي أسهمت في تحولها إلى واحدة من أكبر بلدات جبل عامل، فإن هذه الجغرافيا بالذات قد شكلت نعمة الخيام ونقمتها في آن، وهي المتربعة عند المفترقات الأكثر خطورة لخرائط الدول والكيانات السياسية المتناحرة. وفي ظل التصحر المطرد الذي يضرب الكثير من الدول والكيانات المجاورة، تنعم البلدة ومحيطها بالكثير من الينابيع، ومجاري المياه المتحدرة من أحشاء حرمون لتوزع هباتها بالتساوي بين ربوع إبل السقي، التي أخذت اسمها من سقاية الماء، والخيام التي يتفجر عند سفحها الغربي نبع الدردارة، ومرجعيون، أو مرج العيون، التي ترفدها في أزمنة الجدب والقبح بئر من الجمال لا ينضب معينه.

وإذا كانت الشاعريات والسرديات والفنون العظيمة هي ابنة المياه العظيمة، كما يذهب بعض النقاد والباحثين، فإن هذه المقولة تجد مصداقيتها المؤكدة من خلال البلدات الثلاث المتجاورة. إذ ليس من قبيل الصدفة أن تنجب إبل السقي قاصاً متميزاً من طراز سلام الراسي، وتنجب مرجعيون قامات من وزن فؤاد وجورج جرداق وعصام محفوظ ومايكل دبغي ووليد غلمية وإلياس لحود، فيما أنجبت الخيام سلسلة الشعراء المتميزين الذين لم تبدأ حلقاتها الأولى بعبد الحسين صادق وعبد الحسين عبد الله وحبيب صادق وسكنة العبد الله، ولم تنته حلقاتها الأخيرة مع حسن ومحمد وعصام العبد الله وكثيرين غيرهم.

ومع أن شعراء الخيام قد تغذوا من منابت الجمال ذاتها، ولفحهم النسيم إياه بمهبه الرقراق، فإن الثمار التي جنتها مخيلاتهم من حقول المجاز لم تكن من صنف واحد، بل كانت لكل منهم طريقته الخاصة في مقاربة اللغة والشكل والرؤية إلى الأشياء. فحيث جهد عبد الحسين عبد الله، في النصف الأول من القرن المنصرم، في تطعيم القصيدة التقليدية بلمسة خاصة من الطرافة والسخرية المحببة، حرص حبيب صادق على المزاوجة بين المنجز الشعري الحداثي وبين النمط العمودي الخليلي، مع جنوح إلى المحافظة والالتزام بقضايا الإنسان، أملته شخصية الشاعر الرصينة من جهة، وانتماؤه الفكري والسياسي الذي دفعه من جهة أخرى إلى الانصراف عن الكتابة، وتأسيس «المجلس الثقافي للبنان الجنوبي» الذي شكل الحاضنة الأكثر حدباً لكوكبة الشعراء الذين عرفوا في وقت لاحق بشعراء الجنوب اللبناني.

حبيب صادق

لكن الكتابة عن الخيام وشعرائها ومبدعيها يصعب أن تستقيم، دون الوقوف ملياً عند المثلث الإبداعي الذي يتقاسم أطرافه كلُّ من عصام ومحمد وحسن العبد الله. اللافت أن هؤلاء الشعراء الثلاثة لم تجمعهم روابط القرابة والصداقة وحدها، بل جمعهم في الآن ذاته موهبتهم المتوقدة وذكاؤهم اللماح وتعلقهم المفرط بالحياة.

على أن ذلك لم يحل دون مقاربتهم للكتابة من زوايا متغايرة وواضحة التباين. فعصام الذي ولد وعاش في بيروت ودُفن في تربتها بعد رحيله، والذي نظم باللغة الفصحى العديد من قصائده الموزونة، سرعان ما وجد ضالته التعبيرية في القصيدة المحكية، بحيث بدت تجربته مزيجاً متفاوت المقادير من هذه وتلك.

إلا أن الهوى المديني لصاحب «سطر النمل» الذي حوّل مقاهي بيروت إلى مجالس يومية للفكاهة والمنادمة الأليفة، لم يمنعه من النظر إلى العاصمة اللبنانية بوصفها مجمعات ريفية متراصفة، ومدينة متعذرة التحقق. وهو ما يعكسه قوله باللهجة المحكية «ما في مْدينة اسمْها بيروت بيروتْ عنقود الضّيّع». كما أن حنينه الدفين إلى الريف الجنوبي، والخيام في صميمه، ما يلبث أن يظهر بجلاء في قصيدته «جبل عامل» ذات الطابع الحكائي والمشهدية اللافتة، التي يقول في مطلعها: «كان في جبلْ إسمو جبلْ عاملْ راجعْ عبَيتو مْنِ الشغلْ تعبانْ وْكانِ الوقتْ قبل العصرْ بِشْوَيْ بكّيرْ تيصلّي تْمدّدْ عَكرْسي إسمها الخيامْ كتْفو الشمال ارتاح عالجولانْ كتْفو اليمين ارتاحْ عا نيسانْ».

حسن عبد الله

ومع أن الخيام، كمكان بعينه، لا تظهر كثيراً في أعمال محمد العبد الله الشعرية، فهي تظهر بالمقابل خلفية طيفية للكثير من كتاباته، سواء تلك المترعة بعشق الطبيعة وأشجارها وكائناتها، كما في قصيدته «حال الحور»، أو التي تعكس افتتانه بوطن الأرز، الذي لا يكف عن اختراع قياماته كلما أنهكته الحروب المتعاقبة، كما في قصيدته «أغنية» التي يقول فيها:

من الموج للثلج نأتيك يا وطن الساعة الآتية

إننا ننهض الآن من موتك الأوّليّ

لنطلع في شمسك الرائعة

نعانق هذا التراب الذي يشتعلْ

ونسقيه بالدمع والدم يمشي بنسغ الشجرْ

أما حسن عبد الله، الذي آثر حذف أل التعريف من اسمه العائلي، فقد عمل جاهداً على أن يستعيد من خلال شعره، كل تلك الأماكن التي غذت ببريقها البرعمي حواسه الخمس، قبل أن تتضافر في إبعاده عنها إقامته الطويلة في بيروت، والحروب الضروس التي نشبت غير مرة فوق مسقط رأسه بالذات، وحولت عالمه الفردوسي إلى ركام. ورغم أن نتاجه الشعري اقتصر على مجموعات خمس، فقد تمكن حسن أن يجعل من البساطة طريقته الماكرة في الكتابة، وأن يحمل أكثر الصور غرابة وعمقاً، على الكشف عن كنوزها بسلاسة مدهشة أمام القارئ.

وإذ أفاد صاحب «أذكر أنني أحببت» و«راعي الضباب» من فن الرسم الذي امتلك ناصيته بالموهبة المجردة، فقد بدت قصائده بمعظمها أشبه بلوحات متفاوتة الأحجام منتزعة من تربة الخيام وأشجارها وعسل فاكهتها الأم، ومياهها الغائرة في الأعماق. وكما استطاع بدر شاكر السياب أن يحوّل جدول بويب النحيل إلى نهر أسطوري غزير التدفق، فقد نجح حسن عبد الله من جهته في تحويل نبع «الدردارة»، الواقع عند الخاصرة الغربية لبلدته الخيام، إلى بحيرة مترامية الأطراف ومترعة بسحر التخيلات.

وإذا كانت المشيئة الإلهية لم تقدّر لشعراء الخيام أن يعيشوا طويلاً، فإن في شعرهم المشبع بروائح الأرض ونسغها الفولاذي، ما لا يقوى عليه فولاذ المجنزرات الإسرائيلية المحيطة ببلدتهم من كل جانب. وكما يواجه الجنوبيون العدو بما يملكون من العتاد والأجساد، واجهه الشعراء بالقصائد وشواهد القبور ونظرات الغضب المدفونة في الأرض. ومن التخوم القصية لبراري الفقدان، راح حسن عبد الله يهتف ببلدته المثخنة بحراب الأعداء:

تأتي الطائرات وتقصف الصفصاف،

تأتي الطائراتُ ويثْبتُ الولد اليتيمُ

وطابتي في الجوّ والرمان في صُرَر الغيوم،

وتثبتينَ كراية التنّين،

إني مائلٌ شرقاً

وقد أخذ الجنوب يصير مقبرةً بعيدة.