تصدر بعد أيام، رواية جديدة للكاتبة العراقية الزميلة إنعام كجه جي، عن «دار الجديد» في بيروت، تحمل عنوان «النبيذة»، وتروي قصة تاج الملوك، الفتاة الإيرانية التي تقودها الظروف إلى تسفار طويل في بلدان وعواصم محمولة بمغامرات يكاد لا يتسع لها عمر واحد.
رواية تروى ما يقارب 80 سنة، من تواريخ مختلفة موزعة على بلدان وأعمار وظروف سياسية. إذ تلتقي تاج الملوك عبد الحميد، الصحافيّة الجريئة والمتحرّرة والموهوبة صاحبة مجلّة «الرحاب» التي رعاها نوري السعيد بعازفة الكمان وديان الملاح التي فقدت سمعها وتبدل مجرى حياتها، ويجمعهما العراق. إحداهما آتية من إيران إلى عراق الملكية وأخرى عاشت عراق صدام حسين. تَتَشَعَّبُ الرواية بشخصيّاتِها وأزمِنَتِها ومغامراتِها وقصّص حبّها. صحيح أنّ نجمة الرواية هي تاج الملوك بيد أنّ وديان الملّاح والفلسطيني منصور البادي لا يغيبان ولكلّ منهما صوته وقصّته المستقلّة. ثمانون عاماً من تاريخ عراق مُعَذِّب وأحداث تدور بين فلسطين، بيروت، العراق، كراتشي، فنزويلا وباريس.
«النبيذة» هي الرواية الرابعة لكجه جي بعد «سواقي القلوب»، و«الحفيدة الأميركية» و«طشاري»، وهنا مقتطف منها:
ليس في حياة تاجي عبد المجيد موجة متهاودة. لا سواحل رملية أو ضحالات. دائماً في قلب اللُجّة. نشرت الصحف صور تشييع شهداء الوثبة. تتأمل صورتها وهي تتقدم حاملة لافتة جمعية الصحافيين. لا تخفي نظارتها السوداء ملامحها. شكلها مميّز ولا محلّ للالتباس. بدلتها الغامقة وحقيبتها البيضاء الصغيرة المتدلية من كتفها. لا بد أن الصحف موجودة على مكتب الباشا. أو ستؤخذ له إلى بيته على الشط، يطالعها مع شاي الفطور. هي منذ الآن مرصودة. مسحوب عنها الغطاء. مثلما رسمها أكرم شكري في تلك اللوحة. مكشوفة. ناكرة جميل. تبصق في الطبق الذي أكلت فيه. وسيأتي من ينصحها بمغادرة البلد. الهروب عبر الحدود الشرقية وإلا...
ـ وإلا؟
ـ السجن بتهمة الشغب.
ـ والحل؟
ـ يمكنك أن تعودي إلى إيران.
فكرّت في طلب العون من الأمير عبد الإله. لعل في قلبه بقيّة منها. لكن الوصي مشغول بالأحداث. لا وقت له للتدقيق بصور الجرائد واستذكار عاشقة «بوليرو». من تكون تاجي عبد المجيد ليهتم بما فعلت وما لم تفعل؟ هو الآن يجمع زعماء الأحزاب وشخصيات البلد. المؤيد منهم والمعارض. الكل يتداول أسماءهم. بستان الخسّ لا ينقصه سوى رأس صالح جبر. ظل رئيس الوزراء في لندن. يرتّب اللمسات الأخيرة مع الإنكليز.
لجأت تاجي إلى أصدقائها الطلبة. أحاطت نفسها بهم. تحضر حلقات الفنانين وتجد أغلبهم يصطف مع الشارع ضد القصر. تسمع أن قادة الشيوعيين يديرون المظاهرات من السجون. اعتقل بهجة العطيّة زعيمهم فهد. أخذوه إلى أبي غريب. حققوا معه. حكم عليه قاض بالإعدام. دافع عن نفسه. زاد سعر الجريدة التي نشرت دفاعه من عشرة فلوس إلى مائتين وخمسين. بيعت في السوق السوداء. والحكومة في ورطة. جلسات المحكمة تصبح مغلقة. المؤبد بدل الإعدام. يُنقل المحكوم ورفاقه إلى سجن بغداد المركزي. ثم سجن الكوت. يزعم أنصاره أنه حوّل الحبس مدرسة حزبية. يبعث الرسائل لهم مكتوبة بماء البصل. أول مرة تسمع عن الكتابة بالبصل. يكسب الفكر الهدّام المزيد من الأنصار. والباشا لا يغفل عن مياه تجري تحته. عينه على نشاط اليهود في الحزب المحظور. لديهم علاقات مع الخارج ولغات أجنبية. يقرأون صحفاً فرنسية غير مُرخصّة، تصل بغداد باشتراك خاص أو بالتهريب. لا يفهم الرقيب منها شيئاً. يترجمون كراسات مشبوهة على أنها فلسفة وروايات. نار تنتشر في هشيم وهو ينتظر أن تطفح الكأس. يؤمن نوري السعيد أن آخر الدواء الكيّ.
سألته تاجي يوماً عن بهجت العطيّة:
ـ لماذا يرهبونه؟
ـ رهبة الكرسي، لا الرجل.
يرمقها بنظرة طويلة. يتردد في الكلام. ثم يختصر لها الحكاية. كان العطيّة رفيقاً لفهد في الصفّ وهما تلميذان في البصرة. تجاورا على منضدة واحدة في مدرسة الرجاء العالي. إرسالية مسيحية أميركية. حتى اسميهما كانا متشابهين. بهجت سلمان ويوسف سلمان. الأول تربّى برفاهية والثاني حسبما تيسّر. لما كبرا صارا عدوّين. سار كلٌ في طريق. دخل العطيّة ثانوية الشرطة، تدرّج في المراتب وصار مديراً للأمن. وسافر يوسف سلمان إلى موسكو وعاد ليشارك في تثبيت الحزب الشيوعي. اتخذ لنفسه اسماً حركياً: فهد.
ليست هي المرة الأولى التي تسمع فيها بالأسماء الحركيّة. كانت تظنها بدعة من بدع المقاومة الفرنسية. غطاء للإفلات من ملاحقة الغستابو. لم تتصوّر أن يستخدمها الشيوعيون في العراق. يلجأ بعض الصحافيين والفنانات إلى إخفاء أسمائهم الحقيقية. ينشر زملاء لها مقالات باسم قرندل. حبزبوز. فتاة العرب. كنّاس الشوارع. خجّه خان. أما تاجي فلا تفهم تواضع الكاتب. أن يكتم هويته ولا يتباهى بما يكتب. تفتح مجلتها، كل أسبوع، وتتأمل اسمها في الترويسة فتنتشي. ترضى عن نفسها. تبتسم حتى لو كانت مهمومة.
ـ وأنت يا باشا، ما اسمك الحركيّ؟
ـ ربيب الإنكليز!
يقهقه بصوت مجلجل تخنقه بحّة السكائر. يغرغر كأي بائع لبلبي في سوق الشوّاكة. يسعل ويغصّ ويواصل الضحك. يسحب نفَساً عميقاً. تدمع عيناه ويبحث عن منديل. يفتش في جيوبه ثم يمسحهما بكمّ بدلته. تتابع حركاته ولا تُصدّق أن هذا المخلوق الأريحي هو نفسه الباشا ذو الجناب. يهدأ ويرمقها بمُكر. يقترح أن يطلق عليها اسماً حركياً. تبتسم بأسى وتهزّ رأسها. لديها ما يكفي.
مقتطف من رواية «النبيذة» لإنعام كجه جي
تصدر قريباً
مقتطف من رواية «النبيذة» لإنعام كجه جي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة