هاشــم صالــح

هاشــم صالــح
كاتب وباحث ومترجم سوري، يهتم بقضايا التجديد الدّيني ونقد الأصولية ويناقش قضايا الحداثة وما بعدها.

لست مجنونا كنابليون!

في السيارة التي تقلني من مطار أورلي إلى محطة قطار الشرق لم أشأ أن أتوقف لحظة واحدة في باريس. الذكريات تضغط على قلبي. أصبحت أخاف على حالي من حالي. أصبح لي تاريخ متراكم في هذه المدينة، تاريخ منسي يتفجر دفعة واحدة، ولا أستطيع منه فكاكا: يحب قلبي خباياه ويعبدها إذا تبرأ قلب من خباياه مقاهي «السان ميشيل» و«الشاتليه» تتوالى أمامي كشريط سينمائي. لا أعرف لماذا مر السائق من هنا. هل يريد أن ينكأ جراحاتي التي لا تزال طرية حتى بعد غياب طويل؟ لا توجد جماهير غفيرة على طرفي الشارع لكي ترحب بعودتي. أسرعت بالهروب من العاصمة مستقلا القطار إلى مدينة «رانس» عساني أفتح صفحة جديدة بعدما اهترأت كل صفحاتي السابقة.

نحن والثقافة الدينية

قبيل مغادرتي إلى باريس بأيام قلائل، استمعت إلى محاضرة شائقة فعلا. كان ذلك في مقر مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» الواقع قبالة المحطة الكبرى وسط الرباط العامرة. وكان ضيفها هذه المرة الدكتور يحيى اليحياوي الخبير في الإعلام والاتصالات. وقد قدمه للحضور الكريم الدكتور المنتصر حمادة ذو الروحانية الصافية والإيمان العميق، وهو مختص بالشؤون الدينية والفلسفية على حد سواء. أكاد أقول إن عنوان المحاضرة هو موضوع الساعة: «الفضائيات العربية والخطاب الديني». عندما سمعت بذلك، قلت لا ينبغي أن يفوتني لقاء كهذا. منذ زمن طويل وأنا أفكر في هذا الموضوع بشكل غامض دون أن تكون عندي أي معطيات دقيقة عنه.

هل يمكن إنقاذ الفكر العربي؟

أصبح واضحا لكل المطلعين أن الفكر العربي لن يستطيع النهوض بإمكاناته الخاصة وحدها، وإنما ينبغي أن نضخ في أوصاله المتكلسة وعروقه المتحجرة جرعات كبيرة من الدم الحي الآتي من الخارج، أي كميات ضخمة من الترجمات المتنوعة. كل من درس في الغرب واطلع على مدى تقدم الفكر الغربي وتأخر الفكر العربي يعرف معنى ما أقوله هنا. بل وحتى لو لم يدرس في الغرب، ولكنه متقن للغة أجنبية حية، كالفرنسية أو الإنجليزية أو الألمانية يستطيع أن يفهم مقصدي؛ لماذا لا نعترف بالحقيقة؟ نحن نكتب بالعربية ونقرأ بالفرنسية أو الإنجليزية. نقطة على السطر.

لماذا قتلوا ديكارت؟

حتى أمد قريب كنا نعتقد أن السيد رينيه ديكارت مات في فراشه بشكل طبيعي قرير العينين بعد أن أنجز مهمته وقام بأكبر انقلاب على فلسفة القرون الوسطى. طيلة أكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن حجبوا عنا الحقيقة، طمسوها. طيلة 400 سنة تقريبا ضحكوا علينا. ثم أخيرا، انفجرت الحقيقة كالقنبلة الموقوتة. ذلك أن الحقيقة قد تنام طويلا، قد تطمس كثيرا، لكنها لا تموت. ويل لمن تسول له نفسه قتل الحقيقة! إنها أكبر منه. ومن فجرها؟ إنه البروفسور «تيودور إيبيرت»، أستاذ الفلسفة في إحدى الجامعات الألمانية. إنه ليس مجرد كاتب عادي يبحث عن أخبار مثيرة أو سبق صحافي لكي يشتهر به. وإنما هو باحث أكاديمي من أعلى طراز.

المثقفون العرب وفلسفة الدين

فعلا نحن العرب نبحث، نتساءل، نتخبط. ولكن هذا دليل على الحيوية لا على الاستكانة والجمود. وأكبر برهان على ذلك تلك الندوة المهمة التي أتيح لي حضورها في مقر مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» في العاصمة المغربية. كانت القاعة مليئة بالبشر على الرغم من الطقس العاصف الماطر. الجميع يريدون أجوبة عن تساؤلاتهم. وقد كان على المنصة باحثان محترمان هما المفكر الموريتاني المشهور عبد الله السيد ولد أباه، والباحث الأردني اللامع يونس قنديل. وهو يحضر شهادة الدكتوراه في جامعة برلين ويتقن الألمانية بشكل كامل. ونغبطه على ذلك، إن لم نحسده!

مع فولتير

هل تريد أن تضحك وتشبع من الضحك؟ هل تريد أن ترفه عن نفسك من حالة ضجر وسأم من الوجود؟ لا داعي للذهاب إلى الكوميديا الفرنسية لمشاهدة مسرحيات موليير، ولا حتى إلى السينما لمشاهدة أفلام لويس دوفونيس أو دريد لحام أو عادل إمام، أو الكوميدي الإنجليزي الشهير باسم «مستر بِن».. وإنما يكفي أن تفتح كتابا لفولتير. إنه يستطيع أن يسخر حتى من نفسه! إنه يستخدم سلاحا فتاكا وفعالا ضد خصومه هو: التهكم والاستهزاء. إنه بارع في ذلك كل البراعة. كيف يمكن أن تمل في حضرة مفكر من هذا النوع؟ كان يشتبك دائما مع شخص شرس يدعى «فريرون» وكان من ألد أعدائه، فقال عنه: «يوما ما، عض الثعبان فريرون. هل تعلمون ماذا حصل؟

الفكر العربي ومشكلة المفاهيم

ألقى المفكر المغربي الدكتور سعيد شبار مداخلة قيمة الأسبوع الماضي عن «المفاهيم في التداول الفكري المعاصر». كان ذلك في مقر مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» في الرباط العامرة. وقد قدمه الدكتور منتصر حمادة، المهتم بشؤون الفكر العربي والغربي على حد سواء. في البداية، أشاد الدكتور شبار بهذه المؤسسة الجديدة الصاعدة الهادفة إلى تحقيق التجديد الفكري والإصلاح الديني في العالم العربي. وقال إنها تزداد نفوذا وتأثيرا بفضل نشاطاتها المتواصلة في شتى أقطار العرب وعواصمهم ومدنهم. وهي نشاطات تتجلى على هيئة مؤتمرات علمية وورش بحثية وإصدار مجلات جديدة كمجلة «يتفكرون» و«ألباب»، وغير ذلك من كتب ومطبوعات.

أن تكون في مراكش!

من لم يقض رأس السنة في مراكش لم تلده أمه بعد! الفنادق كلها مليئة. لا توجد غرفة واحدة فارغة. العالم كله يتدفق على مراكش لقضاء أعياد رأس السنة. كيف أتيح لي هذا الحظ السعيد؟ نعمة من الله. أقول ذلك وخاصة أني تحولت أخيرا إلى سائح عالمي، أو درويش صوفي، لا فرق. وربما تحولت قريبا إلى متسكع كوني هائم على وجهه. لكن في الشرق ضجيج. ينبغي الاعتراف بأن هذا الشرق، المنكوب بالويلات، دخل مرحلة تصفية الحسابات التاريخية التي لن تنتهي قبل عقود.. البراكين المحتقنة تتفجر والزلازل تتكلم! التاريخ العربي من أعماق أعماقه يقذف بالشظايا والحمم. لا تحاولوا منع انفجار هذا الاحتقان. إياكم ثم إياكم!

المثقفون والأبراج العاجية!

كنت قد تحدثت الأسبوع الماضي عن فولتير ومحاربته للتعصب الديني. ولكني ارتكبت هفوة بسيطة. فكتابه مترجم إلى العربية من قبل هنرييت عبودي بعنوان «رسالة في التسامح» وليس «مقالة في التسامح» كما ذكرت. ولذا اقتضى التنويه. ولكن سبقه إلى ذلك مفكر إنجليزي كبير هو جون لوك الذي ألف كتابا بنفس الاسم. ولم يكن فولتير يحلف إلا باسمه واسم نيوتن وبعض عظماء الإنجليز الآخرين. فقد كان معجبا بهم وبالحضارة الإنجليزية وساخطا على تخلف فرنسا والفرنسيين في ذلك العصر. ومعلوم أنه هرب إلى إنجلترا بعد خروجه من سجن الباستيل وأقام فيها مدة سنتين أو أكثر.

متى سيظهر فولتير العرب؟

بينما يلفظ هذا العام 2013 أنفاسه الأخيرة، كنت أتمنى لو أننا كرسنا بضع لحظات للاحتفال بحدث كبير حصل قبل 250 سنة بالضبط، ولكنه مر مرور الكرام من دون أن ينتبه إليه أحد. قد تتوقعون أنني سأتحدث لكم عن حدث سياسي ضخم، عن سقوط إمبراطور وظهور آخر، أو عن حصول معركة حربية هائلة، أو حتى عن اشتعال ثورة سياسية ضخمة.. لا، أبدا. أقصد فقط ظهور كتاب، نعم مجرد كتاب صغير الحجم لفولتير.