استراتيجية وتفجيرات القاعدة (1):تنظيم «القاعدة» أهدافه أفغانية وقادته لم يفهموا الجهاد وتفجيرات الرياض والدار البيضاء كشفت خلل فهمهم للإسلام

يأتي كتاب «استراتيجية وتفجيرات القاعدة، الأخطاء والأخطار»، لقادة الجماعة الاسلامية المصرية، والذي تنفرد «الشرق الأوسط» بحقوق نشره، استكمالا لكتبهم الأربعة السابقة لتصحيح المفاهيم، عقب مبادرة وقف العنف التي أطلقها قادة الجماعة في عام 1997 . غير انهم في كتابهم الجديد الذي بين أيدينا يركزون على تصحيح ما يعتبرونه المفاهيم الجهادية لتنظيم «القاعدة» بقيادة اسامة بن لادن، ومساعده المصري الدكتور أيمن الظواهري زعيم جماعة الجهاد المصرية . ويرى أحد مؤلفي الكتاب ، كرم زهدي، الذي أفرجت السلطات المصرية عنه أخيرا انه حين يناقش استراتيجية «القاعدة» فهو لا ينحو منحى الآخرين من وصم «القاعدة» وأقطابها بالعمالة لأميركا والخيانة للأوطان، والارتزاق من أجل دراهم محدودة.
ويعترف قادة الجماعة الاسلامية ـ مؤلفو الكتاب ـ والذين ما زال بعضهم في السجن بأن التفجيرات الأخيرة في الرياض والدار البيضاء في مايو (ايار) 2003 كشفت الخلل في الاستراتيجية التي تتبعها بقوة «القاعدة» في فهم الجهاد أو تنزيل الأحكام الشرعية عليه، وجعلتهم يتصدون بهذا الكتاب لرؤية تنظيم «القاعدة» تمحيصا وتقييما . والكتاب يقول عنه مؤلفوه انه يأتي من باب الدين النصيحة وينقسم الى تمهيد وفصلين، ويتناول التمهيد المفهوم بين رؤيتين : رؤية المبادرة التي أعلنتها الجماعة الاسلامية المصرية في الخامس من يوليو (تموز) 1997 والتي بمقتضاها أوقفت الجماعة أعمال العنف بينها وبين الحكومة، والبيانات المحرضة عليها داخل مصر وخارجها، ورؤية «القاعدة» التي عبر عنها اعلان الجبهة الاسلامية العالمية لمواجهة الصليبيين واليهود والأميركيين، والتي انضوى تحتها عدد من الجماعات الاسلامية في بلدان عدة بقيادة اسامة بن لادن . ويورد قادة الجماعة الاسلامية الأسباب التي دعتهم الى اطلاق مبادئهم، ويرون ان المبادرة لم تكن اعمالا لمبدأ التقية أو من قبيل الخدعة التكتيكية لأن الجماعة الاسلامية تنطلق من الفكر السني، بل المبادرة تقرر ـ كما يؤكدون ـ ان الجهاد فريضة ماضية الي يوم القيامة ولكنها فريضة لها ضوابط، يجب توفرها لكي يصح تنفيذها، وهذه الأمور تقف على طرف النقيض من رؤية «القاعدة» التي تجعل الجهاد هو الاستجابة الوحيدة الصحيحة لمواجهة الواقع وترفع منطق التحدي فوق مبدأ الحسابات . ويظهر الخلاف بين رؤيتي «القاعدة»، والجماعة على أكثر من مستوى : في فهم الاحكام الشرعية وتنزيلها علي الواقع، وفي فهم الواقع واستيعاب تحدياته التي يزخر بها، وعلى صعيد ترتيب الأولويات وهو ما سنبينه بالتفصيل في حلقاتنا المقبلة . ويتناول المؤلفون بداية تنظيم «القاعدة» ويصفونها بانها ولدت من رحم الجهاد الأفغاني، وبالتالي فأهدافها أهداف أفغانية في المقام الأول وهو ما تولد عنه تحالف قوي بين «القاعدة» وحركة طالبان التي ما لبثت ان سيطرت على 90% من أراضي أفغانستان، ويقسم المؤلفون تاريخ تنظيم «القاعدة» الى مرحلتين : الأولى من قبل سيطرة حركة طالبان على الحكم في أفغانستان الى تاريخ الاعلان عن قيام الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين والاميركيين . والمرحلة الثانية من اعلان الجبهة حتى الآن حيث تبلورت أهداف هذه المرحلة في ارغام أميركا على الانصياع لمطالب «القاعدة» سواء في الخليج أو الشيشان أو كشمير أو داغستان أو فلسطين . ويعتقد قادة الجماعة الاسلامية، وبعد دراسة طويلة للاستراتيجية الاميركية في التعامل مع قضايا العالم الاسلامي، سوف نوردها في الحلقات المقبلة، ان الاستراتيجية الأميركية تجاه أفغانستان، خاصة في مطلع تسعينات القرن الماضي لم تكن تبرر تبني «القاعدة» لاستراتيجيتها على النحو الذي اعتمدته، بل انهم ـ قادة «القاعدة» ـ أقحموا الأمة الاسلامية في صراع لا طاقة لها به، ولا رغبة لها فيه . ويلاحظ المؤلفون ان النتائج التي نجمت عن استراتيجية «القاعدة» تصب في غير مصلحة الأمة الاسلامية، بل انها أدت الي نتائج سلبية كثيرة منها : 1ـ انهيار الدولة الاسلامية الوليدة في أفغانستان . 2ـ مطاردة «القاعدة» والحركات الاسلامية في اطار العولمة الأمنية . 3ـ الاضرار بمصالح وقضايا الاقليات الاسلامية بالخلط المتعمد بين حركات المقاومة للاحتلال والارهاب . 4ـ افساح المجال أمام تحقيق الأهداف والطموحات الاسرائيلية . ويناقش الكتاب أيضا الخلل في فهم تنظيم «القاعدة» للجهاد عبر أربع زوايا: مغزى الجهاد، الجهاد فريضة من فرائض الاسلام، الجهاد وسيلة لا غاية، الجهاد وسيلة من وسائل كثيرة لرفع راية الاسلام . ويفند المؤلفون استدلالات زعماء «القاعدة» الخاطئة في تبرير تفجيراتهم من احداث 11 سبتمبر حتى احداث الرياض 2003, حتى يصلوا الى حقيقة مؤداها ان أغلب الضحايا في التفجيرات كانوا من المسلمين أو من جنسيات أخرى غير مستهدفة وهو ما نجم عنه ان اصبحت هذه الدول التي تمت فيها التفجيرات متكتلة ومتحدة ضد الحركات الاسلامية بشكل عام، وليس «القاعدة» فقط . واذا كان الجميع يدين هذه العمليات ومنفذيها فان مؤلفي كتاب استراتيجية وتفجيرات «القاعدة» يرون ان هذه التفجيرات أراد بها منفذوها خيرا لكن لم يدركوه، وأرادوا بها مصلحة ولكن لم يحصدوها . ويقيم قادة الجماعة الاسلامية في كتابهم الجديد هذه التفجيرات من خلال مناقشة موضوعية مستندة لأدلة شرعية من القرآن الكريم والسنة الشريفة . ويتناول الكتاب بعض العلاقات الفقهية الخاصة بمفهوم الجهاد وارتباطه بالواقع المعاصر، والعلاقة الارتباطية بين الحكم الشرعي للجهاد ومن هم مكلفون بالفتوى في الواقع المعاصر، ويرى المؤلفون ان هاتين الجدليتين تحدثان عادة خللا في ادراك الواقع على حقيقته . واجابة على سؤال يطرحه المؤلفون : هل يصح استهداف شخص ما بالقتل على أساس جنسيته. ويدلل الكتاب على خطأ فتوى زعيم «القاعدة» اسامة بن لادن بجواز قتل المدنيين الاميركيين وهو ما سنتناوله بالتفصيل في حلقات مقبلة . كما يتناول الخطأ في استدلالات زعماء «القاعدة» بجواز تفجيراتهم عبر أربعة مناهج : الخطأ في تنزيل الحكم الشرعي الخاص باباحة انغماس المسلم في صف العدو، وبجواز تفجيرات الطائرات المدنية والشاحنات الملغومة، الخلل في تنزيل احكام الاغارة والتبيت للقول باباحة استخدام التفجيرات العشوائية، الخطأ في تنزيل الاحكام الخاصة برمي الترس، وجواز الرمي بالمنجنيق للقول بجواز التفجيرات العشوائية، الخطأ في استهداف الاجانب والسياح بدعوى عدم انطباق احكام الامان عليهم وهو ما سنتناوله بالتفصيل في الاعداد القادمة . يصل المؤلفون بعد هذه الرحلة الطويلة في ختام الكتاب الى سؤال مهم وهو ما البديل لكل هذا، يرى قادة الجماعة الاسلامية ان البديل هو سياسة اميركية أكثر عدلا، والتوحد بين ابناء الأمة تحت مظلة الحرية للجميع والمشاركة للجميع، وتوجيه الطاقة المختزنة للجهاد والتضحية لدى أبناء الأمة حينما يوجد محتل غاشم، أو مستعمر آثم . والكتاب ألفه ثمانية من قادة الجماعة الاسلامية المصرية هم كرم زهدي وناجح ابراهيم وعلي الشريف وأسامة حافظ وحمدي عبد الرحمن وفؤاد الدواليبي وعاصم عبد الماجد وعصام دربالة.

* مبادرة وقف العنف عام 1997

* في هذه الحلقة يتناول قادة الجماعة الاسلامية المصرية الاستراتيجية الاميركية تجاه قضايا العالم الاسلامي بالعرض والتقييم ، في محاولة للاجابة على عدة اسئلة مهمة تطرحها الاحداث الجارية على الساحة العالمية : هل الاستراتيجية الاميركية هي التي استهدفت العالم الاسلامي أولا ، وهل نحن في حالة دفاع عن النفس وهو ما يتيح للقاعدة ان تفعل ما بدا لها؟

ويرى المؤلفون ان قراءة «القاعدة» للاستراتيجية الاميركية لا تتسم بالدقة ، بل ـ حسب قولهم ـ بالظلم والاجحاف ، فالمتابع للاستراتيجية الاميركية سيجد ان محركها الأول المصلحة الاميركية وليس العامل الديني ، وهو ما يفسر أحداثا كبيرة بدت فيها اميركا وكأنها داعم لبعض القضايا الاسلامية مثل حالة دعم الجهاد الافغاني عام 1979 ضد الوجود السوفياتي . ويقسم قادة الجماعة الاسلامية هذه الاستراتيجية الى ثلاث مراحل تبدأ الأولى من انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى نهاية الحرب الباردة في ديسمبر (كانون الاول) 1991، بسقوط الاتحاد السوفياتي ، وتبدأ الثانية من 1991 حتى اعلن الجبهة العالمية لقتال اليهود والصليبيين ، وبدء تنفيذ العمليات ضد اميركا ، وتمتد الثالثة من أحداث سبتمبر (ايلول) 2001 حتى الآن . ويصل المؤلفون في نهاية دراستهم للاستراتيجية الاميركية الى ان استراتيجية «القاعدة» ، أهم عامل أسهم في تسريع وصياغة تلك الاستراتيجية الاميركية السلبية ضد العالم الاسلامي .

* مراحل الاستراتيجية الأميركية تجاه قضايا العالم الإسلامي من 1945 ـ 2003:

* تقتضي الدقة والموضوعية عند البحث عن الاستراتيجية الاميركية تجاه الاسلام وقضايا العالم الاسلامي ان نميز بين المراحل المختلفة التي مرت بها تلك الاستراتيجية وفقا لتطور المستجدات سواء على الساحة العالمية أو الاسلامية أو في الداخل الاميركي، اذ يمكن ان نميز بين عدة مراحل مرت بها هذه الاستراتيجية طوال الستين عاما الماضية كالآتي:

المرحلة الأولى: مرحلة تأمين المصالح الاميركية في العالم الاسلامي ضد أخطار الشيوعية (1945 ـ 1991).

وكان هذا التطويق للخطر الشيوعي يعني ـ في المقام الأول ـ احكام الحصار حول الاتحاد السوفياتي ومنعه من الوصول للمياه الدافئة سواء في المحيط الهندي أو الخليج العربي أو البحر المتوسط، وكان هذا الحصار يتطلب اقامة حزام من دول موالية لاميركا يحيط بالحدود السوفياتية من الجنوب والشرق والغرب.

ولقد كان عدد كبير من هذه الدول المرشحة لهذا الدور توجد في نطاق العالم الاسلامي مما أوجد فرصة الالتقاء بين الأهداف الاميركية الساعية لتطويق الخطر الشيوعي والرؤية الاسلامية للشيوعية باعتبارها مروقا من الدين، ومن هذا المنطلق عرضت اميركا ـ خاصة في ظل تعاظم أهمية منطقة الخليج مع توالي الاكتشافات البترولية بها ـ على عدد من الدول الاسلامية التعاون لتطويق الخطر الشيوعي من خلال اقامة مجموعة أحلاف تشارك فيها دول المنطقة، وكان أشهرها «الحلف الاسلامي» الذي عرض على بعض الدول الاسلامية مثل باكستان والعراق وتركيا ومصر الدخول فيه، لكن جاء الرفض المصري آنذاك في منتصف الخمسينات من القرن الماضي ليضع حدا لمثل هذا المشروع الطموح.

ومع استمرار الحرب الباردة واعتماد الاستراتيجية الاميركية على اسرائيل لمنع وقوع منطقة الشرق الأوسط في يد الشيوعية، وكحارس أمين للمصالح الاستراتيجية الاميركية بها، بدا ان اميركا تسير في اتجاه مناوئ للاسلام وقضاياه.

المرحلة الثانية: 1991 ـ الحادي عشر من سبتمبر 2001:

من البحث عن استراتيجية جديدة الى التصعيد والضغوط المتبادلة بين اميركا و«القاعدة»:

بعد انهيار الاتحاد السوفياتي انتقل العالم من القطبية الثنائية المبني على وجود قطبين متوازنين الى نظام القطب الاميركي الأوحد مما دفع البعض الى تسمية هذا العصر بالعصر الاميركي.

* الفترة الأولى: اعادة رسم الاستراتيجية والبحث عن عدو جديد (تمتد من 1991 الى 1996)

* ولقد وجدت اميركا نفسها في بداية هذه المرحلة تنغمس في منطقة الخليج لانهاء مغامرة صدام حسين باحتلال الكويت في أغسطس (آب) 1990 وللحفاظ على هيمنتها على البترول كسلعة استراتيجية.

وبالمنطق الاميركي لم يكن هناك خيار آخر غير التدخل العسكري أمام صانع القرار، ومن هنا تواكب مع هذا التدخل طرح قضية الاستراتيجية الاميركية الجديدة وبدأ البحث عن العدو البديل للشيوعية.

وبدا ان القيادة الاميركية بقيادة جورج بوش الأب في هذا الوقت كانت تعيش مرحلة الارتباك الناجمة عن الانتقال الى نظام القطب الواحد بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وتبدى ذلك في تبشير الرئيس الاميركي بنظام عالمي جديد يقوم على العدالة والحرية; وهي دعوة حاول ترجمتها من خلال التدخل في الشرق الأوسط ودفع أطراف الصراع العربي ـ الاسرائيلي الى الجلوس على مائدة المفاوضات في مؤتمر مدريد للسلام، وأيضا التدخل الاميركي في الصومال لانهاء حالة الحرب الأهلية الذي سرعان ما انتهى الى انسحاب سريع مهين بعد تكبد اميركا بعض الخسائر البشرية في صفوف جنودها.

وما ان اعتلى بيل كلينتون منصب الرئاسة سنة 1992 حتى بدأت الادارة الديمقراطية الجديدة تتجه لتبني استراتيجية جديدة في اطار الاستجابة لبعض الأطروحات التي طرحها عدد من المفكرين الاميركيين التي يمكن الاشارة اليها عبر استعراض أهم ثلاثة كتب صدرت باميركا في خلال عقد التسعينات:

الكتاب الأول، وصاحبه «ريتشارد نيكسون» الرئيس الأسبق للولايات المتحدة الاميركية وترجم الى العربية بعنوان الفرصة السانحة، وفكرته الأساسية تدور حول ان: الانتصار الذي حققته اميركا على الاتحاد السوفياتي ولد فرصة سانحة للهيمنة الاميركية على العالم وللسيادة الكونية وتحقيق النصر الحاسم على شتى المنافسين، وأخذ في رسم الدوائر المحتملة للأخطار وأشار فيما يتعلق بالعالم الاسلامي بضرورة التفريق بين الحكومات الاسلامية المعتدلة حيث يمكن التعاون معها والحركات الأصولية المتشددة التي تحتاج لمعاملة حاسمة ضدها، مع امكانية التلاقي مع أي طرف اذا كانت المصلحة الاميركية تستدعي هذا.

وبهذا دشن نيكسون التفكير الاستراتيجي الجديد في اتجاه الانتصار الشامل الدائم اغتناما للفرصة السانحة.

ثم يأتي الاسهام الثاني من «فرانسيس فوكوياما» أستاذ الاقتصاد السياسي في جامعة هوبكنز وذلك من خلال كتابه الشهير «نهاية التاريخ».

وكان تناوله للاسلام ينحو الى وصفه بالشمولية وانه لا يمكن وجود مثال للدولة الديمقراطية في العالم الاسلامي الا في حالة تركيا لانها تخلت صراحة عن تراثها الاسلامي.

وهو بهذا يضع الاسلام في خانة العداء مع المفاهيم الليبرالية المتفوقة.

أما الكتاب الثالث، وهو لعالم السياسة الاميركي «صموئيل هنتنجنتون» الأستاذ بجامعة هارفارد والصادر سنة 1996 تحت عنوان «صدام الحضارات» والذي عرض فيه فكرته عن وجود حضارات متنوعة في العالم، وان هذه الحضارات الخلافات بينها أساسية وغير قابلة للحل، ومن ثم ستقع الصراعات عند الخطوط الفاصلة بينها وان على انصار الحضارة الغربية ألا يتدخلوا في هذه الصراعات الا اذا كانت تنطوي على تعريض المصالح القومية الحيوية للخطر.

واعتبر «هنتجنتون» ان الاسلام هو الحضارة الوحيدة التي جعلت بقاء الغرب موضع شك مرتين على الأقل ـ يقصد بها الفتوحات الاسلامية الأولى والفتوحات العثمانية ـ وان المشكلة الحقيقة للاسلام ليست الأصولية الاسلامية لكنها الاسلام في حد ذاته لأن له مشاكل مع الحداثة.

وبهذه الكتب الثلاثة أصبح مطروحا ـ وبقوة ـ على ذهن صانع القرار الاميركي استراتيجية النصر الحاسم وسيادة الديمقراطية وصدام الحضارات، ومن هنا بدأ يظهر مفهوم العولمة بدلا من النظام العالمي الجديد.

وهذا يعني ان الفترة الممتدة من 1991 الى 1997 شهدت جدلا كبيرا في اميركا حول الاستراتيجية الجديدة وتحديد العدو الجديد، وتقييم الموقف من الاسلام أو الخطر الأخضر كما يسمونه، وأسهم في طرح هذه المسألة بالحاح التفجير الذي وقع في مركز التجارة العالمي في فبراير (شباط) 1993 واتهم فيه بعض المنتمين للتيار الاسلامي.

ورغم هذا فلم تشهد الاستراتيجية الاميركية تغيرا انقلابيا في اتجاه التصعيد ضد كل ما هو اسلامي، فلقد شهدت هذه الفترة عددا من المواقف الاميركية المنسجمة مع الطبيعة الاميركية البراغماتية المصلحية أو النفعية; وذلك عندما دعمت اميركا الجهود المبذولة لنيل دولة البوسنة والهرسك حقها في الاستقلال عن يوغوسلافيا، وتدخلت عسكريا لحفظ الأمن بها زمن التطهير العرقي الذي كان يجري على قدم وساق.

وجاء أيضا العرض الاميركي على نظام طالبان بتقديم الدعم لحركة طالبان نظير التوافق الاستراتيجي بينهما كدليل آخر على سيادة المنطق النفعي على الاستراتيجية الاميركية، وهذا المنطق النفعي ذاته هو الذي كان يسهم في تشكيل الموقف الاميركي السلبي تجاه ايران أو النظام السوداني، فضلا عن رفض اميركا للتوجه الاسلامي للبلدين.

واستمر هذا المنطق الاميركي سائدا حتى بزوغ الفترة الثانية من هذه المرحلة والتي سنعرض لها الآن.

* الفترة الثانية من 1996 الى الحادي عشر من سبتمبر 2001:

«التصعيد والضغوط المتزايدة»

* وشهدت هذه الفترة بدء عمليات تنظيم «القاعدة» في السعودية، ثم أعلن زعيم «القاعدة» عن قيام الجبهة العالمية لقتال الصليبيين واليهود، ثم الاعلان عن فتوى قتل المدنيين الاميركيين في أي مكان وزمان، واتبع ذلك القيام بعدد من العمليات العنيفة ضد أهداف اميركية في اليمن والسعودية وكينيا وتنزانيا، مما جعل خطر «القاعدة» يتعاظم بصورة غير مسبوقة مما نجم عنه رد فعل أميركي ضاغط على دولتي السودان وأفغانستان، وتم قصف بعض المواقع في السودان بزعم وجود مصنع لانتاج الأسلحة الكيميائية وتبعيته لأسامة بن لادن، ثم قصف عدد من المواقع في أفغانستان بزعم انها معسكرات تدريب تابعة لـ«القاعدة».

وبدأت اميركا في اتباع استراتيجية الضغوط المتزايدة على حركة طالبان عندما رفضت الحركة تسليم أسامة بن لادن وتنوعت هذه الضغوط بدءا من الضغوط الاقتصادية عن طريق الأمم المتحدة واصدار قرارات من مجلس الأمن بمنع رحلات شركة الطيران الأفغانية وحظر ارسال أي أسلحة لنظام طالبان.

ومع تزايد الضغوط الاميركية سواء عن طريق قرارات مجلس الأمن أو عن طريق باكستان بدا ان الصدام مقبل لا محالة.

لكن لا ننسى في هذا المقام دور اليمين المسيحي الأصولي الذي بدأ ينمو في داخل الولايات المتحدة او تعاظم دوره في التأثير على التوجهات الخارجية والداخلية للادارة، ونشأ تحالف بين اللوبي اليهودي واليمين المسيحي الأصولي انصب تأثيره على قضية الصراع العربي ـ الاسرائيلي، وايجاد ذريعة للتدخل في شؤون الدول المختلفة خاصة الاسلامية تحت عنوان: «مساندة الأقليات المضطهدة في العالم» وهذه مسألة سنزيدها تفصيلا بعد قليل.

* المرحلة الثالثة: وتمتد من أحــداث الحادي عشـــر من سبتمبر 2001 وإلى يومنا هذا «استعادة الهيبة واستباق الأخطار» و* تبدأ هذه المرحلة بحالة الذهول التي انتابت اميركا ساسة وشعبا من جراء الهجوم الذي شنته بعض الخلايا التابعة لـ«القاعدة» على عدة أهداف على الأراضي الاميركية بواسطة عدد من الطائرات المختطفة، والذي استهدف الاصطدام ببرجي مركز التجارة العالمي بنيويورك مما أدى الى تدميرهما واستهداف الاصطدام بوزارة الدفاع الاميركية ـ البنتاغون ـ مما أدى الى دمار واسع بها.

جاء هذا الهجوم في ظل اعتلاء الحزب الجمهوري الحكم بعد فوز مشكوك في صحته لمرشحه جورج دبليو بوش، والذي قرر على الفور في تصريح له: «انها حرب صليبية جديدة»، ثم عاد وادعى انه لم يقصد هذا المعنى وان المقصود انه بصدد حرب عادلة على الارهاب.

لقد كان الحدث في الحادي عشر من سبتمبر 2001 مدهشا، ومثيرا للتساؤلات على كل المستويات، فلم يسبق استهداف الأراضي الاميركية بعمل بهذه الضخامة، حتى الاتحاد السوفيتي لم يجرؤ على القيام بمثل هذا العمل ابان اشتداد الحرب الباردة بينه وبين اميركا.

ومن هنا تتابعت التفاعلات تحليلا وتفسيراً، ولنقتنص من بين هذه التفاعلات بعض النماذج المعبرة عن ما أثارته أحداث الحادي عشر من سبتمبر من آراء واتجاهات: قال أ.د. كوخ عمدة نيويورك الأسبق: «لم أعرف في ديانة أخرى يهودية أو مسيحية انها تكافئ من يقتل غيره بجائزة قوامها 72 عذراء، ان المشكلة الأساسية في الاسلام وليست غيره» أ.هـ.

ولقد انتهجت الادارة الاميركية بقيادة جورج بوش الابن التي يغلب عليها الارتباط بدوائر اليمين المسيحي الأصولي الاستراتيجية الجديدة متمثلة في:

ان مواجهة الارهاب و«القاعدة» لن تكون عن طريق الأطباء وعربات الاسعاف ـ بقصد معالجة آثار أي عمليات ارهابية ـ لكن عن طريق القدرات العسكرية المتفوقة لاميركا.

على العالم ان يحدد هل هو معنا أم ضدنا؟ ومن ليس معنا فهو مع الارهاب.

ان اميركا ستواجه الأخطار المحتملة مستقبلا سواء كان مصدرها الارهاب أو دول محور الشر ـ أو الدول المارقة في تعبير آخر ـ وذلك من خلال انتهاج استراتيجية الحرب الاستباقية ـ أي استباق الأخطار ـ أو استراتيجية الحرب الوقائية، وبهذا قررت اميركا مواجهة الأعداء المحتملين خارج حدودها، وحددت الأجهزة الاميركية الأعداء الآنيين والمحتملين كالآتي:

1ـ الارهاب: وتم اصدار لائحة اميركية لتحديد الجماعات التي توصف بالارهابية وتأتي منظمة «القاعدة» على رأسها.

2ـ الدول المارقة «دول محور الشر»: وتشمل هذه القائمة دولا هي: ايران وسورية وكوريا الشمالية وليبيا والسودان والعراق وكوبا، والتي تم تصنيفها على أساس المزاعم الاميركية المتعلقة بدعم الارهاب أو امتلاك أسلحة دمار شامل كيماوية أو نووية.

وأعلنت اميركا في استراتيجيتها الجديدة انها سوف تتصرف بمفردها سواء لنشر الحرية وتسييد قيم الديمقراطية في العالم أو لمواجهة الارهاب والأخطار المحتملة.

هذه الاستراتيجية جاءت واضحة من دون مواربة في وثيقة استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة الاميركية التي وقعها الرئيس الاميركي جورج بوش الابن في 2002/9/21 أي بعد قرابة عام من أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

ويمكن ان نقف على أبعاد هذه الاستراتيجية من خلال ما قالته كوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي في ادارة جورج بوش الابن: «ان اميركا بعد الانتهاء من الملف العراقي ستقوم بتحرير العالم الاسلامي من أجل احلال الديمقراطية ومسيرة الحرية في المنطقة وان الادارة الاميركية تملك التفوق العسكري الذي لم تملكه أي دولة في التاريخ وهو ما يمكنها من استثمار هذا التفوق لتوفير محيط تزدهر فيه القيم الاميركية» أ.هـ.

يمكن ان نبين ملامح استراتيجية «تحرير العالم الاسلامي» التي أشارت اليها رايس في النقاط الآتية:

1ـ القضاء على حركة طالبان وحرمان «القاعدة» من المأوى الآمن لها.

2ـ عولمة الملاحقة الأمنية لتنظيم «القاعدة» وأي تنظيمات اسلامية أخرى تعتبرها أميركا مهددة لها أو لمصالحها أو لحلفائها.

3ـ دفع دول العالم الاسلامي الى تبني القيم الاميركية والغربية والتحرر من قيم وتقاليد الثقافة الاسلامية والتي تولد ـ في اعتقادهم ـ العنف; وهو ما يستوجب تغييرا في المناهج التعليمية القائمة التي تشجع على ثقافة التطرف وهو ما يعد ترجمة لرؤية فوكوياما في مقاله الذي سبق الاشارة اليه.

4ـ تتريك العالم الاسلامي وذلك على حد قول بعض أركان الادارة الاميركية، أي تعميم النموذج التركي الذي يسمح بوجود تيار اسلامي في الساحة السياسية أقرب للعلمانية منه للاسلام كحل يسمح بالتنفيس عن آمال هذا التيار ويسحب البساط من تحت أقدام المتطرفين الاسلاميين.

5ـ الضغط على الحكومات في الدول الاسلامية لانتهاج سياسة تسمح بملاحقة الارهاب من ناحية واتاحة الفرصة أمام الاسلاميين للمشاركة في الحياة السياسية من ناحية أخرى.

6ـ الاسهام الاميركي في حل بعض المشكلات السياسية في العالم الاسلامي مما يحسن صورة أميركا لدى الرأي العام الاسلامي وبما لا يخل بالمصالح الاميركية.

وهكذا تأتي هذه الاستراتيجية في طورها الأخير مستهدفة إحداث تغيير عميق سواء في وجود التيارات الاسلامية أو الهوية والقيم الاسلامية في ظل حشر الانف الاميركي في شؤون دول العالم الاسلامي تحت مظلة الدفاع عن قيم الديمقراطية وحقوق الانسان والطفل والمرأة تارة، وملاحقة الارهاب تارة أخرى، وذلك في ظل تحقيق استراتيجية الهيمنة الاميركية على العالم بأسره.

* «القاعدة» هي السبب فيما تفعله أميركا

* اذا كان كل ما سبق يمثل استعراضا مفصلا لتطور الاستراتيجية الاميركية تجاه العالم الاسلامي وقضاياه، فيمكن الآن استخلاص عدد من النتائج:

1ـ ان الاستراتيجية الاميركية تجاه العالم الاسلامي وقضاياه لا تسير دائما على منوال واحد، وهي تتلون وفقا لما تقتضيه المصالح الاميركية.

2ـ ان توجهات الاستراتيجية الاميركية تجاه قضايا العالم الاسلامي طوال الستين عاما الماضية ـ في اغلبها ـ أتت سلبية وظالمة.

3ـ ان التعامل الخاطئ مع الاستراتيجية الاميركية في بعض المواقف أدى الى ضياع بعض الفرص الجيدة التي كان يمكن توظيفها لمصلحة الشعوب والدول الاسلامية.

4ـ ان الاستراتيجية التي تبنتها القاعد تجاه أمريكا والصليبيين واليهود أسهمت في تسريع صياغة استراتيجية أمريكية أشد سلبية تجاهها وتجاه العالم الاسلامي.

وخلاصة القول: ان استناد «القاعدة» على سلبية الاستراتيجية الاميركية تجاه العالم الاسلامي وقضاياه لتبرير خيارها الاستراتيجي لا يصح الاحتجاج به أو الاستناد اليه، لان استراتيجية «القاعدة» هي في الحقيقة أهم عامل أسهم في تسريع وصياغة تلك الاستراتيجية الاميركية السلبية; ولأن استراتيجية «القاعدة» أهدرت الفرصة السانحة كي تستفيد من معطيات الوضع الدولي وتوجهات الاستراتيجية الاميركية نحو منطقة وسط آسيا وبما يحقق المصالح الأفغانية بدلا من ابتناء استراتيجية تؤدي الى الاطاحة بدولة طالبان الاسلامية.