مستقبل الصراع في أفغانستان (الحلقة الأولى) : الدكتور فضل مؤسس «الجهاد» يكتب عن القصة الكاملة لميلاد «القاعدة» في أفغانستان

كان اختيار مجلة «فورين بوليسي» الأميركية لسيد إمام الشريف، الطبيب المصري الذي منحه فكره الجهادي لقبه الأشهر «الدكتور فضل»، في قائمة المفكرين المائة الأكثر تأثيرا في العالم لعام 2009، بمثابة تأكيد على دور الرجل الذي ينسب إليه الدستور الذي قام عليه تنظيم القاعدة من خلال كتابيه «العمدة في إعداد العدة» و«الجامع في طلب العلم الشريف»، وهو ما حاول جاهدا بعد مراجعاته الشهيرة التي انطلقت قبل أكثر من عامين إعادة مناقشة تلك الأفكار الجهادية التي زجت بالإسلام والمسلمين وراء قضبان تهمة تطاردهم أينما حلوا، وهي تهمة «الإرهاب».
جاهد الدكتور فضل في مراجعة أفكاره واجتهد في فضح أكاذيب «القاعدة» ورجلها الثاني، أيمن الظواهري، ونشرت له «الشرق الأوسط» «التعرية لكتاب التبرئة»، و«قميص غزة»، وتنفرد اليوم بنشر حلقات من أحدث كتبه، الذي جاء تحت عنوان «مستقبل الصراع بين طالبان وأميركا في أفغانستان»، والذي انتهى من كتابته قبل عام.

يمثل كتاب «مستقبل الصراع في أفغانستان»، محاولة جديدة من فضل في تسليط الضوء على أمور كثيرة تشغل العالم، منها: أطماع تنظيم القاعدة، ومسؤولية بن لادن عن الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق، وثمن الغدر في أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، وأخيرا تفجيرات مومباي بالهند في نوفمبر (تشرين الثاني) 2008.

ويقول الدكتور فضل، في مقدمة كتابه الجديد: «الباعث لي على الكتابة في هذا هو حزني على شلال الدم المتدفق في أفغانستان - بلد الشعب المسلم البائس - منذ ثلاثين سنة. فمنذ عام 1979 ينزف دم الأفغان يوميًا لأسباب مختلفة:

فمن 1979 وحتى 1989 كان الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفياتي الشيوعي (روسيا).

ومن 1989 وحتى 1992 كان الجهاد الأفغاني ضد الحكومة الأفغانية الشيوعية.

ومن 1992 وحتى 1996 كانت الحرب الأهلية بين أحزاب المجاهدين (حكمتيار ضد رباني).

ومن 1996 وحتى 2001 كانت الحرب الأهلية بين طالبان وبين التحالف الشمالي.

ومن 10/2001 حتى الآن 12/2008 كان الجهاد الأفغاني الثاني ضد الاحتلال الأميركي (أميركا وحلفاؤها).

فلم يتوقف القتل والقتال في أفغانستان منذ ثلاثين سنة، ولم يتوقف نزيف الدم فيها. وقد خلف هذا نحو مليون قتيل، ومليون معاق (بعاهات مستديمة)، وعدة ملايين من المهاجرين والأرامل واليتامى.

وقد شاء الله تعالى أن أشارك في تخفيف أوجاع هذا الشعب البائس لمدة عشر سنين (1983 - 1993) في العمل الطبي كجراح عالجت فيها المجاهدين والمهاجرين الأفغان، وقمت فيها بتدريب عدد من الأطباء الأفغان والعرب الذين قدموا للمساعدة، كما قمت فيها بإنشاء الكثير من المستشفيات ومراكز الإسعاف على الحدود، وفي داخل أفغانستان، من أجل تحسين الخدمة الطبية وتقليل الوفيات بين الإصابات.

وفي أثناء هذه الفترة عايشت الجهاد الأفغاني بأحزابه، والمشاركين العرب وجماعاتهم عن قرب، ومن واقع الخبرة والتجربة مع ما منّ الله به على من الدراسة الشرعية مع شيء من الدراسات السياسية والعسكرية أردت أن أبدي رأيي في هذا الصراع الدائر في أفغانستان لعل الله سبحانه أن ينفع به».

وتحت عنوان «أطماع تنظيم القاعدة التي أطاحت بطالبان» يقول أستاذ الظواهري ومنظر تنظيم القاعدة في الفصل الأول من كتابه: «عندما وصلت إلى مدينة بيشاور بباكستان منتصف 1983 كان عدد الإخوة العرب المتصلين بالجهاد الأفغاني لا يتجاوز العشرين، نصفهم يعملون في الأنشطة الإغاثية، ونصفهم يشارك في الجهاد.

وفي عام 1984 ظهر الشيخ عبد الله عزام وأنشأ مكتب خدمات المجاهدين في نفس المدينة، وكثرت الدعاية والتسهيلات لمشاركة العرب في الجهاد فكثروا تدريجيا، وقد ذكرت بعض التقارير أن عدد العرب تجاوز العشرة آلاف أو أكثر، وهذا غير صحيح. وذلك لأن العرب كان بعضهم مقيما في باكستان (بوابة الجهاد الأفغاني) وبعضهم كان عابر سبيل يأتي أسابيع أو شهورا وينصرف وقد يعود مرة أخرى. وكل هؤلاء على مدى كل سنوات الجهاد لا يتجاوز عددهم خمسة آلاف، أما الذين وجدوا في وقت من الأوقات لهذا الغرض في باكستان، وداخل أفغانستان فإن عددهم لم يتجاوز الثلاثمائة. وقد حضرت الأمر إلى آخره.

كان أسامة بن لادن ممن يجمعون التبرعات لمكتب الخدمات، وقد اشتكى إليه بعض الإخوة العرب من تجاوزات بمكتب الخدمات فقرر إنشاء عمل مستقل عن الشيخ عزام، وبدأ ذلك بمعسكر تدريب في منطقة جاجي في أفغانستان قرب الحدود مع باكستان عام 1988، وسموه (مأسدة الأنصار العرب) - والمأسدة هي بيت الأُسود - وقرروا القيام بهجوم على قلعة شيوعية مجاورة (قلعة شاوني)، وكان بينهم جواسيس سربوا الخبر للقلعة، وعند تقدم العرب وجدوا أنفسهم في وسط كمين فقرروا الانسحاب. فعيّرهم بقية العرب بأنهم انسحبوا من أول معركة، فقاموا بتغيير الاسم من (المأسدة) إلى (قاعدة الأنصار العرب) التي عرفت اختصارا باسم (القاعدة).

كان بن لادن يتردد على الساحة بين الحين والآخر قادما من السعودية، وترك إدارة شؤون (القاعدة) لأفراد (جماعة الجهاد المصرية): أبو عبيدة البنشيري. وأبو حفص المصري مع آخرين، قاموا بإنشاء المعسكرات ووضع برامج التدريب وتنفيذها، أما التوجيه الشرعي بالمعسكرات فقد سلّمه بن لادن لأصحابه من (الإخوان المسلمين) ومنهم: أبو هاجر العراقي (اسمه ممدوح سليم، مسجون الآن في أميركا)، وأبو إبراهيم العراقي، ثم أبو حفص الموريتاني.

كانت الأموال التي تنفق على (القاعدة) تصل إلى باكستان عن طريق أحد مكاتب المساعدات الانسانية في بيشاور، يسلمها للإخوة حسب تعليمات ابن لادن.

لم يكن للعرب دور عسكري مؤثر في الجهاد رغم مشاركتهم فيه، وإنما كان الغرض الأساسي من وجودهم، تحويل الجهاد الأفغاني من قضية قومية إلى قضية أممية إسلامية، وتشجيع الأفغان على الاستمرار في الجهاد، لأن عدد الأفغان في باكستان ثم إيران بلغ عدة ملايين، في حين لم يشارك منهم في الجهاد إلا عدة ألوف. ولهذا فقد وجد العرب المشاركون في هذا الجهاد تسهيلات غير مسبوقة من كل من باكستان والسعودية، ابتداء من التذاكر المجانية أو المخفضة، إلى الوجود في باكستان دون إقامة قانونية أو بتسهيلات، إلى عبور الحدود من وإلى أفغانستان بمختلف الأسلحة ودون أي قيود.

في عام 1989 حدثت نقلة نوعية في (القاعدة) فقد تحولت من مكتب خدمات مواز لمكتب عبد الله عزام إلى تنظيم، وحتى ذلك الوقت كان كل من المكتبين يجمع العرب حول قضية (الجهاد الأفغاني ضد الشيوعية) وليس حول شخص. ثم رأى بن لادن في 1989 أن ينشئ جهادا ضد الشيوعية في اليمن الجنوبي فطلب من الناس البيعة لنفسه وتحولت (القاعدة) بذلك من مكتب خدمات إلى تنظيم.

ولأسباب ليس هذا محل ذكرها لم يحدث شيء في اليمن الجنوبي ولا في غيره، وفي منتصف عام 1992 وافقت الحكومة الشيوعية في كابل برئاسة دكتور نجيب الله على تسليم الحكم لأحزاب المجاهدين بشروط وبوساطة الأمم المتحدة، وتسلم المجاهدون أفغانستان بعد تشكيل حكومة رئيسها برهان الدين رباني، ورئيس الوزراء قلب الدين حكمتيار، ووزير الدفاع أحمد شاه مسعود. وطلبت الحكومة من أحزاب الجهاد تسليم أسلحتها لوزارة الدفاع فرفض حكمتيار تسليم سلاحه إلى عدوه اللدود أحمد شاه مسعود، فاندلعت الحرب الأهلية بين الطرفين بعد شهر واحد من دخولهم كابل: رباني ومسعود ضد حكمتيار، وعمت الفوضى جميع أنحاء أفغانستان. وفي مطلع 1993 طلبت باكستان من العرب مغادرة أراضيها وقالت إن هذه تعليمات من أميركا وخلفها بعض الدول العربية.

وانصرف العرب: منهم من بقي في أفغانستان مستقلا أو داعما لأحد طرفي الحرب الأهلية، ومنهم من ذهب للجهاد في البوسنة أو الشيشان، ومنهم من دخل في صدامات في بلاده مثل مصر والجزائر، ومنهم من عاد إلى بلده، خصوصا السعوديين واليمنيين، ومنهم من لجأ سياسيا إلى أوروبا، ومنهم من ذهب للإقامة في السودان واليمن وكانتا لا تلزمان العرب بتأشيرة دخول أو إذن إقامة.

في منتصف عام 1992 جاء بن لادن من السعودية إلى باكستان بعدما علم بقرب صدور قرار لمنعه من السفر، وكان قد عزم على الذهاب للإقامة في السودان، ونصحته وقتها بالعودة إلى السعودية وأن يساعد القضايا الإسلامية قدر الاستطاعة كما ساعد الجهاد الأفغاني، إلا أنه كان قد رتب أموره مع السلطات السودانية.

عدد أفراد تنظيم (القاعدة) ما بين ثلاثمائة إلى خمسمائة، تفرقوا مع الخروج من باكستان، معظمهم عادوا إلى بلادهم، وبقي عدد قليل في المعسكرات في أفغانستان، وذهب بضع عشرات مع بن لادن إلى السودان: بعضهم عمل في أعمال زراعية أو تجارية أو إنشائية خاصة بابن لادن، وبعضهم ذهب إلى الصومال لتدريب أفراد (الاتحاد الإسلامي) في الصومال عن طريق كينيا، وفي تلك الفترة أنشأوا علاقات مع مجموعات إسلامية في شرق أفريقيا.

عندما بدأت (القاعدة) في التحول من مكتب خدمات للمجاهدين إلى تنظيم، وذلك عندما طلب بن لادن البيعة لنفسه من الناس عام 1989، قال له أحد من تعاونوا معه في الجهاد الأفغاني (وهو الأخ أبو مصعب السوري): إنه لا يوجد تنظيم له بيعة دون منهج واضح على أساسه يبايع الناس، وطلب من بن لادن تحديد منهج عقائدي وفقهي مع أهداف واضحة (للقاعدة)، فرفض بن لادن بشدة، وحدثت قطيعة بينه وبين أبو مصعب. وظل بن لادن يأخذ البيعة من أتباعه على الجهاد حسب ما يرى بن لادن. وصارت (القاعدة) تجمعا حماسيا عاطفيا حول شخص (بن لادن) وفكرة عامة (الجهاد بحسب ما يرى بن لادن). وفي هذه الفترة قال أحد الإخوة العرب لابن لادن (من الأحسن أن تغير اسمها من «القاعدة» إلى «شركة بن لادن للجهاد»).

ولهذا فمن الخطأ نسبة (القاعدة) إلى التيار الجهادي السلفي، (فالقاعدة) لا منهج لها وليست لها كتب خاصة بها، وإنما هي تستعين بكتب محسوبة على هذا التيار في أمور معينة تخدمها، وإن كنت أنا ضد هذه التقسيمات التي تفرق المسلمين، قال تعالى: (وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ) (الحج 78)، وقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (آل عمران 103)، ولم يقل: وأنتم سلفيون أو جهاديون ونحوها. التقسيم الوحيد الجائز شرعا بعد الإسلام هو أهل السنة في مقابل أهل البدع، كما روى الإمام مسلم رحمه الله في مقدمة (صحيحه) عن محمد بن سيرين رحمه الله (توفي 110 هـ) قال: (لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سمّوا لنا رجالكم، فيُنظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم).

والحاصل: أن (القاعدة) صارت تنظيما مرتبطا بشخص لا بمنهج، وأصر بن لادن على عدم وضع منهج لهم لتكون له مساحة واسعة من الحرية في تغيير الأهداف والتحالفات والخطط. وصار أتباعه مرتبطين بشخصه ينفذون ما يراه. والغالبية من أتباعه سعوديون ويمنيون (عدة مئات) ثم باكستانيون (عدة عشرات) ثم جنسيات أخرى: مصريون وغيرهم (أفراد قلائل). ولـ(القاعدة) ارتباط وتنسيق مع تنظيمات وجماعات إسلامية في دول شتى من أيام الجهاد الأفغاني ضد الشيوعية.

كان من أسوأ ما أفرزته مرحلة الجهاد الأفغاني: سيطرة المال على كل شيء، سواء على مستوى الأحزاب الأفغانية أو العرب، إلا من رحم ربي، وأصبح المال هو سيد القرار، ولا صوت يعلو فوق صوت المال بالنسبة للحركات الإسلامية».

ويحكي الدكتور فضل عن تجربة أسامة بن لادن في السودان قائلا: «مع إقامة بن لادن في السودان من منتصف 1992م حدثت عدة تطورات بالنسبة لابن لادن و(القاعدة) منها:

1- دخول بن لادن في عداء سافر مع الحكومة السعودية، وكان للحكومة السودانية دور بارز في إشعال هذا العداء، عاصرته بنفسي.

2- تصريح بن لادن لأتباعه بعزمه على الدخول في صراع مع أميركا، وترجموا هذا عمليا في تلك الفترة في أمرين، الأول: الدخول في مناوشات مع القوات الأميركية في الصومال قبل انسحابها، والثاني: جمع معلومات عن الأهداف الأميركية، وبدأ هذا في دول شرق أفريقيا عام 1993 ثم توسع إلى دول أخرى، وكان من نتائج ذلك تفجير السفارتين الأميركيتين في كينيا (نيروبي) وتنزانيا (دار السلام) في 8/1998. إلا أنهم لم يدخلوا في مواجهة مع الأميركيين في الصومال عام 1993، وإنما الذي فعل ذلك هو القائد الصومالي (محمد فارح عيديد).

3- التطور الثالث: هو بداية تفكير (القاعدة) في الحصول على أسلحة دمار شامل (نووية، وكيماوية، وبيولوجية). وكان الدافع لذلك أمرين، الأول: تعويض النقص العددي لدى (القاعدة)، فالتنظيم عدده قليل (عدة مئات) والذين يعتمد عليهم فيهم أقل القليل (عدة عشرات) ومعظمهم أميون غير متعلمين، فأرادوا تعويض ذلك بالأسلحة المدمرة، خصوصا مع تفرق التنظيم وعودة معظمهم إلى بلادهم بعد إبعاد باكستان للعرب في 1993، والأمر الثاني: الذي دعا إلى التفكير في الحصول على هذه الأسلحة هو تفكك الاتحاد السوفياتي في 1990 وكثرة الشائعات عن توفر هذه الأسلحة في السوق السوداء وتوفر الخبراء فيها كذلك. إلا أنه وحتى 11/9/2001 لم تحقق (القاعدة) أي تقدم في هذا الجانب سواء بقدراتها الذاتية أو بالشراء. والفشل في الحصول على أسلحة دمار شامل هو الذي جعل (القاعدة) تلجأ إلى استخدام الطائرات - بما فيها من كميات وقود ضخمة - كصواريخ في تفجيرات 11 سبتمبر. أما ما تروجه أميركا عن امتلاك (القاعدة) أسلحة دمار شامل فمجرد شائعات لا حقيقة لها تغطي بها أميركا على فشلها المخابراتي وتضخم بها قدرات عدوها (القاعدة)، لأن هذا في مصلحة سياستها.

هذه أهم التطورات التي حدثت لابن لادن و(القاعدة) في مرحلة الإقامة بالسودان: عداء سافر مع السعودية، وبداية الصراع مع أميركا، وبداية السعي في الحصول على أسلحة دمار شامل لتعويض النقص في العدد والقدرات ولترتقي قوة التنظيم إلى مستوى طموحاته.

زادت الضغوط على السودان فأبعد بن لادن في مايو (أيار) 1996، فرحل إلى أفغانستان بعد ترتيب الأمور له هناك، وقام السودان بعمل أكثر من خطة تمويه لتأمين سفر بن لادن الذي وصل إلى منطقة جلال آباد في أفغانستان، وهناك دخل في حماية الشيخ يونس خالص (أحد قادة أحزاب المجاهدين) ثم لم تلبث (طالبان) أن زحفت من قندهار (غرب أفغانستان) إلى جلال آباد (شرق) ثم إلى كابل (شمال غربي جلال آباد) وذلك في النصف الأخير من 1996.

من صفات بن لادن أنه لا يستطيع أن يعيش أو يعمل إلا في حماية جهة أخرى، ففي فترة الجهاد الأفغاني كان يتحرك ويعمل بتنسيق كامل مع السلطات السعودية والباكستانية ومع بعض أحزاب الجهاد داخل أفغانستان. ثم من منتصف 1992 إلى منتصف 1996 دخل في حماية السلطات السودانية، وفي تلك الفترة عمل في الصومال بتحالف مع (الاتحاد الإسلامي)، ثم في النصف الأخير من 1996 دخل في حماية الشيخ يونس خالص في جلال آباد، ثم من 1997 حتى 11/9/2001 دخل في حماية طالبان بعدما بايعهم كما بايعهم يونس خالص، وجلال الدين حقاني (في باكتيا)، ثم بعد 11/9/2001 دخل في حماية الذين يؤونه الآن، فتعود بن لادن أن يحتمي بجهة أقوى».

وعن أطماع بن لادن يقول الدكتور فضل: «رحل بن لادن إلى أفغانستان ومعه طموحاته في الصدام مع أميركا لأجل الوصول إلى زعامة الأمة الإسلامية. كانت طموحات جمال عبد الناصر متواضعة، وهي مجرد الوصول إلى زعامة الأمة العربية التي لم يتجاوز عددها وقتئذ 150 مليونا، فانتهى الأمر إلى هزيمة مروعة لكل الجيوش العربية أمام إسرائيل في 1967، واحتلالها للجولان في سورية والضفة الغربية مع القدس الشرقية في فلسطين وسيناء. أما صدام حسين فكانت طموحاته أكثر تواضعا: مجرد الاستيلاء على الكويت فجلب الخراب على الكويت والدمار على العراق. وكلاهما (عبد الناصر وصدام) اتخذ من مناطحة أميركا ورفع قميص فلسطين شعارا له. وعلى نفس الطريق سارت (القاعدة) لتصل إلى زعامة الأمة الإسلامية بعددها الذي تجاوز المليار نسمة. ولأن الطموحات أكبر فلا بد أن تكون الكوارث أعظم. وفي بيان طموحاتهم وشعاراتهم قال أيمن الظواهري في كتابه (فرسان تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم) الذي كتبه قبل 11/9/2001، قال في صفحة 183 و184 (والشعار الذي تفهمه جماهير الأمة المسلمة جيدا وتتجاوب معه منذ خمسين عاما هو شعار الدعوة إلى جهاد إسرائيل، وفي هذا العقد أصبحت الأمة معبأة - بالإضافة إليه - ضد الوجود الأميركي في قلب العالم الإسلامي وأظهرت تجاوبها مع الدعوة لجهاد أميركا.. إن الحقيقة التي يجب التسليم بها هي أن قضية فلسطين هي القضية التي تلهب مشاعر الأمة المسلمة منذ خمسين عاما من المغرب إلى إندونيسيا.. واستطرادا في هذا السياق يجب علينا أن نؤكد على الأهمية البالغة لقضية تحرير الحرمين لدى الأمة المسلمة.. لذا يجب على الحركة الإسلامية المجاهدة أن ترفع شعار تحرير المقدسات الإسلامية الثلاثة: الكعبة المشرفة، والمسجد النبوي الشريف، والمسجد الأقصى المبارك، بهذا تجتمع لها أَزِمّة قيادة الأمة المسلمة، وتلتف حولها قلوب المسلمين في بقاع الأرض) و(أَزِمّة) جمع (زمام)».

ويصف فضل التفاوت الضخم بين أطماع «القاعدة» وقدراتها بالمعادلة الصعبة الأولى التي واجهت بن لادن وتنظيمه. ويكمل موضحا: «الهدف هو الوصول إلى قيادة الأمة المسلمة، ولكنه مطمع كبير في مقابل القدرات المحدودة لـ(القاعدة)، فكيف توصلوا إلى حل هذه المعادلة الصعبة؟ توصلوا إلى حلها عن طريق الاعتماد على قدرات الجماهير المسلمة من المغرب إلى إندونيسيا، فكيف يحركون هذه الجماهير؟ يحركونها بالحزمة التالية:

1- رفع الشعارات التي تلهب مشاعر الجماهير كما قال الظاهري: وهي شعارات (جهاد أميركا وإسرائيل) و(تحرير المقدسات الإسلامية الثلاثة).

2- تنفيذ بعض العمليات الاستعراضية ضد أهداف أميركية ويهودية، لإثبات أن (القاعدة) هي الجديرة بزعامة الأمة الإسلامية لأنها ضربت أعظم الأعداء، بحسب قولهم. ويدخل في هذه العمليات: تفجيرات نيروبي 1998، وضرب المدمرة الأميركية (كول) في عدن 10/2000، وتفجيرات 11/9/2001.

مع استقرار أمور بن لادن في أفغانستان بدخوله في حماية طالبان من 1997، بدأ في الإعداد للصراع مع أميركا وأراد تحويل هذه القضية إلى قضية كل الأمة الإسلامية بثلاث وسائل:

1- ترويج شعار إن أميركا هي سبب مصائب المسلمين، وقد بينت فساد هذا الشعار في مذكرة (التعرية) وغيرها، فالله سبحانه يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)، أما بن لادن فيقول: وما أصابكم من مصيبة فبسبب أميركا.

2- أخذ بن لادن في جمع فتاوى من مشايخ في باكستان وأفغانستان بوجوب جهاد أميركا بناء على الشعار السابق: وما أصابكم من مصيبة فبسبب أميركا. وذكر بعض هؤلاء المشايخ: الظواهري في صفحة 40 من كتابه (التبرئة).

3- قام بن لادن بتتويج ما سبق بإعلان جبهته المشئومة التي سماها (الجبهة الإسلامية العالمية لجهاد اليهود والصليبيين) في فبراير (شباط) 1998، وأصدروا - مع تأسيس هذه الجبهة - فتوى بأن (قتل الأميركان وحلفائهم، مدنيين وعسكريين، فرض عين على كل مسلم أمكنه ذلك في كل بلد تيسر فيه) من (صحيفة القدس العربي) 23/2/1998. وأشرك بن لادن معه بعض الجماعات الإسلامية في باكستان وبنغلاديش واشترك معه الظواهري بالمخالفة لقرار جماعته (جماعة الجهاد المصرية). ولتبرير اشتراكه في هذه الجبهة كتب الظواهري كتابه (فرسان تحت راية النبي صلى الله عليه وسلم)».