لحسبها ونسبها اختارها، ولجمالها ومالها وعلمها أحبها، أهَّلها الله لأن تكون الزوجة التقية النقية القادرة على تحمل الابتلاء في الزوج والمال والولد.
فما شكت وما جزعت وما لطمت خدًا، وما شقت جيبًا وما قطعت العبادة، إنها الصابرة العفيفة الخدومة «منشا» أو «ليا» بنت يوسف بن يعقوب على المشهور.
يذكر د. مصطفى مراد، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر، في كتاب «زوجات الأنبياء» أن أيوب عليه السلام ولد في أرض الروم لأبيه «موص»، وكان موص هو حفيد العيص بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام، اصطفى الله أيوب فاتخذه نبيًا من لدنه سبحانه ليهدى قومه إلى الحق وعبادة الله. وهب الله أيوب الكثير من المال وأسبغ عليه نعمه، فتملك الأراضي المتسعة والأنعام والمواشي والعبيد، إلى الحد الذي تردد فيه أن أيوب عليه السلام كان يمتلك أرض حوران كلها، ورزقه الله فوق ذلك كله بالأولاد حتى كثر أهله وذريته.
تزوج سيدنا أيوب عليه السلام من «منشا» بنت يوسف بن يعقوب - عليهما السلام - على المشهور وقيل «ليا» بنت يعقوب عليه السلام لخلقها ودينها وجمالها. وكان سيدنا أيوب عليه السلام يعيش مع زوجته في خير حال إلى أن جاءه الامتحان الإلهي، وأشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل، ووقف عليه السلام تجاه هذا الابتلاء بالصبر العظيم، والرضا الكبير وعدم الجزع والهلع والغضب والسخط.
وروى ابن أبى حاتم في تفسيره عن ابن عباس، قال: «قال الشيطان يا رب سلطني على أيوب، قال الله: - تعالى - قد سلطتك على ماله وولده، ولم أسلطك على جسده، فنزل وجميع جنوده فقال لهم: قد سلطت على أيوب فأروني سلطانكم، فصاروا نيرانا ثم صاروا ماء، فبينما هم بالمشرق إذ هم بالمغرب وبينما هم بالمغرب إذ هم بالمشرق فأرسل طائفة منهم إلى زرعه وطائفة إلى إبله، وطائفة إلى بقره، وطائفة إلى غنمه، وقال إنه لا يعتصم منكم إلا بالصبر، فأتوه بالمصائب بعضها على بعض».
* البلاء والمصائب
ويضيف أن الله سبحانه وتعالى سلب منه كل النعم التي أنعم عليه بها. راح المال ومات الأهل، فلم تبق معه سوى زوجته «ليا»، وابتلى أيوب في جسده بأنواع من البلاء، منها ما لم يعرفه الناس من قبل كالجدري. لم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه، يذكر بهما الله عز وجل، لكنه كان دائما الصابر المحتسب، ذاكر الله عز وجل في ليله ونهاره، وصباحه ومسائه.
وطال مرض أيوب، حتى عافه الجليس وأوحش منه الأنيس فأخرجه القوم من بلدتهم وألقوه على مزبلة خارجها، وانقطع الناس عنه. لم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته «ليا» التي كانت تفرش الرماد تحت زوجها لتضعه فوقه بعد أن تساقط لحمه حتى لم يبق إلا العظم والعصب. كانت «ليا» ترعى له حقه، لأنها تعرف قديم إحسانه إليها وشفقته عليها، فكانت تتردد عليه فتصلح من شأنه وتعينه على قضاء حاجته وتقدم له الطعام والشراب.
ومع استمرار البلاء الذي حل بأيوب، ضعُف حال «ليا» وقلَّ مالها حتى كانت تخدم الناس بالأجر لتطعم زوجها وتقيم أوده، رضي الله عنها وأرضاها، فهي صابرة لا تتبرم مما حل بها من ضياع المال وفراق العيال، ومصيبة زوجها، وضيق ذات اليد، وهوان حالها وهى تخدم الناس بعد أن كانت تعيش في اليسر والسعة، وترفل في النعيم الذي وهبه لها الله. سألت «ليا» نبي الله أيوب: يا أيوب. لو دعوت ربك لفرج عنك. فقال لها الصابر المحتسب: لقد عشت سبعين سنة صحيحًا، فهل قليل على الله أن أصبر له سبعين سنة أخرى؟ لم يشكو أيوب بلوته، ولم تيأس زوجته «ليا» من رحمة الله، كف الناس عن استخدام «ليا» في بيوتهم خوفًا من أن ينالهم من بلائه شيء، أو تعديهم زوجته التي تخالط أيوب السقيم العليل. لم تجد زوجته مالاً تشترى به طعامًا لأيوب، فقطعت إحدى ضفيرتيها، وباعتها لإحدى بنات الأشراف وابتاعت بثمنها طعامًا طيبًا قدمته لأيوب فسألها: من أين لك هذا؟
فقالت له إنها خدمت به أناسًا، فلما كان اليوم التالي، لم تجد أحدًا يستخدمها فباعت ضفيرتها الثانية واشترت بثمنها طعامًا، فأتت به أيوب، فأقسم ألا يأكله حتى تخبره من أين لها بهذا الطعام وكشفت «ليا» عن رأسها فلما رأى أيوب رأسها محلوقًا، فأقسم ليضربها مائة سوط لكذبها عليه، قيل هذا، وقيل أيضًا لأن الشيطان الرجيم تمثل لها في صورة طبيب يصف لها دواء لأيوب فأخبرت زوجها، فعرف نبي الله أنه الشيطان.
* الدعاء إلى الله
يقول د. أحمس حسن صبحي في كتاب «المبعوثون إلى الأرض - قصص الأنبياء»: «عندما جاء صديقان من أخص إخوان أيوب لزيارته يومًا، فلم يستطيعا الاقتراب منه لشدة نتانة الرائحة حوله، فوقفا من بعيد، فقال أحدهما لصاحبه: لو كان الله علم من أيوب خيرًا ما ابتلاه بهذا، فمنذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه ربه فكشف ما به. وجزع أيوب من الحديث، فقال يدعو ربه: اللهم إن كنت تعلم أنى لم أبت ليلة قط شبعان وأنا أعلم مكان جائع فصدقني. وأنى لم يكن لي قميصان وأنا أعلم مكان عار فصدقني. واشتد كرب أيوب عندما سمع أن ما به من بلاء هو ما يظنه الناس عقابًا من الله، فأخذته «ليا» إلى الخلاء ليقضى حاجته فأبطأت عليه، وأحس نبي الله بالضر بعدما باعت زوجته شعرها، وسمع قول صديقيه، فشعر بالخوف فدعا ربه يستجير به بأن الضر قد أحاط به، يستنجد برحمة خالقه عز وجل، أوحى الله لعبده الصابر أن يضرب الأرض برجله فنبعت عين ماء بارد بإذن الله، فأمره الله بأن يغتسل منها ويشرب، وأنزل الله عليه لباسا من حرير بعد أن رد الله على نبيه صحته وعافيته، ثم أمطر عليه جرادًا من ذهب، ظل أيوب يجمع منه وهو يلهج بالثناء والشكر لربه الكريم العاطي».
ويضيف د. مصطفى مراد، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر، في كتاب «زوجات الأنبياء»: «وإذا نظرنا لقول الله تعالى: (وأيوب إذ نادى ربه أنى مسني الضر وأنت أرحم الراحمين، فاستجبنا له فكشفنا ما به من ضر وآتيناه أهله ومثلهم معهم رحمة من عندنا وذكرى للعابدين). سورة الأنبياء: الآية 83/ 84، والآية نداء أيوب لربه: (وأذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه أنى مسني الشيطان بنصب وعذاب) صدق الله العظيم. سورة ص: الآية 41 فنجد أنه من المحتمل أن الحادثتين، حلق زوجته لشعرها، وتسلل الشيطان إليه بطريقة أو بأخرى، قد دفعا أيوب النبي الصابر إلى أن يستجير بربه بعد أن فقد كل مخرج له، ولم يبق سوى رحمة خالقه، والله وحده أعلم».
ثم جاءت «ليا» تبحث عنه لتأخذه إلى مكانه، فوجدت نبي الله في أحسن صورة وأبهى طلعة، فلم يساورها شك في أنه ليس بزوجها العليل، فسألته؟ يا عبد الله. هل رأيت نبي الله هذا المبتلى؟ ثم تفرست وجهه تقول: والله القدير على ذلك ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذا كان صحيحًا، فقال لها أيوب عليه السلام: فإني أنا هو يا «ليا».
رد الله على أيوب عافيته وصحته وماله وأهله وأمره سبحانه بأن يوفي قسمه بأن يضرب زوجته مائة سوط. وأوحى إليه الله بأن يجمع في يده مائة شمروخ من النخل ويضرب بها زوجته ضربة واحدة فيكون ذلك بمثابة مائة سوط، فيبر نبي الله بقسمه ولا يحنث، ويرحم الله امرأته الصابرة الأمينة ليخفف عنها ألم الجلد. وأنجبت «ليا» لزوجها أيوب عليه السلام البنين والبنات.