ربطت علاقة النسب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، والسيدة زينب بنت جحش رضي الله عنها، قبل أن يربط بينهما الزواج بأمر من الله عز وجل. فالرسول محمد صلى الله عليه وسلم، هو ابن خالها عبد الله بن عبد المطلب، وهي ابنة عمة الرسول صلى الله عليه وسلم، فأمها السيدة أميمة بنت عبد المطلب، وأعمام الرسول حمزة والعباس وغيرهما هم أخوالها، وجدهما واحد هو عبد المطلب.
ومن هنا يأتي اعتزازها الكبير بنسبها الرفيع، حتى أنها كانت تردد كثيرا «أنا سيدة أبناء عبد شمس».
نشأت السيدة زينب بنت جحش في أسرة عريقة، وتخلقت بكريم الصفات والخصال، وزادها إسلامها إيمانا وإيثارا ومحبة وبرا وعطفا ورحمة. وكانت السيدة زينب بنت جحش تسمى برة فاختار لها الرسول صلى الله عليه وسلم اسم زينب.
تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) في كتابها «نساء النبي»: «وصفتها الرواية بأنها كانت بيضاء سمينة من أتم نساء قريش، وكانت معتزة بهذا الجمال، كما كانت معتزة بنسبها الرفيع في آل سيد البشر».
وتضيف أنه «لو كانت زينب قد جاءت معتزة بجمالها وشبابها وقرابتها للمصطفى فحسب، لكانت بهذا كله كفيلة بأن تثير غيرة من في بيت النبي من أزواجه، فكيف وقد كان زواجها منه أمرا نزل به الوحي من عند الله جل في علاه؟».
ويقول الكاتب محمد حسين سلامة في كتابه «نساء فضليات»: «سمعت بدعوة النبي إلى الإسلام من أخيها عبد الله بن جحش فآمنت وحسن إسلامها وتخلصت من عادات الجاهلية، واتجهت إلى ربها خالصة مؤمنة، وعاشت حياتها تفقه نفسها، وتتزود من تعاليم ربها، ثم هاجرت إلى المدينة مع أخويها عبد الله وأحمد للفرار بدينها مع الصحبة المؤمنة»..
اختارها الله سبحانه وتعالى، لتؤدي دورا مهما في مجال التشريع الإسلامي، ونزلت فيها آيات قرآنية كثيرة، في مواقف مختلفة، وكانت نموذجا مثاليا، لطاعة الله عز وجل، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن أبرز ما ارتبط بها من تشريعات ونزلت بسببه آيات قرآنية كريمة:
ـ إزالة الفوارق الطبقية
ـ إبطال التبني
كما شاءت إرادة الله عز وجل، أن يرتبط بالأمرين الصحابي الجليل زيد بن حارثة رضي الله عنه.
أما عن مشاركتها في إزالة الفوارق الطبقية بين الناس، فقد تمثل ذلك في زواجها من الصحابي الجليل، زيد بن حارثة، رضي الله عنه، مولى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولم يكن ذلك معروفا في مكة أو عند العرب من قبل.
وقع لزيد في طفولته في الجاهلية حادث أليم، أحاله من حر كريم إلى عبد رقيق، حيث خرجت به أمه قاصدة زيارة قومها، فأغارت عليهم خيل معادية، ووقع زيد في أيديهم، فذهبوا به إلى سوق عكاظ في مكة، وباعوه هناك لحكيم بن حزام بن خويلد الذي أعطاه لعمته خديجة بنت خويلد، رضي الله عنها، فوهبته بدورها لزوجها محمد بن عبد الله، وكان ذلك قبل البعثة النبوية.
وعاش زيد كريما في رعاية الرسول صلى الله عليه وسلم منذ أن كان عمره لا يتجاوز ثماني سنوات حتى شبّ مثالا للأخلاق الحميدة والشجاعة والمروءة والوفاء.
مرت سنوات طويلة على غياب زيد عن أهله لم يتوقف خلالها أبوه وعمه وآخرون عن البحث عنه في كل مكان توقعوا أن يكون فيه، ولعبت المصادفة دورا مهما في الكشف عن ذلك المكان، حيث التقى زيد في رحاب الكعبة بعدد من أبناء قبيلته، وفدوا إلى مكة للحج والتجارة، فعرفهم، وعرف منهم جانبا من معاناة أهله في البحث عنه، فحملهم رسالة إليهم، يذكر فيها أنه بخير، وأنه في مكة، وفي رعاية أسرة من أعظم الأسر وأفضلها نسبا وكرما ومنعة.
لم يكد أبوه حارثة يعلم مكانه حتى انطلق بصحبة أخيه إلى مكة، فسألا عن محمد بن عبد الله، فأجيبا بأنه في الكعبة، فأسرعا إليه، ودار حوار خلده التاريخ الإسلامي، واحتفت به جميع الروايات.
ويسجل الدكتور محمد طلعت الأستاذ بجامعة الأزهر هذا الحوار في كتابه «أم المؤمنين زينب بنت جحش» على النحو الآتي:
لما وصلوا مكة دخلوا على محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم قائلين له: يا ابن عبد المطلب بن هاشم، يا ابن سيد قومه، جئناك في ابن لنا عندك فامنن به علينا، وأحسن إلينا، وخذ منا ما استطعنا القدوم به عليك، لنفتديه.
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من هو ابنكم؟».
فأجابوه: زيد بن حارثة.
فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فهلا غير ذلك؟».
قالوا: وما هو؟
قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تخيرونه، فإن اختاركم فهو لكم من غير شيء، وإن اختارني فما أنا بالذي أختار على من اختارني أحدا».
فأجابوه فرحين: قد زدتنا على النصف وأحسنت.
فدعاه وقال: «هل تعرف هؤلاء يا زيد؟».
قال: نعم، هذا أبي وهذا عمي.
فرد عليه: «فأنا من قد عرفت صحبتي لك فاخترني أو اخترهما».
قال زيد: ما أنا بالذي أختار عليك أحدا.
فقال عمه له: ويحك يا زيد، أتختار العبودية على أبيك وعمك؟
فرد زيد: إن لهذا الرجل لشأنا، وما أنا بالذي أختار عليه أحدا أبدا.
وتجمع الروايات على أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأى ذلك أخرج زيد إلى الكعبة، فقال: «يا من حضر، اشهدوا أن زيدا ابني يرثني وأرثه».
فلما رأى ذلك أبوه وعمه طابت نفوسهما فانصرفا.
وصار زيد لا يُعْرف في مكة كلها بعد ذلك إلا بـأنه زيد بن محمد.
ويعد زواج زينب بنت جحش من زيد ـ رضي الله عنهما ـ مثلا حيا على حرص الإسلام على إزالة الطبقية بين الناس، وتحقيق المساواة عمليا بينهم، فهم جميعا كأسنان المشط، ولا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي زوج زيد من زينب؛ لكونه مولاه ومتبناه، فخطبها من نفسها على زيد، فرفضت في البداية، متعللة بأنها خير منه حسبا. وطال الحوار بينهما.. أخبرها الرسول صلى الله عليه وسلم أنه يوافق على الزواج.. وظل الأمر بلا حسم، حتى نزل الوحي بقوله تعالى: «وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَة إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَة مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا».. (سورة الأحزاب: 36).
فلم تجد السيدة زينب إلا أن تستجيب وتوافق على هذا الزواج، طاعة لله، وتحقيقا لرغبة رسوله صلى الله عليه وسلم، في تطبيق عملي للقضاء على الطبقية من طرفين قريبين من رسول الله، هما: ابنة عمته زينب، ومتبناه زيد.
يقول الكاتب محمد علي قطب في كتابه «نساء حول الرسول»: تم زواج زيد من زينب، فانطوت صفحة سوداء قاتمة في تاريخ الجاهلية، وأشرقت صفحة ناصعة تنطق بالحق «إن أكرمكم عند الله أتقاكم».
زوجات الأنبياء - الحلقة (14): زينب بنت جحش.. شاركت في إلغاء «الطبقية» بين البشر
9:16 دقيقه