الحلقة (6): زمن «داعش».. معاداة التاريخ

تواصل «الشرق الأوسط» نشر حلقات من فصول كتاب «من بوعزيزي إلى داعش: إخفاقات الوعي والربيع العربي»، من تأليف الكاتب والباحث السياسي المصري هاني نسيره الذي يعمل حاليا مديرا لمعهد العربية للدراسات بقناة العربية بدولة الإمارات. ورصد المؤلف في كتابه الصادر عن «وكالة الأهرام للصحافة» - والتي حصلت «الشرق الأوسط» على حق نشر حلقات من فصوله - سنوات الثورات العربية الأربع وتابع الكاتب تشابهاتها واختلافاتها، وحاول تفسير أسباب تعثر ثورات ونجاح أخرى في إسقاط من ثارت بوجهه، حين اشتعلت من جسد بوعزيزي بتونس ومن أشباهه في مصر، إلى الانتقال من دعوى الربيع العربي ووعده وأمنياته إلى حقيقة «داعش» الداهمة.
وفيما يلي الحلقة السادسة من الكتاب:

الغيبة الزمانية

إن أكبر مشاكل الفكر المتطرف أنه يعيش غيبة زمانية ومكانية.. أما الغيبة الزمانية فتتعلق بتعاطيه مع الواقع المتغير بصور ومفاهيم تاريخية خارجة على هذا الواقع الراهن، يخلط بين الدولة والإمامة، وبين الجماعة والمجتمع، وبين الحزب السياسي والجماعة وولائها وبين المجتمع من جهة أخرى!
أما الغيبة المكانية فكونه لا ينحصر وطنيّا، بل يظل الانتماء الوطني أحيانا مستخفا به أو صنما لا يجوز الإيمان به أصلا، كما قال الظواهري في إحدى رسائله، ويتحرك خارج الحدود والسيادة الوطنية، ومفاهيم الدولة الحديثة ينطلق من مفهوم الأمة لا مفهوم الوطن، وفي إطار الجماعة لا إطار المواطنة، يرى العالم صراعا بين فسطاطين، إيمان وكفر، وليس معارضوه سوى جزء من المؤامرة الكونية التي يحيكها الباطل على الحق الذي يجسده، فيسقط وطنيّا بينما هو يدعي أستاذية العالم أمميّا، ويخوض في الباطل وهو يدعي أنه يحتكر الحق.
إذا فهمنا هذه العزلة العقلية لا نندهش ممن وصف عبد الرحمن بن ملجم قاتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - بأنه تقي ورع وأن قتيله شر البرية دينا!
يقول الخارجي عمران بن حطان (مات مختفيا سنة 84 هجرية) في مدح ابن ملجم:

يا ضربة مِن تقي ما أراد بها * * * إلا ليبلغَ مِن ذِي العرش رِضوانا
إني لأذكره يوما فأحسبُه * * * أَوفى البرية عند الله ميزانا
أكرِم بِقومٍ بُطُون الأرض أقبرهم * * * لم يخلطوا دينهم بَغيا وعدوانا

باسم الدين، وعبر تشوه فهمه إذا شئنا الدقة، يقتل صهر النبي صلى الله عليه وسلم وابن عمه الخليفة الرابع الراشد، وأول المؤمنين حسب العديد من الآثار.
كذلك انفصلت الأصولية المعاصرة المتمثلة في الإسلام السياسي التنظيمي والجهادي بالخصوص، عن كل أطروحات التجديد الإسلامي التي حاولت المصالحة بين النص والتاريخ أو بين الثابت والمتغير، بين الوطن والأمة، على مستوى التصورات، ولا أتحدث هنا عن محاولات التجديد الفكري على هامشها التي ظلت هامشا، أثبتت تجربة الواقع مع الثورات العربية الأخيرة أنها لم تؤثر بشكل حقيقي في خطاب وممارسة هذه الجماعات، حيث تصاعد التطرف وتراجعت الوسطية عند كل تجربة وأزمة.
لا بد في هذا السياق من التذكير بأن مفاهيم الدولة والوطن والمواطنة والدستور والمؤسسات مفاهيم حديثة في خطابنا العربي المعاصر، تنتمي للحداثة أو العصور الحديثة بشكل رئيس، ولم تكن مفرداتها موجودة في قاموس ثقافتنا وتراثنا العربي الإسلامي.
ورغم وجود مفاهيم قريبة منها في هذا التراث، فإنها لا تطابقها ولا تقاربها في إدارة شؤون الناس، فعرفنا الإمامة والخلافة والسلطان والسلطنة وغيرها من المفاهيم التي تقوم على الشرعية الدينية أو شرعية العصبية والغلبة، بالمصطلح الخلدوني، ولكنها ليست هي الدولة الحديثة سواء في مرجعيتها المتعلقة بالحدود الوطنية أو مفاهيمها المتعلقة بالمساواة بين مواطنيها، مستوطنيها، بغض النظر عن الدين واللغة والعنصر، وتلتزم الحياد تجاه الطوائف والأقليات دون تمييز بينها.
كذلك عرفت الثقافة الإسلامية تاريخيّا مصطلحات شبه مؤسساتية، كأهل الشورى وأهل الحل والعقد وأهل الشوكة والبيعة في تراثنا الفقهي السياسي، ولكنها كذلك لم تكن مفاهيم ثابتة ومتمكنة، اختلفت شرعيتها بين حقبة وأخرى، فكانت في عصر الخلافة الراشدة قائمة على أسبقية الدين وفضيلة التقوى، ولكنها مع التحول للكسروية والقيصرية في العصر الأموي والعباسي الثاني، قامت على القوة والغلبة، حتى صار الجند وحدهم هم أهل الشوكة ينصبون من يشاءون ويخلعون من يشاءون.
مما يجعلنا نؤكد أن هذه الأشكال التقليدية والعرفية في الزمان الإسلامي الأول - إن صح التعبير - ليست هي المؤسسات الحديثة التي تقوم شرعيتها على اختيارات الناس وخياراتهم بشكل منظم، ولعل من المهم الإشارة إلى أن مفاهيم كأهل الحل والعقد أو أهل الشورى لم يجر الحفاظ عليها عبر تطويرها والتمكين لدورها، فضلا عن تحديده شورى أم استشارة، بل ظلت نظرية وجزءا من التاريخ الفقهي أكثر منها جزءا من التاريخ السياسي والاجتماعي للعرب والمسلمين، وحلت محلها مفاهيم كإمارات التغلب والاستيلاء وأهل الشوكة لا غير مع مرور الوقت.
يكتفي الإسلام السياسي قانعا لنفسه وللتاريخ الخليفي بصورة مثالية ناصعة، رغم أن تاريخنا السياسي والسلطاني مدفوع ومحبوس ومتوتر بين رحى الفرق والطوائف، وحروبها الآيديولوجية والفعلية حول الإمامة، التي كانت الفارق بين الفرق بتعبيرات عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة 429 هجرية وصاحب كتاب «الفرق بين الفرق» وحيث تمايزت كل فرقة وقانونها الإيماني عن سواها بموقفها من تلك الإمامة والأحق بها، كحراسة للدين وسياسة للدنيا، دون اهتمام فعلي بكيفية الحراسة أو السياسة، إلا نادرا، ولم تنجح محاولات إنزالها من علياء المثال الديني لحركة التاريخ التي حاولها أمثال صاحب الغياثي أبو المعالي الجويني توفي سنة 457 هجرية أو حاولها بعده ابن خلدون في مقدمته وابن تيمية في منهاج السنة النبوية رفضا لأيقنة الإمامة التي التزمها منقوده الشيعي ابن المطهر الحلي في كتابه المشهور منهاج الكرامة.
انقطاعا عن مثل هذه الجهود التجديدية كالخلدونية والتيموية، قديما أو غيرهما حديثا، يجعل حزب التحرير استعادة دولة الخلافة شرطا لاستئناف الحياة الإسلامية، ويجمع الجهاديون والفكر الإخواني على أنه شرط كون الدار دارا إسلامية، فتبدو صورة الإمامة والخلافة هكذا في المخيال الأصولي متعالية فوق التاريخ، تستعصي على التحليل والنقد! رغم أنها تتحرك فيه وبه.
من هنا كانت جهود مفكري الإصلاحية الإسلامية في العصر الحديث بالنسبة لكثير من هذه التيارات زندقة! كما كتب أحدهم يوما في وصف رفاعة الطهطاوي توفي سنة 1873 ميلادية، الذي حاول ترجمة نصوص من الدستور الفرنسي، وسماه الشرطة ترجمة حرفية للمفردة الفرنسية، والذي كان أول من أشار للمواطنة حين تحدث في أشعاره عن إخوة الوطن في إشارة لوحدة العنصر المصري بين المسلمين والمسيحيين ([1])، وكذلك خير الدين التونسي سنة 1890 ومحاولته وضع أول دستور عربي، يعترف بالتاريخ ويطرح مبكرا سؤالا عن لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا، وكذلك مفكرو التنظيمات في تركيا مثل أبو الدستور مدحت باشا توفي سنة 1884 ونامق كمال وغيرهما! ممن حاولوا جعل الخلافة دولة! وكانت نهاية مدحت باشا سجينا في سجن بالطائف.

تجاوز الإسلام السياسي

لم يعرف القاموس العربي كلمة الدستور، ذات الأصل الفارسي والتركي، والتي كانت تعني في بلاط السلاطين شيئا متعلقا بالعرش وزينة الملك، ولا تعني مرجعية القوانين وقواعد بنائها وصياغتها، وكان أول من نسب إليه مدحت باشا وخير الدين التونسي، مما يؤكد قولنا بحداثة هذه المفاهيم.
تجاوز الإسلام السياسي حقائق التاريخ ومحطاته كلها، والتحم بمقولة الحكم الإسلامي والسياسة الإسلامية عقديا، دون أن يستوعب مفهوم الدولة والمواطنة والوطن، منفعلا فقط بسقوطها وساعيا سعيا حثيثا للحكم باسمها.. اكتفى بالصورة المثالية للخلافة والخلفاء الراشدين، رضوان الله عليهم، في العقود الثلاثة الأولى، متجاهلا مساراتها وتحولاتها لملك عضود قسري وجبري مع الأمويين، حيث قتل الحسين وسعيد بن جبير ثم مع العباسيين حيث مقاتل الطالبيين للأصفهاني، وصيرورتها نزعات تسلطية تحكم بمنطق الغلبة والتغلب، فقضى ما لا يقل عن 35 خليفة أموي وعباسي وفاطمي ما بين مقتول ومعزول مهان، حتى كان أحدهم وتاسع عاشرهم القاهر بالله (932-934 ميلادية) يتسول الناس كفيفا في شوارع بغداد.
لم تمثل الخلافة منذ العصر العباسي الثاني كيانا توحيديّا أو اتحاديّا، بل انقسمت وتصارعت الخلافات والسلطنات والإمارات، وتآمرت على بعضها بعضا، فقاتل علاء الدين خوارزم شاه المغول وحده حتى قتل أهله وسبيت أمه وزوجاته، وانتهت مملكته، وكانت أعظم ممالك المسلمين حينئذ، وكان يلقب نفسه بملك الملوك، في عهد ابنه جلال الدين الذي لم يستطع استرداد ملك أبيه وقتل وحده! بينما كان الخليفة أسير السلاطين الأتراك في بغداد لا يحرك ساكنا ولا يسكن محركا، كما كان سلفه حين كان صلاح الدين الأيوبي يحارب الصليبيين وحده في حطين سنة 581 هجرية، ساعيا لتحرير الأرض المقدسة! دون مساعدة تذكر من خليفة حينئذ!
تحولت الخلافة بعد غزو المغول العالم الإسلامي وسقوط بغداد سنة 656 هجرية، وانتقال بعض بني العباس لمصر، ومحاولة الظاهر بيبرس إحياءها عبر تنصيب أحدهم خليفة، لمجرد مظهر اسمي يسخر العوام من صاحبه كما يذكر ابن كثير، حيث كان يسمى الخليفة الأسود! لأنه كان شديد السواد ولم تشبع صورته مشاعر العامة، وفشل في محاولته استعادة بغداد، وقتل في أول معركة بعد أن جهز له الظاهر بيبرس جيشا تكلف حسب ابن كثير ألف ألف دينار حينئذ!

«داعش» ومسألة إحياء الخلافة

أعلن تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) الذي تأسس في مرحلته الرابعة في سوريا، في أبريل سنة 2013 الخلافة وسمى أميره أبا بكر البغدادي خليفة المسلمين في 29 يونيو، وهو لم يعلن جديدا للمخيال الإسلامي ولكن أعلن ما تمنته وتعلنه دائما رديفاته وأشباهه من الحركات الإسلامية الأخرى، وسعى لما سعت له سائر الجماعات الجهادية الأخرى (أمير الجماعة هو أمير المؤمنين)، وإن كان أكثرهم طموحا فأعلنها خلافة آخر الزمان.. بل حاولتها أنظمة كثيرة في تاريخنا تمسكا وتمسحا بشرعيتها سواء بعد سقوط الخلافة العباسية سنة 656 هجرية، أو بعد سقوط الخلافة العثمانية سنة 1924 هجرية.
تعود المحاولة الأولى لإحياء أو استعادة الخلافة بعد سقوطها الأول العباسي/ التتري، لتنصيب الظاهر بيبرس سنة 657 هجرية، عباسيّا من أبناء الخلفاء، وبيعته خليفة في مجلس من العلماء والأشراف، ولكن الخليفة الأسود - كما كانت تلقبه العامة للونه - قتل بعد عام واحد في أول معركة خاضها لاسترداد بغداد قبل أن يدخلها، بعد أن جهز له بيبرس جيشا تكلف - حسب ابن كثير - ألف ألف دينار، استهدف بيبرس من ذلك التمكين لحكم المماليك (وهم غير أحرار لا تجوز توليتهم شرعا) في بداياته عبر هذه المحاولة!
وبعد سقوطها الأخير العثماني/ الأتاتوركي عام 1924 لفت دعوى إحياء الخلافة واستعادتها مختلف تيارات وفكريات الإسلام السياسي والجهادي على السواء، فنشأت «الإخوان المسلمون» سنة 1928 وحزب التحرير (سنة 1953)، وغيرها رد فعل وانفعالا بهذا السقوط، وراودت رغبتها بعد السقوط ملك مصر حينئذ السلطان أحمد فؤاد، الذي بادر لعقد مؤتمر للخلافة فشل في تحقيق نتائجه وحرفها إليه سنة 1925.
بالخلافة والخليفة جاء إعلان «داعش» الأخير في 29 يونيو، حيث سمت أميرها أبا بكر البغدادي خليفة للمسلمين، وهو ما صعدت به درجة في السلم الآيديولوجي والجهادي عن طالبان، التي ظلت إمارة إسلامية يرأسها الملا عمر باعتباره أمير المؤمنين بعد أن بايعه أنصاره بذلك في 3 أبريل سنة 1996، وكلاهما غائب مطارد ولا تعرفه أمته!
لكن بينما وقفت طالبان (تأسست 1994) عند الإمارة الأفغانية، التي اعتبرتها «القاعدة» دار الإسلام، وأوجبت على عناصرها الهجرة إليها، توسعت «داعش»، التي تأسست أبريل سنة 2013، من وصف الدولة إلى دعوى الخلافة الإسلامية، قبل أن يبلغ عمرها عاما ونصف العام؛ لتؤكد مكانتها في قيادة الجهادية العالمية بعد أقل من شهرين من مفاصلتها مع «القاعدة».
أكد إعلان «داعش» الخلافة، الصراع على قيادة الجهاد العالمي، بين تنظيماته بعد أقل من شهرين من قطيعتها مع «القاعدة» في مايو الماضي، في تسجيلها الصوتي «عذرا أمير القاعدة» الذي طعنت فيه الظواهري في مقتل علاقته بإيران، كما أوجبت عليه بيعة أميرها البغدادي، كما سبق أن بايع أمير طالبان، وبعد إعلانها الأخير «الخلافة» أوجبت على كل التنظيمات والفصائل الجهادية البيعة، وخاطبتهم: «بطلت شرعية جماعاتكم وتنظيماتكم، ولا يحل لأحد منكم يؤمن بالله أن يبيت ولا يدين بالولاء للخليفة»، وهددت بشق رأس كل من يشق الصف.
تباعا وبعد يوم واحد جاءت بيعة تنظيم بعض عناصر «القاعدة» في المغرب العربي لأمير «داعش»، ونشأ صراع بين الجهاديين في درنة الليبية، بعد مقتل أحد أنصارها وبيعته البغدادي، وكما تصر «داعش» على التمدد أرضا سوريّا وعراقيّا في بنى أنظمة فاشلة ومرفوضة شعبيّا، تتمدد آيديولوجيا بدعوى الخلافة محتكرة الشرعية دون التنظيمات الجهادية الأخرى وفي مقدمتها «القاعدة»، مما قد ينذر بحرب واسعة بينها فيما بعد!

الخلافة وسايكس بيكو قديم

ربطت «داعش» بين صعودها في 9 يونيو الماضي، وتمددها في أزمات الدول الفاشلة سوريّا وعراقيّا، واعدة بإسقاط حدود سايكس بيكو الاستعمارية، وتحقيق الوحدة الإسلامية عبر هلالها ودعوى الخلافة التوحيدية، رغم أن سايكس بيكو نفسه لم يكن إلا والخلافة العثمانية التي تسعى «داعش» لاستعادتها قائمة، وهو ما نود توضيحه في الملاحظات الخمس التالية:
1- لم تظهر هذه القضية إلا بعد اكتمال الدين وانقطاع الوحي مع رحيل النبي - صلى الله عليه وسلم - فهي مسألة تاريخية وليست عقدية، وليست عند السنة أشرف مسائل الدين ولا من أشرفها كما يقول الإمام ابن تيمية (توفي 728 هجرية) في منهاج السنة، كما افترض قبله الإمام الجويني توفي سنة 457 هجرية، خلو الزمان عن إمام، وعقلنها ابن خلدون حين فسر تاريخ الخلافة والدول بعوامل العصبية والتغلب، وهي أمثلة لمحاولات ضبط تصوراتنا تاريخيّا وتحريرها من المثالية واللاتاريخية فيها.
2- بعد الفتنة الكبرى غدت الخلافة طرحا لا جمعا، وكرة ساخنة بين رحى التكفير والتعصب بين الفرق والطوائف، ومثلت الإمامة الفارق بين الفرق كما يقول عبد القاهر البغدادي المتوفى سنة 429 هجرية بنفس العنوان.
3- منذ العصر العباسي الثاني لم يكن للخليفة غير الخطبة والسكة أغلب الأحيان، بينما السلطان لأمراء الجند، يعزلون من شاءوا وينصبون من شاءوا، وقد قضى ما لا يقل عن 40 خليفة أمويّا وعباسيّا وفاطميّا ما بين مقتول ومعزول مهان، حتى مات أحدهم وتاسع عاشر العباسيين القاهر بالله (932-934 ميلادية) يتسول الناس كفيفا في شوارع بغداد بعد عزله، وفقد متأخروهم السيطرة على عاصمة الخلافة ذاتها، كما كان حين استنقذها طغرلبك السلجوقي سنة 447 هجرية منهيا حكم البويهيين.
4- لم تكن الخلافة وحدة أو اتحادا، كما هي الصورة المثالية الرائجة لها، فبعد سقوط الأمويين نشأت خلافات منافسة أموية أندلسية وفاطمية مصرية، وتقاسمت ولاياتها فيما بعد الأمراء والسلاطين، فيما يشبه سايكس - بيكو قديم دون مؤامرة خارجية، وحارب صلاح الدين الصليبيين وحده دون عون من خليفة، كما حارب خوارزم شاه وحده جنكيز خان والمغول حتى قتل دون نظر منه، بل قيل بإيعاز منه في بعض الروايات.
5- وقعت سايكس بيكو سنة 1916 والخلافة العثمانية قائمة ولم تمنعها، ترنحت قبل ذلك بعقود، وكان السقوط بعدها بسنوات، عاصمتها محتلة وسلطانها محاصر، وحين كانت هذه الخلافة قائمة سقطت مصر في يد الاحتلال مرتين، الفرنسي سنة 1798 والإنجليزي سنة 1882 كما سقطت الجزائر (1839) والهند (1857) وتركيا ذاتها (1919).
فلم تكن غير شيخ مريض بحاجة للإسعاف ولا يسعف أحدا، أو خليفة أسود لن ينتصر بدعوى الخلافة في معارك الواقع والتاريخ.
ربما بعد فشل محاولة الملك فؤاد ومؤتمر الخلافة في مصر سنة 1925 كان المناخ الشعبي والعام مهيئا للعودة لهذه المقولة، خاصة بعد معركة كتاب علي عبد الرازق «الإسلام وأصول الحكم» فدعا حسن البنا لإنشاء جمعية تطالب بعودتها سنة 1927 حيث شارك مع آخرين في إنشاء جمعيات الشبان المسلمين، التي ظلت نخبوية، ثم أنشأ تحت قيادته جماعة الإخوان المسلمين.. متجاوزا تراث الخلافة التاريخي، ومؤكدا أنها مسألة دينية وعقدية.. وكانت النهاية وصولنا للزمن الداعشي!
تعمد البنا وكل دعاة الخلافة قبله تجاهل التاريخ، والتعلق بالمثال كيوتوبيا تورث أصحابها في النهاية السقوط في الهاوية، وهو ما يجعلنا لا نستغرب معاداة بعض الجهاديين للتاريخ بل رفض بعضهم لتدريس فقه السيرة تعلما من سيرة النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - كمصدر للفهم والاحتكام! كما قال عبد القادر بن عبد العزيز في كتابه الجامع! الذي كان يعد كتابه هذا دستور القاعدة والجهاد قبل مراجعات صاحبه، التي تظل مراجعات تاريخية وعملية وليست تأسيسية برأينا، وهو ما فصلناه في موضع آخر!
هذه الأيقنة المثالية للخلافة التي يجعلها حزب التحرير أساس الإسلام الأول، وشرط استئناف الحياة الإسلامية، تتجاوز كل وقائعها وتاريخها الأولي قديما وحديثا، وتتجاهل ما ثبت من ترك النبي - صلى الله عليه وسلم - الأمر شورى بين أصحابه دون أن يعين لهم أحدا! فابتلعت صورتها وشوهت اعتقاد الفرق قديما والجماعات حديثا، وغدت الحاكمية أخص عقائد الألوهية بتعبيرات سيد قطب وخلفه كأبي محمد المقدسي، وصار كل أمير جماعة دينية يتصور نفسه خليفة وكل صراعات الناس اختلافا واتفاقا تدار من منطق صوابهم المطلق وخطأ غيرهم المطبق! وفق نظرة تآمرية لا يسلم منها القريب المخالف أو البعيد المختلف، فالكل يتآمر على الجماعة التي تتصور نفسها الطائفة المنصورة والفرقة الناجية، التي تزايد على إيمان كل المختلفين حتى يخرج من عباءتها من يزايد عليها، فزايد الجهاديون على الإخوان وزايد الداعشيون على «القاعدة» وقتلوا أبا خالد السوري عام 2014 فوجدنا آدم غادان القيادي في «القاعدة» يتهمها في 30 مارس سنة 2014 بالشطط والغلواء، وكذلك اتهمها أبو قتادة الفلسطيني قبله، كما سبق أن اتهم أبو قتادة والظواهري والجماعة الليبية المقاتلة في ليبيا الجماعة الإسلامية المسلحة في الجزائر بالشطط والغلواء والتطرف، بعد أن قتلت عددا من عناصرهم! ولم يبالوا حين قتلت 500 عنصرا جزائريّا رأوا إمكانية المصالحة مع الدولة الجزائرية عام 1995 كان في مقدمتهم الشيخ محمد سعيد زعيم تيار «الجزأرة» الذي يلتزم فكر المفكر الجزائري الراحل مالك بن نبي مرجعية له دون مرجعيات الإسلام السياسي غير الجزائرية.
بمنطق الحقيقة المطلقة، والخلط غير المضبوط بين الديني والاعتقادي والسياسي دخل الإسلاميون سجال الثورات العربية متأخرين، ولكن نجحت تنظيماتهم وشبكاتهم الاجتماعية والخارجية الداعمة لهم في التمكين لهم، ليحصدوا وحدهم ثمارها، فصعدت هذه الجماعات لسدة السلطة في بلاد الثورات، بمنطق شعبوي زايد على إيمانات الناس وشوهت معارضاتها، حتى ولو كانت كالمؤسسة الأزهرية، وزايدت على كل من تحفظ على خطابها وممارساتها، في الداخل والخارج، واستقوت بجماهيرها وشبابها على مخالفيها، فلم تستطع أن تلملم شملا أو تبرئ جرحا أو تنصف مختلفا، مكتفيا فقط بمنطق العشيرة والجماعة وفكر العزلة السري الذي يلف مجتمعها دون المجتمع والوطن الكبير! فانتفض الجميع بوجهها حتى سقط نموذجها المصري كما سبقه نموذجها السوداني ونموذجها الإيراني وما زال يهتز نموذجها الإردوغاني، الذي ما زال يحافظ على دولة أتاتورك، ويلتزم منهج «العلمانية المؤمنة» حسب وصف أنصاره، وهي الفكرة التي كانت حركة النهضة التونسية أكثر حركات الإسلام السياسي العربية قبولا وترحيبا بها، قبل الثورات وبعدها، فنجت بنفسها عن مصير الإخوان في مصر كما نجا قادتها عن مصير بديع والشاطر المنتميين للفكر القطبي.. ولكن لا شك أن الإسلاميين وأدوا ما كان يسمى الربيع العربي حين سرقوا الثورات العربية وامتطوها نحو طموحاتهم لا طموحات شعوبهم وأمتهم.

* ينشر بترتيب مع وكالة الأهرام للصحافة