الإرهابيون بين المرض النفسي وجنون التطرف الآيديولوجي

التعصب إشكالية حاضنة يولد من رحمها العنف

عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
TT

الإرهابيون بين المرض النفسي وجنون التطرف الآيديولوجي

عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)
عناصر من «داعش» يستعرضون قوتهم في مدينة الموصل العراقية قبل تحريرها من قبضة التنظيم الإرهابي (أ.ب)

من جديد يستهدف الإرهاب والإرهابيون بعض المواقع والمواضع في أوروبا، وهذا ما رأيناه الأسبوع الماضي في فرنسا، وزعم «داعش» أنه كان وراء إصابة ستة جنود فرنسيين في حادثة «دهس» بإحدى الضواحي الباريسية... عطفاً على ذلك انطلق حوار واسع حول علاقة الإرهاب والتطرف بالأمراض النفسية والعقلية، وفي ألمانيا تحديداً بدا وكأن هناك جدلاً كبيراً يسود الأجواء حول كارثية استخدام الإرهابيين والقيادات المتقدمة في صفوفهم للمضطربين عقليّاً، والمتعصبين آيديولوجيّاً في عملياتهم الانتحارية لـ«سهولة غسل أدمغتهم»، وهي أزمة لا تتصل بأوروبا فقط، بل تمتد حول قرارات القارات الست، فالمتعصب سلس الانقياد، لا سيما إزاء الإشكاليات الدوغمائية المطلَقَة، بخلاف المتسامح الذي يقبل بالآخر وبآرائه دونما أدنى شوفينية.
هذا السياق الفكري قد يُحتِّم علينا أن نتوقف ونتساءل: هل هزيمة «داعش» في العراق وسوريا وتضييق الخناق على الفارين من معارك التنظيم الخاسرة، هي نهاية المد الأصولي لهذه الجماعة الإرهابية أم أن الإشكالية أوسع وأعقد، وتتصل بالطب النفسي أكثر مما تتصل بتحليلات رجالات الأمن والاستخبارات، على أهمية هذه الأخيرة؟
السؤال المتقدم يقودنا إلى قراءتين؛ الأولى عن إشكالية التعصب الحاضنة التي من رَحِمها يُولَد الإرهاب، والثانية العدد المقبل بإذن الله، حول التعاطي مع يتامى «داعش» العائدين من ميادين الحرب الظلامية إلى بقية دول العالم، وكيفية التعامل معهم وأي سبيل أنجح؛ الاحتواء أم الردع؟ ثم ما هي أفعل الآليات لمقابلة الخطر الآيديولوجي الكامن تحت جلد البشرية في نهايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين؟
يعد كتاب «المتعصبون جنون الإيمان» الصادر حديثاً عن «دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع» في دمشق، أحدث الأعمال الفكرية والنفسية التي تعالج الأزمة التي نحن بصدد تشريحها.
الكتاب من تأليف البروفسور برنار شوفييه الأستاذ في معهد علم النفس المرضي في جامعة ليون الفرنسية، ومن ترجمة د. قاسم المقداد، أستاذ السيميائية والترجمة في قسم اللغة الفرنسية (كلية الآداب - جامعة دمشق).
يتساءل المرء: ما حاجتنا اليوم للحديث عن التعصب؛ الخلية الأولى للأصولية وللإرهاب؟
الجواب باختصار غير مخلٍّ: لأن التعصب ينحو نحو الاتساع والراديكالية في أيامنا هذه، وكأنه ينبعث من رماده بأشكال متنوعة ومتعددة، كالعنقاء المتوحشة التي لا يتوقف سعيها وراء طرائد جديدة.
يفتح البروفسور شوفييه عيون قلوبنا على أنه خلف هذه الأعمال الإرهابية وهذا العنف رجال ونساء يناضلون من أجل قيم عالية إلى حد ما (بالنسبة لهم على الأقل كمسألة الخلافة في حالة «داعش») ويعبرون عنها، لكنهم يضعون دائما فكرة معينة عن الإنسانية في مقدمة مطالباتهم.
السؤال الذي ينبغي لدول العالم (إذا أرادت أن تكافح الإرهاب بطريقة جذرية) أن تطرحه على موائد النقاش: كيف لنا أن نفهم أن أشخاصاً يؤمنون بقضية ينتقلون بقوة إلى ممارسة العمل التدميري؟
مؤلف الكتاب يجزم بأن رَسْمَ لوحة للمتعصب هو أمر يعني أن نضع له وجهاً، ونتعرف على الشخص الذي يتخفى خلف القناع، ومقاربة الأفكار التي يجسدها أناس ويبعثون الحياة فيها.
كارثة التعصب أنه قد يكون في بعض المرات جنوناً عابراً، لكن في كثير من الأحايين يضحي طريقة في التفكير وطريقة في الفعل بشكل منهجي، فأن يعيش المرء متعصباً، فهذا لا يعني أن التعصب يصبح وسيلة فحسب، بل يصبح هدفاً أيضاً وغاية أخيرة.
يقدم لنا الكاتبُ المتعصِّبَ بوصفه «إنسان المقدس»، لكنه ليس أي إنسان، ولا المقدس أي المقدس، فهذا الإنسان يهب نفسه جسداً وروحاً فيغالي في افتداء قضيته، بل يستبدّ به، وله جنون بما يؤمن به، وعليه، فالمقدس المعنيّ هنا يتقمص المثال والمطلق، لدرجة يغطي معها حتى ذلك المجال الذي يفترض به أن يكون بعيداً عنه، أي مجال المدنس، فلا يعود المتعصب يفرق بينهما، لأنه تحول إلى كتلة كيانية واحدة.
كما يبين البروفسور شوفييه كيف أن مشكلة المغالاة لدى المتعصب فيما يترتب على فعله من نتائج مأساوية يخلقها تصرفه، وقد لا يكون الأمر بهذه الخطورة إذا توقفت النتائج عنده، لكن هيهات، إذ تتوالد آثار أفعاله فتدمر الآخرين أيضاً.
هل «داعش» وقبله «القاعدة» وما سبقهما من حاضنة أكبر للإخوان المسلمين كجماعات متعصبة هي نتاج طبيعي لـ«سلطان التعصب»؟
الشاهد أن المتعصب يتصف بقراءته للقيم بشكل معكوس، ما يفقد الحياة بالنسبة له قيمتها، ويصبح للسلبية عنده معنى، إن لم تكن غاية، فهي وسيلة على الأقل، والتدمير ضرورة لانبعاث الصحوة.
ويفرد المؤلف الفصل الخامس من مؤلفه لمناقشة إشكالية «الإرهابي ومتاهات النزعة التدميرية»، وفيه يعتبر أن الإرهاب شكل خاص من التعصب حيث لم تعد القناعة الخاصة للعارف مقتصرة عليه، فصار بحاجة إلى تقاسم أفكاره مع آخرين، والتقاسم هنا بحجم القناعة، أي بلا حدود، فإما أن يخضع الآخر لأفكار المتمسك بالآيديولوجيا، أو يتم إخضاعه هو نفسه.
تفيدنا سطور هذا الفصل تحديداً في إسقاط ما بها على الواقع الإرهابي العالمي؛ فالإرهابي بالمعنى المحدد للبروفسور شوفييه يعني المتعصب المقتنع جدّاً بصدق أفكاره والمستعد لاستخدام العنف من أجل نقل تلك الأفكار للآخرين أو فرضها عليهم.
والشاهد أننا حال طبقنا الرؤية النفسية لسطور الكتاب على «داعش»، نعرف كيف ظهرت «إدارة التوحش» والأخطر كيف يمكن أن تطفو على السطح جماعات أخرى مشابهة، فالإرهابي يرى أن قيمة النظرية تجعل هذه الطرق مشروعة وللإرهابي تصور للإرهاب حتى على مستوى الملموس للحياة الجماعية: اللجوء إلى التدمير، والتحطيم، والإلغاء، السجن، وبتر الأعضاء، والقتل لتشييد نظام الحرية.
كثيراً ما نتساءل: كيف لـ«داعش» وبقية الجماعات الأصولية والإرهابية أن تجد معيناً بشريّاً تستجلب منه عناصرها؟
خطورة علامة الاستفهام المتقدمة أنها ماضية في الزمن، بمعنى أنها لم تتوقف عند لحظة بعينها، بل تستمر ويمكن أن تنتج لنا طبعات جديدة من «داعش» بأسماء مختلفة، لا سيما إذا لم يتم التعامل مع «منكسري داعش» بطريقة عقلانية وعلمية.
يقدم لنا أستاذ علم النفس المرضي الفرنسي مصطلحاً جديداً يساعدنا على فهم أسطورة التجنيد عند كل الجماعات الأصولية وهو «التعصيب»، أي الدفع إلى (وفي) طريق التعصب، وهي عملية نفسية قد تطول أو تقصر.
ولعل الفخ الأكبر الذي ينبه إليه الكتاب هو فخ «التضليل الإعلامي»، فالمهمة الأولى التي يفرضها مجندو الجماعات المتعصبة على أنفسهم تقوم على خلخلة المعتقدات العادية لدى تابعهم المستقبلي، فحينما يستندون إلى الثغرات والتناقضات الخاصة بالأزمات الحياتية، كالمراهقة أو التهميش الاجتماعي أو صعوبات الحياة تراهم يدخلون في علاقة مع الأشخاص الباحثين عن أجوبة على دوافع ضيقهم الوجودي. ولتحقيق هذه الغايات يبثون اليوم على الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي بنحو خاص، رسائل وإشارات ومعلومات مجتزأة أو مغيرة، هدفها الزرع البطيء للشك في الوعي، لا سيما أن وسائل الإعلام العادية لا تقول كل شيء.
الذين حاولوا تفكيك إشكالية الانتحاريين من الإرهابيين تساءلوا عن القناعات التي تلبَّسَت القائمين بها، والتي أدت بهم إلى إنهاء حياتهم بأيديهم، بل وحياة أقرب المقربين إليهم، فقد شهدنا كيف يقوم الأب بلف حزام ناسف حول وسط ابنه وأحياناً ابنته ليفجره وسط من يراهم الأعداء.
يقدم لنا المنظر الفرنسي رؤيته للمتعصب، بوصفه الساعي لتطبيق الألم والتدمير على نفسه، في محاولة منه لتأكيد عمق تعلقه بالمعتقد، ويظهر علامات ملموسة على ذلك، وهو ما يمكن فهمه في إطار تعزيز معتقدات الجماعة كلها.
والتحليل النفسي العميق لمشهد تحريف المقدس عند المتعصب يجدر أن يكون أداة مستقبلية للتعاطي الأمني والاستخباراتي مع الأصوليين من الإرهابيين، إذ يبين لنا كيف تنتظم تصرفات هذا النمط من التعصب وتتخذ معناها، حيث يصبح المجند شبه مضطر للقيام بفعل يجنبه الانفجار الداخلي، الذي من شأنه توليد فائض من اليقين، ويكون عنف الفعل المرتكب بمقدر التشبع بالتصورات المدخلة، وكلما كان المتعصب خاضعاً لقانون المعبود الذي يسكنه تزداد حاجته إلى المطابقة بين الواقع الخارجي وإيمانه أو معتقده، فسفك الدماء، وبتر الأعضاء فعلان يبينان للآخرين مقدار قناعة الشخص بإيمانه.
يقدم لنا المؤلف نوعاً مثيراً عن أنواع التعصب، وإن كان التاريخ مليئاً بنماذجه، غير أنه لم يعد الآن يشغل حيزاً كبيراً، ضمن سلسلة الإرهاب المعاصر؛ إنه التعصب الناشئ عن الالتزام العاطفي والإلهامي، وهو نوع من أنواع التعصب التي لا تحتاج إلى ما يطلق عليه البروفسور شوفييه الإرشاد العقدي المعمق، ولا يحتاج إلى هرمية جماعية متطورة هذا النوع من أنواع التعصب يكاد يكون الأخطر في أيامنا الحالية، ومرد ذلك أن الإرهاب بات ينتشر انتشاراً غير عنقودياً، إذ يكفي أن تؤمن بالفكرة، والآن بالقائد... هنا يبذل المريدون قوتهم الضاربة لخدمة القائد ويتفانون في سبيله جسداً وروحاً. في هذه الحالة يكون تنظيم الجماعة ذا طابع عسكري أكثر منه عقدياً.
يقترب المتعصب هنا من حدود الشخص الساخط الذي هو مقاتل من أجل القائد في المقام الأول وشخصية هذا القائد أكثر تأثيراً من أفكاره على الحياة والعالم، والعقيدة هنا ليست سوى غطاء مؤقت ولازم لضبط التلاميذ.
كارثة هذا النوع من التعصب أن القائد فيه يضحي بطلاً جذاباً يعرف كيف يبني مدرسة تأهيلية يمكن لأي عضو فيها أن يتحول إلى آلة للقتل يستخدمها كما يشاء، ولا وجود عنده لقضية كبرى، أو قيم مطلقة، وليس ثمة غير العمل، ولا شيء غير العمل، وينبغي أن يكون هذا العمل فعالاً لا مجال للفشل فيه.
المتعصب الساخط، قد يقودنا إلى الحديث الدائر في ألمانيا أخيراً؛ فهو مضطرب العقل سيكوباتي الشخصية مبرمج وفق مشروع رسمته سلطة عليا، وغالباً ما يكون قد فقد ضميره بسبب استخدام مواد مهيجة ومثيرة للنشوة والغبطة.
يفك لنا صاحب الكتاب الذي يقع في نحو ثلاثمائة صفحة شفرة ما عُرِف بـ«الذئاب المنفردة»، التي أرجعها إلى نوع من أنواع «التعصب الخاص»، المغاير للتعصب العام أو التعصب الجمعي إن جاز التعبير.
ويؤكد أن هذا النوع من التعصب له علاقة بالمجال الفردي فقط، وفيه يقوم الفرد بحل مشكلاته النفسية من خلال بث الرعب في محيطه. هذا المتعصب الخاص الجديد رأيناه في شوارع فرنسا وألمانيا وبروكسل، وهو يتمركز كلياً حول ذاته، ويسقط عنفه الداخلي الذي يعجز عن معالجته وضبطه بنفسه على القريبين منه، وحجته في هذا تتلخص على النحو الآتي: «بما أن الآخرين لا يفهمونني، وبما أنهم يضطهدونني ويدفعونني إلى أقصى الحدود، فسأحقق رغبتهم بشطب نفسي من هذا الكوكب، لكن عليهم أيضاً أن يدفعوا ثمن ذلك دماً ودموعاً». يطلق شوفييه على المتعصب الخاص لفظه «كاميكاز»، ونحن نطلق عليه «ذئباً منفرداً»، وفي كل الأحوال هو شخص لا ينتمي لأي مجموعة إلا إلى نفسه، فهو مجموعة بمفرده، والقضية التي يدافع عنها هي قضية شهرته المستقبلية بوصفه فرداً، لكن إذا تعمقنا في الآليات النفسية الكامنة خلف البواعث الواعية، نجد هذه التصرفات تعبيراً عن ضيق حقيقي، ونتيجة إهمال إنساني متعمد، وحصاد رفض اجتماعي، وقع ضحيته هذا النمط من المنحرفين المتعصبين. خلاصة هذا العمل الفكري الذي يستحق مؤلفه البروفسور شوفييه ومترجمه القدير د. قاسم المقداد كل الشكر والتقدير هي أن معرفتنا بالطريقة التي يعمل التعصب من خلالها، والأسباب الكامنة وراء نشأته في عقل الإنسان، هي الطريقة الوحيدة الممكنة للقضاء على الإرهاب والأصولية بشكل فعال لاجتثاث جذوره من دون انتظار المصائب التي يمكن أن تترتب عليه.
يقدم لنا المؤلف قبل الرحيل صيغتين للعمل على مجابهة الإرهاب: «الوقاية والقمع»، ويؤكد على أن القمع من دون الوقاية يعزز التعصب لأنه يخلق في المقابل تعصباً دولياً أسوأ بكثير - كما بين لنا التاريخ من حيث شراسته واتساعه من العنف الذي كان ينبغي علينا القضاء عليه في البداية.
التعصب كذلك في الخلاصات «مرض يصيب النفس» التي يجب دراستها منذ نشوئها، وقد تكون التربية وإقامة المؤسسات المرنة والتشاركية أفضل اللقاحات لاتقاء الفيروس التعصبي.
ومن التوهم أو الخطر السعي إلى اجتثاث العنصرية، لأنها أولاً موقف الآخر الذي ننظر إليه بوصفه متعصباً، والاضطلاع بمهمة القضاء على التعصب يعني خلق تعصبات جديدة، قد تكون مثار قلق أكبر من الأولى لأنها تزعم تبني مبادئ العقل.
السور الأوحد في وجه التعصب والأصولية هو غياب السور، لأن المتعصب لا يحلم إلا بالهجوم والغزو.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟