هند مودي... القومية بدل الإصلاح؟

جعل من «عدم الانحياز» ذكرى بعيدة بتعزيزه العلاقات مع واشنطن وتل أبيب

هند مودي... القومية بدل الإصلاح؟
TT

هند مودي... القومية بدل الإصلاح؟

هند مودي... القومية بدل الإصلاح؟

رافقت راما نيغام في يوليو (تموز) 2015 عُمّالاً إلى بيت جدتها في قرية موخراي بولاية أوتار براديش المكتظة، لتشرف على بناء دورة مياه، في إطار برنامج «الهند النظيفة» الذي أطلقه رئيس الوزراء ناريندرا مودي. وتعهد مودي في حملته الانتخابية لعام 2014 بتزويد 60 مليون بيت بدورات مياه صحية، تحافظ على نظافة المدن والقرى وتحارب تلوث المياه وانتشار الأوبئة في مناطق الهند الفقيرة، ما يؤدي إلى 80 في المائة من حالات المرض وإلى موت أطفال تحت سن الخامسة، بحسب منظمة «يونيسيف».
اليوم، بعد سنتين على دخول دورة المياه بيت جدة نيغام، وقبل أيام من الذكرى السبعين للاستقلال، تعتبر الشابة العشرينية أن رجل الهند القوي متقدم في برنامج الإصلاحات الغني الذي وعد به مواطنيه، مبدية رغم ذلك تخوفاً مما اعتبرته احتقاناً للتوترات بين مختلف مكونات المجتمع (خصوصاً الهندوسية والمسلمة منها) وازدياد الجدل حول جرائم القتل بتهمة «امتلاك لحم البقر»، وبطالة الشباب.
نجح مودي في اكتساب شعبية قد تكون الأكبر منذ عقود في الهند، فحزب الشعب الحاكم «بهاراتيا جاناتا» يتمتع بغالبية كبيرة في الغرفة السفلى في البرلمان، ويسيطر على معظم الولايات الكبيرة في البلاد. كما فاز بانتخابات محلية عديدة، ويتوقع أن يفوز في الانتخابات العامة لعام 2019، فيما تجد المعارضة نفسها يائسة وغير قادرة على تحقيق أي انتصار تشريعي مؤثر.
في الوقت الذي يسجل فيه الاقتصاد الهندي تباطؤاً بنمو لم يتجاوز 6.1 في المائة حتى مارس (آذار) الماضي، يرى المراقبون أن الظروف السياسية والاقتصادية ملائمة أكثر من أي وقت مضى لتحقيق حكومة مودي سلسلة الإصلاحات التي انتُخِب على أساسها. وتشمل هذه إلى جانب مشروع «الهند النظيفة» بحلول 2019، إصلاح قانون الإفلاس واعتماد ضريبة موحدة على السلع والخدمات وتعزيز الاستثمار الأجنبي المباشر. وبينما حقق مودي عدداً من وعوده الاقتصادية، كتوحيد نظام الضرائب على السلع وقانون الإفلاس، لم يُقنِع أداؤه المراقبين الدوليين بعد تراجع الهند إلى المرتبة الثانية كأسرع نمو في العالم لاقتصاد كبير، بعد الصين. ورأت مجلة «إيكونوميست» البريطانية أن هذه الخطوات، رغم كونها مهمة، تبقى بسيطة أمام التحديات الاقتصادية الحقيقية كنظام مالي تسيطر عليه مصارف حكومية مثقلة بالديون، ما أدى إلى تراجع الإقراض لقطاع الأعمال إلى أدنى مستوياته في عشرين عاماً، وصعوبة شراء الأراضي، وقوانين العمل «المتصلبة».
ورأى غورشوران داس، وهو محلّل اقتصادي هندي تحدث إلى صحيفة «الغارديان» البريطانية، أن قرار مودي سحب الأوراق النقدية من قيمة 500 و1000 روبية «تسبب بتراجع حاد في قطاعات الصناعة والبناء، ما جعل مهمة خلق فرص عمل للخريجين الجدد صعبة للغاية».
وبهذا الصدد، كان رئيس الوزراء الهندي السابق مانموهان سينغ قد انتقد، العام الماضي، حكومة خلفه لفشلها في استغلال أسعار السلع المنخفضة لتعزيز النمو الاقتصادي. وقال سينغ لمجلة «إنديا توداي» في مقابلة إن «حكومة مودي يجب أن تستغل تحسّن الأوضاع المالية في الهند، لتعزيز الاستثمار في الاقتصاد وزيادة التوافر الائتماني للشركات». وأضاف سينغ الذي يعتبر مهندس الإصلاحات الاقتصادية التي أدت إلى سنوات من النمو السريع، أن «الحكومة لم تتمكن من الاستفادة من تراجع أسعار النفط وأسعار السلع التي خفّضت فاتورة الواردات الهندية».
ويبدو أن تراجع النمو وفرص العمل لم يؤثر على شعبية مودي داخل حزبه، إذ يتكئ على سياسات يعتبرها البعض قومية، كإصداره قرار حظر بيع الأبقار لحمايتها من الذبح، وهي خطوة جمّدتها المحكمة العليا.

صعود القومية الهندوسية على حساب العلمانية
لم تقتصر الانتقادات لأداء مودي في رئاسة الوزراء الهندية على هفوات أدائه الاقتصادي، بل عبّر كثيرون في الداخل والخارج عن قلقهم من تنامي العنف في كشمير الهندية، وتكرر حوادث عنف من قوميين هندوس ضد مواطنين بحجة أكلهم لحم البقر أو بيعه، ما أدى إلى مقتل عشرات المسلمين. وأدى تعيين رئيس الوزراء لرجل الدين الهندوسي المتشدد يوغي أديتيانات في منصب الوزير الأول لولاية أوتار براديش إلى جدل واسع في البلاد، نظراً إلى تعليقات الأخير الإقصائية والمسيئة للمسلمين، وإعلانه في أحد التجمعات الشعبية عن استعداده لـ«حرب ديانات».
وخلال عهده، أصبح التعصب سمة بارزة في الحياة السياسية، ما اعتبرته إحدى افتتاحيات صحيفة «نيويورك تايمز» تهديداً لأساس الدولة العلمانية والديمقراطية الهندية. ودعت مؤسسات المجتمع المدني الهندي ونجوم بوليوود أمثال شاروخان وأمير خان وغيرهما، إلى الابتعاد عن سياسات التعصب.
وخلال زيارته الأخيرة إلى الولايات المتحدة، دعا السيناتور الديمقراطي تيم كاردين رئيس الوزراء الهندي إلى مواجهة التعصب الديني في بلاده، وعمليات القتل الخارجة على القانون وتفشي الفساد.
ويرجع البعض هذا التوجه السياسي الداخلي لمودي، الذي أكسبه سلطة كبيرة داخل حزبه «بهاراتيا جاناتا» وفي البرلمان، إلى تاريخه السياسي. وبرز بائع الشاي السابق في محطة فادناغر للقطارات داعماً لحركة اجتماعية يمينية هندوسية في السبعينات، نقلته عام 1988 إلى «حزب الشعب الهندي» الذي انتُخِب أميناً عاماً له عام 1998 في ولاية غوجارات.
وفي عام 2001، انتخب مودي رئيساً للولاية التي شهدت أحداث شغب بين الهندوس والمسلمين راح ضحيتها أكثر من ألف شخص، معظمهم من المسلمين، وانتقد فيها لعدم القيام بما يكفي لوقف الاشتباكات. ورغم تبرئته من محكمة عليا، فإن مودي لا يزال يتعرض لانتقاد شديد لعدم اعتذاره عما حصل.

ذكرى «عدم الانحياز» والتقارب مع أميركا
أعلن مودي في مقال رأي له نُشِر بصحيفة «وول ستريت جورنال»، قبل يوم من لقائه الرئيس الأميركي دونالد ترمب في واشنطن، أنه واثق من نمو التقارب بين الهند والولايات المتحدة. وعزا الثقة إلى «قوة قيمنا المشتركة واستقرار أنظمتنا»، مشيداً بزيادة «التقارب» بين المصالح والمثل الهندية - الأميركية.
لم تأتِ هذه العبارات المرحِّبَة بتقارب أميركي - هندي من فراغ، إذ شرع مودي منذ تسلُّمه رئاسة الوزراء في 2014 في إعادة هيكلة دور الهند في آسيا، طامعاً في مواجهة النفوذ الصيني في المنطقة عبر تعزيز علاقاته بواشنطن. ويوضح الزميلان هارش بانت ويوغيش جوشي في معهد «تشاتام هاوس» البريطاني، أنه على عكس الحكومات السابقة، يقود مودي «سياسة إعادة انحياز» تضع دلهي ضمن الاستراتيجية الأميركية في المنطقة. ويتابع الباحثان في دراسة تحليلية للعلاقات الأميركية - الهندية أن توجّه مودي المخالف لسياسات الحكومات السابقة يعود إلى ثلاثة عوامل: الأول يتعلّق باقتناع القائد الهندي بأن طموح بلاده الاقتصادي لن يتحقق بمعزل عن تعاون وثيق مع الولايات المتحدة. أما الثاني، فيعود إلى القوة التي يتمتع بها داخل حزبه الحاكم وفي الغرفة السفلى للبرلمان، فيما يتعلق الأخير بالمتغيرات الأمنية على الحدود الهندية التي رافقت سياسات الصين العدوانية ودعمها الاستراتيجي لباكستان.
منذ نهاية الحرب الباردة، أكدت الحكومات الهندية المتعاقبة التزامها بعلاقات جيدة مع واشنطن، إلا أن توازن القوى السياسية داخل الهند وبقايا سياسات حركة عدم الانحياز لم تشجعها على تحقيق تقارب وثيق مع الحليف الغربي وإبداء قطيعة تامّة مع السياسة الخارجية المعتمدة منذ سنوات.

تودد استراتيجي لإسرائيل
في سياق آخر، شكّلت زيارة مودي إلى إسرائيل الشهر الماضي سابقة، إذ جعلت منه أول رئيس حكومة هندي على الإطلاق يزور تل أبيب. كما أنه لم يسافر إلى رام الله ولم يلتقِ الزعماء الفلسطينيين، كما هي العادة مع الزوار البارزين. ووصف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو زيارة مودي بأنها «تاريخية»، وقال إنها «ستعمق التعاون في عدد واسع من المجالات، بينها الأمن والزراعة والمياه والطاقة».
واعتبر كثير من المراقبين هذه الزيارة نقطة تحول في موقف الهند إزاء إسرائيل. فعندما يتعلق الأمر بالعلاقات الهندية - الإسرائيلية، فمن الصعب تماماً تجاهل القضية الفلسطينية، إذ بدأ التضامن الهندي مع الشعب الفلسطيني منذ عهد الراحل نهرو. وأدى قرار الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين في عام 1947 إلى نشوب الصراع غير المنتهي في منطقة غرب آسيا. وصوتت الهند ضد قرار تقسيم فلسطين الذي مهد الطريق لإنشاء دولة إسرائيل.
ورفضت دلهي إقامة علاقات دبلوماسية كاملة مع إسرائيل لأكثر من أربعة عقود حتى عام 1992. ورغم التحول في موقف رئيس الوزراء الهندي السابق بي في ناراسيمها راو، فإن الهند ظلت في طليعة الدول الداعمة للقضية الفلسطينية، حتى بعد إقامة العلاقات الدبلوماسية الكاملة على مستوى السفراء مع تل أبيب. وفي الواقع، رفض رئيس الوزراء السابق أتال بيهاري فاجبايي، حين كان زعيماً لحزب «بهاراتيا جاناتا» الهندي الحاكم وقتذاك، الطلب الإسرائيلي بأن تدرج الهند حركة «حماس» على قائمة المنظمات الإرهابية. لكن الأمر برمته تغير في عام 2014 بعد تولي حكومة الحزب نفسه الحكم في الهند تحت قيادة مودي.
وبمرور السنين، خففت الحكومات الهندية المتعاقبة من حدة لهجتها حيال المعاملة الإسرائيلية للفلسطينيين. ولم تعد الهند تقدم مشروعات القرارات المعادية لإسرائيل في الأمم المتحدة، واتخذت محاولات جادة لتلطيف قرارات حركة عدم الانحياز ضد الدولة العبرية.
ورغم اختلافهما حول القضية الفلسطينية، فإن الهند وإسرائيل عملتا، على مدى سنوات، عن كثب في القضايا الدفاعية، وكانت الهند من المشترين المنتظمين للسلاح من إسرائيل. والهند التي تعمل لتحديث جيشها لمواجهة باكستان والصين، هي أكبر سوق للسلاح الإسرائيلي، ويُعتَقَد أنها تشتري من تل أبيب أسلحة تبلغ قيمتها السنوية مليار دولار، حسب وكالة «رويترز».
ولمودي في هذا التوجه دور كبير، إذ ربطته علاقات طويلة مع إسرائيل التي زارها عندما كان رئيساً لوزراء ولاية غوجارات الهندية في 2006. وحين تولى رئاسة وزراء البلاد التقى مع نظيره الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العام للأمم المتحدة في دورتها السنوية التي عُقِدت العام الماضي.
ويقول مراقبون إنه من الناحية الآيديولوجية، ينتمي نتنياهو ومودي إلى المدرسة القومية ذاتها، فكلاهما يؤمن بالقومية وبـ«أصالة» عرقيهما وثقافتيهما وديانتيهما، في حين كانت القيادة الهندية السابقة تؤمن بالتنوع. ويتابع أن السبب الثاني لاهتمام مودي الفائق بإسرائيل هو أنه يعتبرها «مفتاحاً لأميركا»، ويود تحقيق توازن في ترسانة بلاده العسكرية التي تتكئ اليوم بشكل كبير على روسيا. في الوقت نفسه، يعتبر مودي أن دول الشرق الأوسط تميل إلى باكستان أكثر من الهند لاعتبارات دينية، وأن الوجود الباكستاني في الجيوش العربية كبير. ويحاول مواجهة هذا التقارب كذلك بالميل إلى إيران، عبر الاستثمار في مشاريع اقتصادية كبيرة، مثل مشروع تشابهار جنوب محافظة بلوشستان.

المعادلة الهندية - الصينية وتهديد التصعيد
لا يكون الحديث عن مكانة الهند في المنطقة كاملاً من دون التطرق إلى المقاربة الهندية - الصينية الاقتصادية والأمنية والسياسية. فالصين هي ثالث أكثر دولة في العالم تتشارك حدودها مع دول مجاورة، بعد روسيا وإيران، وتعاني من مشكلات حدودية متفاوتة الحدة مع معظم «جاراتها». وقارن أحد المحللين المخضرمين الصين بـ«جزيرة» ليست محاطة بالبحر، بل بخصوم. وتسعى بكين إلى الخروج من هذه العزلة بأسلوبين اثنين؛ الأول عبر الاستثمار في مشاريع اقتصادية بدول الجوار، وأبرز مثال على ذلك هو طريق الحرير الجديد الذي يُقيَّم بنحو تريليون دولار، ويهدف إلى تشييد سكك حديدية تمر عبر بلدان عدة ومشاريع اقتصادية في قرغيزستان وكازاخستان وتركمنستان وباكستان وغيرها.
في الوقت ذاته، يتخوف الصينيون من إحياء العلاقة الوثيقة التي جمعت روسيا والهند في الستينات، حيث قامت حروب بين هاتين الدولتين والصين. فانتصر الروس في حربهم على الصينيين وغزوا أراضي شاسعة على طول نهر أوسوري. وفي المقابل، خسرت الهند أمام الصين في عام 1962 أراضي في كشمير وشمال بوتان وغيرهما. ولا تزال فكرة الانتقام لهذه الحروب حاضرة في أذهان القادة الهنود، ويغذي هذا الطموح الدعم الصيني القوي لباكستان، عدو الهند الأول.
يُشار إلى أن بكين بدورها تتخوف من الصعود الهندي لأسباب عدة، أحدها يتعلّق بالنمو الديموغرافي. ففي وقت اعتمدت بكين سياسة الطفل الواحد، لم تتدخّل نيودلهي في تحديد النسل، وهي اليوم في طريقها لتصبح الدولة الأكبر في العالم من حيث عدد السكان الشباب.
أما التخوف الصيني الآخر، فيكمن في النموذج الاقتصادي. تعتمد الصين بالدرجة الأولى على تصدير منتجات رخيصة الثمن إلى الخارج، وتساعدها في ذلك التكاليف المنخفضة لليد العاملة. أما الهند، فتعتمد على نظام اقتصادي يقوم على إشباع السوق المحلية الضخمة أولاً ثم تصدير ما تبقى إلى الخارج.
النقطة الثالثة والأخيرة هي أن ديمقراطية الهند تقلق الجارة الصينية ذات الحزب الواحد، خصوصاً أن وسائل التواصل الحديثة تتيح للصينيين الاحتجاج ضد نظامهم السياسي والمطالبة بتحسين أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وحرياتهم.
وفيما يُعتبر رداً صينياً على «التهديد» الهندي، اعتمدت بكين سياسة تكاد تكون استفزازية تجاه نيودلهي عبر «طريق الحرير الجديد» الذي يشكل، في نظر الهنود، مشروعاً لتطويق البلاد عسكرياً، إذ إن الصين ستصبح موجودة غربَ الهند فضلاً عن شمالها وشرقها.
بالإضافة إلى ذلك، شرعت بكين في بناء طريق عسكرية بالقرب من بوتان ستسهل اجتياح هذه المملكة الصغيرة، ما يتيح الوصول إلى الحدود الشرقية الهندية. وفي هذا الصدد، طالب الزعيم الروحي للتبت الدالاي لاما، الأربعاء الماضي، الصين والهند، بالعمل على حل المواجهة الحدودية بينهما من خلال الحوار، بعد أن أظهر الخلاف المتسارع غياب أي إشارة لتخفيف التوتر. وقال حامل نوبل في العاصمة الهندية إن «هذا (الحوار) هو السبيل الوحيد». ونقلت عنه وكالة أنباء «برس تراست» الهندية أن «تراجع طرف وهزيمته هو تفكير قديم. في الأزمنة الحديثة كل بلد يعتمد على الآخر»، لافتاً إلى أن «تدمير جارك هو تدمير لذاتك، على الهند والصين أن تتعايشا جنباً إلى جنب». ويعيش الراهب البوذي البالغ 82 عاماً في المنفى في الهند منذ هروبه، إثر انتفاضة فاشلة في التبت قبل 60 عاماً. ويعتبر وجوده في الهند منذ وقت طويل مصدر توتر في العلاقة الشائكة أساساً بين دلهي وبكين.
وتمركزت القوات الهندية في الأيام الماضية في مواجهة القوات الصينية في هضبة نائية، لكنها مهمة استراتيجياً في الهيمالايا، حيث تلتقي أراضي الهند والصين وبوتان. وتعطي الهضبة الصين مدخلاً إلى ما يسمى «عنق الدجاجة»، وهي قطعة ضيقة من الأرض تصل ولايات الهند الشمالية الشرقية ببقية البلاد. ويستعر الخلاف الحدودي منذ أكثر من شهر بعد رفض دلهي وبكين التراجع في هذه الهضبة البعيدة.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.