نساء صعيد مصر في «حالة بوح»

قصص وحكايات وحواديت ومغامرات إنسانية تقف على حافة البوح والفضفضة، تقدمها الكاتبة الباحثة سلمى أنور، في كتابها الشيق «الصعيد في بوح نسائه» الذي صدر حديثا عن دار بتانة للنشر بالقاهرة.
يقلِّب الكتاب دفتر هذه القصص عبر 236 صفحة من القطع المتوسط، وفي إطار رؤية مهمومة بالبحث عن طبيعة الشخصية النسائية في صعيد مصر، وكيف استطاعت عبر تراث طويل من الكبت والقمع والجهل أن تحافظ على الجوهر الأصيل لهذه الشخصية، وفي بقعة من الأرض، تحمل في داخلها أهم كنور الحضارات الإنسانية في العالم.
رحلت الكاتبة إلى الصعيد وعاشت في قلبه لتنجز هذه الكتاب، وبعد الكثير من المشاق، والممانعة في البوح لدى الكثير من نساء الصعيد، والحرص على حجب أسمائهن، واستخدام أسماء مستعارة، نجحت في أن تجذب الكثير من النساء، ومن أعمار متراوحة إلى فكرتها، وتقنعهن بأن البوح بما يدور في أنفسهن، محاولة للخروج إلى عالم أفضل، وأنه لن يضر منظومة التقاليد والأعراف الاجتماعية، التي عشن في كنفها طوال عقود طويلة.
في مقدمتها للكتاب تشير الكاتبة إلى أن المؤسسات التنويرية والتعليمية الحديثة المختلفة، لم تستطع اختراق المجتمع الصعيدي بالفهم الكامل أو التغيير الحقيقي المنشود، كاشفة عن النظرة الخاطئة خاصة في مجال الإعلام لهذا المجتمع المشحون بالتعقيد الطبقي والقبلي، وتضافر مكوناته الثقافية والدينية.
وتوضح الكاتبة، كيف أن التلفزيون «قاهري الهوى» لم يفلح في نقل صورة واقعية عن الصعيد وأن الأعمال الدرامية التي نجحت في نقل واقعه بما يرقى إلى الدقة قليلة جدا، كما تتحدث عن المجتمع الصعيدي شديد التحفظ المدافع بشراسة عن تقاليده وسماته حتى إن هناك تشابها كبيرا بين مجتمع الصعيد في مطلع القرن العشرين ومجتمع الصعيد المعاصر.
وبأسلوب سردي شيق يعتمد على إيقاع البورتريه الفني، لالتقاط وكشف الأبعاد الخاصة للصورة، تتوغل الكاتبة في مساحات المهمش والمسكوت عنه في ملامح الحكاية الشفاهية وطرائق حكيها وبوحها، كما تحرص على واقعية الحوار، سواء في لغته الفصحى السلسة، أو في لهجته العامية الدراجة البسيطة والتي يتميز بها مجتمع الصعيد.
ينقسم الكتاب إلى قسمين، في القسم الأول وهو بعنوان «النساء في مجالس النساء». يطالعنا شريط الحكايات على لسان أبطالها، وتتكشف خيوطها وأحلامها المجهضة المشروعة، بكل عقدها السميكة في نسيج المجتمع والحياة. ويكشف هذا القسم عن قماشة ثرية ومتنوعة من البوح، فـ«وردة» ابنة السبعة عشر ربيعا، حين همت بالبوح عن حكايتها طلبت من أمها أن تغادر المكان، في إشارة ضمنية على رفض الوصاية، والضجر منها، حتى ولو كانت بواسطة الأم، ما يعكس رغبة داخلية في التحرر من سطوة السلطة سواء في نطاقها الضيق داخل العائلة، أو في نطاقها الأوسع على مستوى المجتمع.
تفتخر وردة بكونها صعيدية، وعلى الرغم من أن حياتها تحولت إلى مرار بعد أن طلق أبوها أمها، وتزوج بأخرى، لم تطمح بالزواج مثل قريناتها، الذي يعني في أعراف المجتمع ستر البنت في سن صغيرة، كان حلمها أن تكمل تعليمها وتكون متميزة عنهن فتقول: «التعليم أهم من الزواج عندي وأنا بنت رجيلة (راجل)، أعرف أحافظ على نفسي كويس من غير ما يكون في يدي دبلة راجل». وتنتقد الزواج بهذه الطريقة «بس الزواج البدري كمان بيقفل الحياة، بيحرق شباب الواحدة منينا، وميخليهاش تحصَّل تعيش حياتها، أنا أحب ألبس وأسافر وأتعلم».
ومن «وردة» إلى السيدة (راء) امرأة ثلاثية مطلقة ولديها طفلة في سن المراهقة، عاشت صباها تحلم بأن تتزوج من رجل اسمه أحمد، تأثرا بجرعة الرومانسية التي تضخها السينما المصرية، ويحظى هذه الاسم بالنصيب الأوفر بين أبطال الأفلام.
يتحقق حلم السيدة «راء»، فتتزوج رجلا يحمل الاسم نفسه، يعمل في السعودية ولديه المال، ينتقل بها للعيش في القاهرة، ثم يسافر ويتركها وحيدة، لكن حياتها تتحول إلى جحيم بعد أن تنجب بنتا وهو يريد ولدا، فيقاطعها ولا يرسل لها أموالا لتعيش. فتهرب إلى أهلها بالصعيد وابنتها على كتفها... تقول: «شرطه علشان يطلقني كان أن أدفع له مبلغا كبيرا وأتنازل عن كل حقوقي وحقوق بنتي حتى النفقة وتم الطلاق... كنت مستعدة أن أتنازل عن أي حاجة علشان حريتي وبنتي، أنا اتجوزت وخلفت واطلقت وعمري 21 سنة».
وكذلك «عزيزة» 23 عاما، التي تحول قيود أسرتها وباب بيتها الموصود دوما دون لقائها مباشرة بالكاتبة، فتتحايل على ذلك بأن تكلمها خلسة ليلا، بواسطة هاتف تخفيه عن أهلها... أيضا السيدة (صاد) التي تتمتع بوجه سينمائي ولم تكمل تعليمها لأن أباها لم يفهم يوما لم قد تحتاج امرأة للتعليم، فاكتفت بمعرفة القراءة والكتابة. بريق جمالها لم ينطفئ تحت وطأة سنواتها الأربعين وأولادها الثلاثة، تحب زوجها السائق الفقير، لأنه طيب ويحبها، وتغفر له ضربه أحيانا لها وكما تفضفض «علشان كده أنا بعذره لما يفش خلقه فيا، ولا يشتمني ولا حتى يضربني، لأنه مخنوق، عامل زي لا مؤاخذة الأسد المتسلسل».
ومن باب الطرافة تؤكد صاد أن بيتها مبني على كنوز فرعونية مومياوات وتماثيل، وأن أحد مشايخ القرية المعروفين بالكشف والفتح أكد لها ذلك. وهنا تمد بصرها إلى أحد جيرانها الذي كان تاجرا بسيطا، ثم أشيع أنه عثر على مقبرة فرعونية تحت أرضية بيته، فأصبح يغترف من ذهب الفراعين وكنوزهم ويتاجر في الآثار حتى حقق ثراء فاحشا، وبنى الكثير من العمائر الرخامية العالية، على عكس زوجها التي توصفه بأنه رجل طيب «بس عيبه إنه فقير».
وإذا كانت السيدة «صاد» تجسد مثالا حيا للمثل الشعبي «ضرب الحبيب زي أكل الزبيب»، فإن «نواعم» التي تعودت الضحك إلى حد البكاء، لم تستطع أن تتحمل منظر زوجها والد أبنائها الأربعة وهو يهاتف صديقة عمرها بكل خفة ودلع، وبعبارات معسولة بالغزل ولوعة الغرام لم تسمعها منه طيلة عشرتها معه. وحين تواجهه وتعاتبه لم ينكر «بل زاد في إحراق قلبها بأن أكد أنه سيتزوج عشيقته»، ونكاية فيها سيتزوجها على «خشب أوضة نومها»، ودون أدنى اكتراث بدموعها الجارفة، بدأ في فك دولاب غرفة نومهما ليهديه لعشيقته وعروسه المقبلة.
إنه بوح بمرارة الشجن والوجع الإنساني، يخرج من جوف حكايات كابية ومعتمة تكاد تنزف دما على لسان إبطالها من شتى الأعمار. فلا لعب هنا مع الحياة، بل الحياة هي التي تلعب، والمجتمع بطبيعته الجامدة القاسية وثقافته البليدة المتكلسة هو الذي يحدد الأدوار للمرأة، لتظل دائما على الهامش، مجرد سقط متاع، فظل رجل أهون من أن تظل عارية بلا جدران أو حوائط تسترها.
هذه اللوحة بألوانها الشاحبة الفاترة، وخطوطها الملتاثة في فراغ يشبه السديم يكتمل إيقاعها في الجزء الثاني من الكتاب، تحت عنوان «حكايات الصعيد التي لا يملكها أحد». فتطالعنا حكايات تقترب من عوالم الخرافة والأسطورة، تشكل خصوصية مجتمع الصعيد، وتلقي بظلالها على طبيعة نسائه. إنه مجتمع صانع لأسطورته التي ربما لا مثيل لها في مجتمعات أخرى، يضرب بجذور هذه الأسطورة في التاريخ المصري القديم. كما أنه مجتمع يعرف كيف يحافظ عليها، وكيف تتبادل الأدوار مع الحلم والواقع معا.
فعلى لسان النساء تطالعنا في هذا الجزء أيضا قصص ونوادر عن عالم السحر والأشباح والحسد، وحكايات الغولة والجن والحياة في العالم السفلي. والمجاذيب، والممسوسين، وذوي العاهات العقلية والجسدية، كما تطالعنا شجرة الأنساب القبلية... جنبا إلى جنب مع طقوس الصعيد المميزة في المناسبات والأعياد والأعراس والموالد الشعبية، ولحظات الموت والميلاد... يرافق كل ذلك نماذج وشذرات مما خلفته هذه الطقوس من إرث أدبي، تجسد في الأشعار والأزجال والأغاني الصعيدية، وتراث السيرة الشعبية.
في الختام هذا كتاب حي ظافر بالأسئلة والدهشة، يشكل إضافة للمكتبة العربية، في أحد أهم الموضوعات المتعلقة بتراث الشخصية وعلاقته بالبيئة الخاصة. استغرقت الكاتبة في جمع مادته على مدار عام كامل، وهو قادر على أن يمنحك نفسه بشكل جديد مع كل قراءة له بين الحين والآخر.