الدراما والتاريخ وصناعة السياسة

مسلسل بعث أرطغرول التركي نموذجاً

مشهد من المسلسل
مشهد من المسلسل
TT
20

الدراما والتاريخ وصناعة السياسة

مشهد من المسلسل
مشهد من المسلسل

جاءتني تعليقات كثيرة على مقالي السابق الذي يربط بين الدراما الفنية والتسييس في تجسيد شخصية البطل «الناصر صلاح الدين». وقد تذكرت على الفور أن الدراما التاريخية غالباً ما تنحرف عن مسار التاريخ لأسباب سياسية، والاستثناءات الدرامية محدودة. وقد لا أبالغ إذا ما أدعيت أنه في مشاهداتي للأعمال التاريخية لم أجد إلا فيلم «آلام المسيح» للمخرج ميل غيبسون، الذي يكاد يكون السيناريو فيه متطابقا مع الأناجيل الأربعة، وفيلم «ووترلو» للمخرج الروسي بندارتشوك الذي يكاد يكون تجسيداً لوقائع وحوارات تاريخية ثابتة للمعركة الشهيرة لنابليون.
في هذا السياق العام يحضرني انجذابي الشديد لمسلسل تركي بدأت في متابعته بعنوان «إعادة البعث Resurrection» يحكي قصة حياة القائد التركي «أرطغرول» والد مؤسس الدولة العثمانية، وقد هالني المستوى الفني لهذا المسلسل الممتد الذي يصل لقرابة مائتي حلقة، ومع ذلك، فلم تستهلك الحلقات المتتالية صبري الدرامي المحدود، فهو عمل متميز من الناحية الفنية بكل ما فيه من مشاهد ودقة في لقطات المعارك والديكور والملابس، فضلاً عن السيناريو المنضبط والمنطقي والتسلسل التلقائي للأحداث، بما لا يجعل مجالاً للملل، على عكس ما يحدث في أغلبية مسلسلاتنا العربية التي يستهلك فيها مشهد لا قيمة له زمناً طويلاً لاستكمال الحلقات الثلاثين من المسلسل، بما يعكس فقراً درامياً مؤقتاً، ناهيك بالبعد المالي لاستكمال الحلقات، وهو عكس ما يحدث في هذا المسلسل الممتد والذي يبدو أن له تمويله المفتوح والمدعوم.
إن ما يهمني هنا بوضوح هو كيفية استخدام الدراما التاريخية لصناعة السياسة، وهذا المسلسل التركي في تقديري مثال حي على هذه الظاهرة المنتشرة في كل الدول، فالشعوب يتولد لديها الحنين المستمر لرموزها التاريخية؛ إما لأسباب طبيعية تماماً مثل نظرتنا لماضينا الشخصي واجترار الذكريات، أو لافتقارها لرموز حديثة، أو لانقطاعٍ ما أصابها في امتدادها التاريخي والثقافي، أو حتى لمجرد تثبيت الهوية والعظمة لرفع الروح المعنوية للمواطنين، فالشعوب بعقلها الجمعي لا تختلف في هذا المنحى عن الفرد، فهي في حاجة دائمة إلى ما يُثبت اليقين بنوع النوستالجيا لماض تقرأ عنه لأنها لم تعشه، وهنا يكون دور الدراما في تجسيده، فمثل هذه الأعمال الدرامية غالباً ما تشحذ الروح القومية والسياسية، فتخرج عن السياق التاريخي الضيق، والمسلسل التركي هذا يقع في هذا السياق لأسباب كثيرة؛ أصوغ بعضها فيما يلي:
أولاً: الثابت تاريخياً أن شخصية «أرطغرول» يحوم حولها الغموض الشديد، فهي غير مدونة بشكل ممنهج مثل شخصيات تاريخية أخرى قريبة الصلة زمنياً بها، ومن ثم؛ فالمسلسل اعتمد على شخصية تاريخية حقيقية ونسج حولها الهالة البطولية للبطل بوصفه محاربا مغوارا لم يهزم في مناجزة حربية طوال مائتي حلقة، ناهيك بنبل أخلاقه، وهو أمر طبيعي في العمل الدرامي، ولكنه لا يرتبط بالضرورة بالحقائق التاريخية.
ثانياً: تدور أحداث الدراما في القرن الثالث عشر حول إحدى قبائل «الأوغوز» التي فرت من غزوات المغول واستقرت في الأناضول وبدأت تبحث عن موطن أكثر خصوبة للرعي، فوجدت نفسها في صراع مفتوح بين مؤامرات الصليبيين في الشمال، والعلاقة المتوترة مع حاكم حلب، فانتهي الجزء الأول بهزيمة الصليبيين ومساندة البطل وجيشه للمسلمين في حلب لتوحيد الجبهة بالتعاون مع السلطان علاء الدين السلجوقي في الأناضول، في تعظيم غير مبرر تاريخياً أو عسكرياً، فالنصر العسكري الواحد تم تضخيمه والمبالغة فيه، فجعل المشاهد أمام تسلسل مبالغ فيه. ثم يأتي الجزء الثاني من المسلسل ليعكس دوراً كبيراً للبطل في هزيمة المغول، وحقيقة الأمر أننا لا يمكن أن نحذف دور قبيلة «القايي» في توازنات القوى المحدودة في الأناضول آنذاك، ولكننا يجب وضعه في سياقه الحقيقي، فهو دور ثانوي على أفضل الظروف؛ حيث دخلوا في لعبة توازنات القوى كعسكري في الرقعة السياسية وليس كأي قطعة أخرى، ولكن المسلسل يبرز محورية دورهم.
وقد يرى البعض ذلك على أنه كذب، بينما يراه آخرون على أنه عمل فني يحتاج لحبكة درامية، ولكن واقع الأمر أنه رسالة سياسية عن الدور العثماني وعظمته وبداية القومية العثمانية، تمهيداً لتثبيت أحقيتها بالخلافة في القرن السادس عشر، في يقين الشعب التركي، مع أن الثابت تاريخياً أن الذي هزم الصليبيين وطهر الأراضي العربية منهم كان «الظاهر بيبرس البندقداري» الذي تولى حكم مصر بصفته ثاني سلطان مملوكي في 1260م، لأنه كان سلطان مصر، فكانت له القاعدة السياسية والعسكرية والمالية لخوض هذه المعارك الواسعة، فمصر آنذاك كانت دولة، بينما كان العثمانيون قبيلة رعوية بقدرات عسكرية محدودة، ولكن الدراما التاريخية رفعت من قدر التاريخ العثماني، بينما لم تفعل الدراما العربية الشيء نفسه في تاريخها، وإن فعلت فليس بالحبكة الفنية والدرامية نفسها.
وفي كل الأحوال، فإن العمل الدرامي يجب عدم الحكم عليه من المنظور التاريخي الموضوعي الضيق، لأنه في الأساس عمل فني، ولكنه ليس بلا أهداف سياسية؛ فكثير من الدراما التاريخية يتجمل ويبالغ؛ بل وقد يكذب ليخفي رسائله السياسية المستترة.



مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي

مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي
TT
20

مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي

مأزق السلوك الإنساني في مرآة جون ديوي

عن دار «أقلام عربية» بالقاهرة، صدر كتاب «الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني» للفيلسوف وعالم النفس والتربية الأميركي جون ديوي، الذي عاش في الفترة من 1859 حتى 1952، ويعد بمثابة مؤسس الفلسفة البراغماتية التي تنظر لقيمة الأفكار والأشياء من منظور فائدتها العملية على أرض الواقع.

ترجم الكتاب الدكتور محمد لبيب النجيحي الذي يشير في المقدمة إلى أن ديوي ولد بمدينة فيرمونت والتحق بجامعتها في الخامسة عشرة من عمره، بسبب نبوغه المبكر إلى حد العبقرية. وبعد تخرجه عام 1879 نشر أول بحث له في الفلسفة بإحدى المجلات العلمية، وقوبل هذا البحث بالثناء، مما شجعه على احتراف هذا المجال. وفي عام 1884 منحته جامعة «جونز هوبكنز» درجة الدكتوراه في الفلسفة وهو بسن 25 عاماً فقط، وأُلحق بقسم الفلسفة بجامعة ميشيغان.

وفي عام 1894 انتقل ديوي إلى جامعة شيكاغو التي كانت قد تأسست آنذاك، وعُيِّن فيها رئيساً لقسم الفلسفة وعلم النفس والتربية؛ حيث قام بثورته التربوية المسماة «التربية التقدمية». وقد أنشأ مدرسة تجريبية لتطبيق نظرياته الجديدة، وأثبت أنها عملية، غير أن القائمين على شؤون الجامعة لم يُقرُّوا هذه التجارب، فاضطُّر إلى الاستقالة في عام 1904، منتقلاً إلى كلية المعلمين بجامعة كولومبيا؛ حيث بقي بها حتى سن التقاعد في عام 1930.

وقد ظل ديوي يبدي نشاطاً في «اتحاد المعلمين» بنيويورك، إلى أن استطاع اليساريون أن يستحوذوا على السلطة فيه، ما جعله ينتقل إلى الاتحاد البديل الذي أنشأه المعلمون غير اليساريين، وأسهم في تنظيمه، وكان أيضاً من مؤسسي «اتحاد الحريات المدنية للأميركيين»، وجمعية «أساتذة الجامعات الأميركيين».

وتكمن أهمية كتاب «الطبيعة البشرية والسلوك الإنساني» في أنه يعد بمنزلة ثورة شاملة في فهم العلاقة بين علوم النفس والتربية من ناحية، وبين الفلسفة من ناحية أخرى؛ حيث يرى المؤلف أن تفسيرنا للسلوك الإنساني تفسيراً سليماً يتوقف على فهمنا للطبيعة الإنسانية، وللعوامل الاجتماعية المختلفة التي تشترك معها في تكوين هذا السلوك. كما يقضي الكتاب على أوجه التناقض والصراع المختلفة بين النظريات القديمة في هذا السياق، من حيث نظرتها للسلوك الإنساني، كما يبشر بعلم نفس تربوي اجتماعي يحرر الفرد من القيود والضغوط والكبت والحرمان، مستغلاً ذكاءه وتفكيره، متغلغلاً في ميادين متنوعة من العلاقات الإنسانية المعقدة.

وترتكز رؤية ديوي على أهمية البيئة المحيطة بالفرد، ودورها الحاسم في تشكيل نوعية سلوكه، فالعادات السلوكية للإنسان تحتاج إلى تعاون بين الكائن الحي وبيئته، فلا نستطيع أن نتصور تكوين عادة من العادات دون أن يكون هناك فرد إنساني من ناحية، وبيئة محيطة من ناحية أخرى. ولعل الفصل بين هذين القطبين أدى إلى فكرة خاطئة في الميدان الأخلاقي، تتمثل في أن المفاهيم الأخلاقية تختص بها الذات دون غيرها، وبذلك تُعزل الذات عن بيئتها الطبيعية والاجتماعية، وتُعزل الشخصية عن السلوك، وتُفصل الدوافع عن الأفعال الحقيقية.

ويؤكد جون أن الفضائل والرذائل ليست من الممتلكات الذاتية للفرد، ولكنها أنواع من «التكيف الواقعي» لقدراته مع القوى البيئية المحيطة به.

وهنا يطرح المؤلف عدة تساؤلات حاسمة، منها: هل يمكن أن تُعزَل الذات عن بيئتها الطبيعية والاجتماعية؟ بمعنى آخر: هل يمكن أن يوجد ما يمكن أن نسميه الحياد الأخلاقي؟ هل نستطيع مقاومة الشر عن طريق إهماله وعدم الاهتمام به؟ هل يستطيع الفرد أن يبقي على ضميره نقياً طاهراً بأن يقف بعيداً عن الشر؟ الإجابة عن هذه الأسئلة تأتي كلها بالنفي، فالحياد الأخلاقي لا وجود له، ومقاومة الشر عن طريق إهماله هي في حقيقة الأمر طريقة غير مباشرة من طرق الترويج له.