أحلام النساء في الغرب والمتاجرة بجين أوستن

الذكرى المئوية الثانية لرحيل صاحبة «الكبرياء والهوى» فرصة للكسب؟

جين أوستن
جين أوستن
TT

أحلام النساء في الغرب والمتاجرة بجين أوستن

جين أوستن
جين أوستن

لا تكاد تخلو صحيفة أو مجلة في الغرب هذه الأيّام من مقالة عن الروائيّة الإنجليزيّة جين أوستن (1775 – 1817). صدر عنها وعن تجربتها أكثر من عشرة كتب مهمة هذا العام فحسب، وهنالك أخرى على الطريق. طبعات جديدة من كل رواياتها الست بالإضافة إلى نسخة الأعمال الكاملة التي تحتل واجهات المكتبات في المملكة المتحدة حيث يتوقع الخبراء أن تتجاوز المبيعات هذا العام حاجز المليون نسخة قبل انتهاء موسم الصّيف. عدد كبير من الأفلام والمسلسلات التي قدّمت رواياتها واستعرضت حياتها عادت للتداول بكثافة غير معهودة على الشاشات.

مهرجانات متوازية بأنشطة كثيفة للاحتفال بجوانب من سيرة جين أوستن تتنافس على امتلاك (جين أوستن): مسقط رأسها في مقاطعة هامبشير، وحيث قضت شطراً مهماً من حياتها في مدينة باث، وأيضاً وينشيستر حيث ماتت ودفنت. الرّسم الوحيد لوجهها - من ريشة شقيقتها كاساندرا - معلّق داخل متحف البورتريهات الوطني بلندن. تحول بيتها إلى مزار، وتُنظّم مؤتمرات على شطري الأطلسي لمناقشة وتحليل المحتوى الفكري والفلسفي والاجتماعي لرواياتها. تضاعف عدد أعضاء الجمعية الأميركيّة لجين أوستن حتى زادت فروعها عن الثلاثين عبر الولايات المتحدة. بل إن بنك إنجلترا المركزي أعلن إصدار ورقة نقديّة من فئة العشرين جنيه إسترليني تحمل صورتها ونصاً على لسان إحدى شخصياتها بخصوص متعة القراءة (كانت قد تقاضت من ناشرها مقابل أوّل عمل روائي قدمته للمطبعة).
ليس في حياة جين أوستن ما يستحق بالفعل كل هذا التمجيد. فهي بالكاد عاشت أربعة عقود من العمر. وبالرغم أن ثيمة رئيسية طبعت نهايات أعمالها بأجواء الزواجات الرومانسيّة السعيدة إلا أنها لم تتزوج قط، ومع أنها بدأت تكتب منذ العام 1789 إلا أنها لم تنشر أيّاً من أعمالها قبل العام 1811 ليخطفها مرض غامض أنهكها آخر أيامها، فلم تتح لها فرصة تطوير تجربتها الأدبية إلى منتهاها. وحتى وصفها بأنها مُبدِعَة (الواقعيّة الاجتماعيّة) يبدو فارغاً من المضمون اليوم بعد أن تبدلت الوقائع والأزمنة ولم تعد تلك الواقعيّة ذات قيمة فعليّة سوى ربما للمؤرخين الاجتماعيين المعنيين بفترة الوصاية على العرش بين تنحي الملك جورج الثالث وتولي الملك جورج الرابع عرش المملكة المتحدة، كما أن أسلوبها النثري - على ألمعيته - قد لا يؤهل رواياتها للوصول إلى الكلاسيكيّة وفق كثير من النقّاد أقلّه مقارنة بروائيين من جيلها.
فما السّر إذن في هذا الاحتفاء - الأسطوري - بشخص الروائيّة وكيف يمكن أن نفسّر تلك الشعبيّة المتزايدة والإقبال غير المسبوق على أعمالها في القرن الحادي والعشرين، حيث لم يعد هذا العالم يشبه عالمها البتة، حتى أن الرواية نفسها كعمل أدبي باتت معرضة للاندثار بسبب التقدّم التكنولوجي الذي غيّر طبيعة تلقي الترفيه والمعلومات بشكل جذري. وكيف نجحت المنظومة الرأسماليّة في تسليع جين أوستن وتحويلها إلى أيقونة قادرة على استقطاب المعجبين وتنتج أرباحاً متزايدة لمجموعة متقاطعة من الناشرين والمؤسسات وحتى البلديّات في بريطانيا؟
تركت أوستن ست روايات: (العقل والعاطفة)، (مانسفيلد بارك)، (إيما)، (إقناع) و(دير نورثانجر) وأشهرها (كبرياء وهوى) وكلّها رومانسيّة الطابع كوميديّة المزاج عن صبايا من الطبقة الوسطى البريطانيّة مطلع القرن التاسع عشر في رحلة بحثهن (الخطرة) عن أزواج مناسبين. الخطورة هنا متأتية كونَ قيم تلك المرحلة وظروفها الاجتماعيّة كانت تمنح النّساء فرصة واحدة وحيدة للظفر بسعيد الحظ وإلا انتهين - إن هنّ أسأن الاختيار - وحيدات وفقيرات. السرد الأدبي في الروايات الست متمكن ومتماسك، وأعمالها بمجموعها كان لها دور محوري في تطوير المنتج الروائي الذي أصبح عشيّة تطوّر الرأسماليّة الصناعيّة البريطانيّة بمثابة التسلية الوحيدة تقريباً لأبناء الطبقة الوسطى لا سيما النساء. لكن ما يُضفي على إرثها المكتوب تلك الهالة أمر يبدو أعمق من مجرد تماسك النثر الأدبي للروائيّة، وعلى نحو ما يمكن القول بأننا أعدنا إنتاجها كجين أوستن معاصرة بما يوافق هوانا وتطلعاتنا في الزمن الراهن. فهي تقدّم في رواياتها تصويراً لقيم الطبقة البرجوازيّة الصاعدة وقتها في المجتمع البريطاني، مما يساعد الأفراد على تحليل ذواتهم وفق مسطرة أخلاقيّة متعالية، في وقت تراجع الديّن كمصدر للقيم العامة، وتمايزت الطبقة في مساحة وسطى بين الأرستقراطيّة الباذخة والفلاحين المهمشين، فأفرادها ليسوا أثرياء بما يكفي لتجاوز القلق من تدبير أمور العيش، لكنّهم في الوقت ذاته ليسوا معدمين وبإمكانهم التمتع ببعض الترفيه والأجواء الصاخبة.
على عكس النهج المعاصر في الرواية - الذي يعطي القارئ الرّخصة للتغلغل في عقل وسيكولوجيا الشخصيات كي يدرك ما يعتمل في عقولها بينما هي تتعامل مع الأحداث - فإن شخصيات أوستن بقيت مساراتها دوماً طوع يد مؤلفتها تتحكم بها كما تشاء وتقيّم سلوكها فيما يشبه المحاكم الأخلاقيّة التي ترسم من خلالها حدوداً لما ترى أنه يشكل السلوك الإيجابي وتفرض عليها نهايات سعيدة غير متوقعة، دون السماح مطلقاً لها بالتطور تلقائياً من سياق النص. ولذا فأوستن تقدّم لقرائها المعاصرين - الذين لا يزالون برجوازيين وتهيمن على وعيهم القيم البرجوازيّة تماماً كما كان أسلافهم قبل مائتي عام من اليوم - ما يشبه خريطة أخلاقيّة متكاملة توجههم في بحثهم عن ذواتهم وكيف يمكن أن يعيشوا أيّام حياتهم القلقة - من دون الخروج ولو للحظة عن السرد الأدبي إلى الوعظ الأخلاقي المباشر. ومع أن بعض المعجبين بجين أوستن حاولوا تصويرها كشخصية متمردة ثائرة على قيم مجتمعها البطركية وناقدة لها بعين خبيرة، إلا أن حقيقة شخصياتها جلها تعمل ضمن المنظومة القائمة، ولم تَدع مطلقاً للتمرد أو كسر الأقفاص، بل كانت غايتها البحث عن مساحات في قلب الظلام للجوء إليها بمواجهة الواقع القاتم حتى من دون طرح إمكانيّة التفكير في هز أسس الوضع القائم.
كما أن أوستن غير مؤهلة حقيقة لتقديم دور الشخصيّة النسويّة التقدميّة، فكل خطاباتها تكريس للثقافة القائمة في عصرها، ثقافة تقمع المرأة وتحاصرها وتفرض عليها قوالب مجهّزة في كيفيّة التصرف بالإطار العام. وحتى على الصعيد العنصري هي تتجاهل العبوديّة بوصفها مصدر ثراء المجتمعات المبهرجة التي هي مسرح رواياتها حتى وصفها إدوارد سعيد بأنها جزء من ثقافة الكولونياليّة البريطانيّة وأنها يجب أن تدان لا أن يرحّب بها. مع ذلك كله نجحت أوستن بالاحتفاظ بتواصل استثنائي مع قلوب النساء - المعاصرات على وجه التحديد - إذ إن التطور الاجتماعي - في الغرب على الأقل - جعل مسألة التقاء النساء بأزواج محتملين مسألة في غاية البساطة والسهولة، وأخرجهن من وصمة الزواج أو العلاقات السابقة التي كانت أيام أوستن كافية لتدمير سمعة المرأة حتى نهاية حياتها. لكن ذلك أفقدهن تلك الحالة السحريّة المتخيّلة عن الرحلة الرومانسيّة للفوز بالرجل المناسب ومواجهة استحقاقات وتحديات قبل تتويج العلاقة بنهاية الزواج السعيد وحتى الترفل - ولو لليلة واحدة تكلّف الكثير - في أجواء البذخ والثياب والتجهيزات المستوحاة من حياة البرجوازيّة القديمة التي لا مبرر معاصر لها. بالتالي فإن أوستن تعطيهن هذه المساحة لعيش الوهم وإبقاء جذوته بين أجيال الأمهات والبنات.
وهي أيضاً تبدو معاصرة لناحية ثقافة التلصص على الآخرين والنميمة والفضول التي وسعت من آفاقها أدوات التكنولوجيا المعاصرة ومواقع التواصل الاجتماعي من دون أي عمق حقيقي في فهم دواخل الآخرين ودوافعهم الحقيقية، فشخصيات عوالمها إما أن تكون في موقع التلصص ومراقبة الآخرين وانتقادهم والثرثرة بشأنهم أو تكون هي موضوعاً لكل ذلك، وأوستن دون شك نجحت وبعبقرية في رسم إتيكيت السلوك العام على نحو يجعل من تلك المراقبة الاجتماعيّة عملاً لا يتسم بالفضول والانشغال بالمظاهر في حياة الآخرين بقدر ما هو نشاط أساسي لفهم خريطة القيم المجتمعيّة والتعلم منها في السعي نحو الحياة الأمثل.
جين أوستن، لا يستسيغها الذوق الأرستقراطي المترفع عن صراعات المتشبثين بأطراف الثراء، ولا تعني كثيراً للبروليتاريا والفلاحين. أوستن منتج برجوازي محض، يروج لقيم البرجوازيّة البريطانيّة، وتوظفه المؤسسات الثقافيّة البرجوازيّة اليوم للترفيه عن برجوازيين لتسلبهم بعضاً من دخلهم الزائد عن حاجتهم الأساسيّة في إطار الترويج للشخصيّة الإنجليزيّة التي يراها هؤلاء تتعرض للتهديد بسبب الهجرة وميلان كفة الاتحاد الأوروبي لمصلحة البرجوازيّة الألمانيّة.



قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب
TT

قصائد الحاسوب

قصائد الحاسوب

(١)

حين تركنا الأوراق البيضاء

ورحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

لم يظهر ماذا يعني أن يرتبك الشاعر فوق الكلمات

أن يشطب مفردةً ويعيد صياغتها

ويعود إليها ثانيةً

ويحاول ثالثةً

ويخطَّ الخطَّ المائل فوق الكلمة

أو يرسم دائرة

ويشخبط فوق الأسطر ممتلئاً بالحزن وبالعبرات

مذ رحنا نكتب في الحاسوب قصائدنا

جفَّتْ أنهارٌ كثرٌ

وانسحبت من أقدام الشعراء الطرقات

الحاسوب صديق كهولتنا

جفف ما كنا نحمله من نزق العشاق المنسيين

على الشرفات

لا نعرف من أين نعود إلينا

نحن القديسين بلا صلوات

(٢)

قبل ثلاثين سنة

قالوا إن الحاسوب سيدخل قريتكم

وسيكفينا نزق الطباعين على الآلات

صفقنا للحاسوب القادم نحو منازلنا

وبدأنا نتحسسه

ونصادقه

ونبوح له بالأسرارْ

من يفتح هذا الغيب الغامض في شغفٍ

ويميط السر عن الأزرارْ؟

كيف سندخل هذا الصندوق الأسود؟

كيف نبوح له؟

وبماذا نكتب حيرتنا؟

ونشد العمر على الأسوارْ

يا حاسوب الدنيا حاول أن تأخذنا في رفقٍ

لتدلَّ عليك

حاول أن تفتح في هذي الظلمة عينيك

نحن البدو الرُحَّل منذ سنينَ عجافٍ

ننطر في هذا البرد القارس

دفء يديك

يا حاسوب الدنيا

ماذا يجري؟؟؟

بايعناك

ورافقناك

وضعنا فيك طويلاً

ضعنا فيك

لكنا حين أردنا أن نوقف حيرتنا المرة

ضعنا ثانيةً

وصرخنا خلفك

يا حاسوب الدنيا انتظر الناس قليلاً

فلقد جفَّ العمر على الشاشة

منكسراً وخجولا

ما عاد لنا في هذا العالم إلاك رسولا

لكنا يا حاسوب العمر

ذبلنا فوق الشاشات طويلا

وستأكلنا الوحشة

تأكلنا الوحشة

والتيه يمد يديه دليلا

ونعود من الحاسوب ضحايا منفردين

قتيلاً في الصحراء يدلُّ قتيلا

(٣)

بعد ثلاثين مضت

شاخ الحاسوب

وأنجب أطفالاً في حجم الكف

الحاسوب الآن يشيخ ويترك للناس صغاره

الحاسوب انتصر اليوم علينا

وقريباً جداً سوف يزفُّ لكل العالم

أجراس بشاره

الكل سيترك مخدعه ودياره

لا عائلةٌ تبقى

لا أطفال

الكل يقول ابتعد الآن

فقط الوحشة تطبق فكيها

وتصيح

تعالْ

المنزل ممتلئٌ بالأطفالْ

لكنَّ الأدغالْ

تمتد على الشرفات وفوق الأسطح

بين السكَّر في أقداح الشاي

وحدي أشربه ممتلئاً بالغربة

حتى حوَّلني الحاسوب

لبحِّة ناي

(٤)

لستُ وحيداً

لكني ممتلئٌ بالغربة يا الله

البيت الدافئ ممتلئٌ بالأولاد

صبيانٌ وبناتْ

ومعي امرأتي أيضاً

لكنا منفيون بهذا البيت الدافئ

* النص الكامل على الانترنتمنفيون

الكلمات تشحُّ علينا

اصرخ يومياً

يا أولاد تعالوا

لكنَّ الأولاد بعيدون

بعيدون

البيتُ الضيِّقُ يجمعنا

لكنَّا منفيِّون

ومنعزلون

جزرٌ تتباعد عن أخرى

وقلوبٌ ليس لهنَّ عيون

(٥)

ما أسعدني

يوم ذهبتُ إلى السوق وحيداً

أبتاع الحاسوب

وأرقص في فرحٍ

منتشياً بشراء صديقٍ

يتقاسم أفكاري وحياتي

هيأتُ له منضدةً في زاوية البيت

وبقيتُ أداريه مساءً وصباحا

حتى صار فتىً من فتيان البيت

أخاف عليه من الحمى

وأجسُّ حرارته

وأعدُّ له أكواب القهوة والشاي إذا صاحا

ماذا يحتاج الحاسوب صديقي أو ولدي؟

الشحن بطيء...؟

غيّرتُ الشاحن في غمضة عين

الحاسوب مريض...؟

رحتُ سريعاً أركض فيه إلى الجيران أو المستشفى

حيث الخبراء

يتلمس كلٌّ منهم زراً من أزرار الحاسوب المتعبْ

قالوا يا مجنون

خففْ عن كاهله الكلمات

أثقلتَ الحائط بالصرخات

وملأتَ السطح الأزرق

دمعاً ودماً وعويلَ محطات

(٦)

ماذا نصنع؟

هذا الحاسوب مريضٌ جداً

لا بدَّ له من وقتٍ كي يرتاح

لا بدَّ لهذي الجُملِ الملغومةِ أنْ تنزاح

عن صدر الحاسوب

لكي يغفو مبتهحاً

بفراغ الحائط

مكتفياً بالغابات المحروقة

في صدر الشاعر

أو بالحزن النابت في الأرواح

الحاسوب مريضٌ هذي الليلة يا أشباح

ماذا نفعل والروح معلقةٌ

بالشاحن والمفتاح

ولهذا رحنا نمسحُ آلاف الكلمات

ونزيح برفقٍ عن كاهله

ما تركته الروح من الكدمات

كي يرتاح الحاسوب

مسحنا ذاكرة كاملة

وغناءً عذباً

وبكاء أميرات

كي يرتاح الكلب ابن الكلب

ويضحك منتصراً

رحنا نصرخ مهزومين ومندحرين

الحاسوب سيعلن دولته الكبرى

وسنأتيه سبايا منكسرين

(٧)

مسح الحاسوب بضغطة زر واحدة

آلاف الكلمات

الذاكرة انطفأت هذي الليلة

كي يغفو الحاسوب بلا صرخات

ماذا يعني

أن تشطب أياماً

وتحيل قصائد للنسيان

هذا العالم محكومٌ في ضغط زرٍ

والإنسان بلا إنسان

(٨)

كتب الأجداد على الطين حكايتهم

وكتبنا نحن على الحاسوب حكايتنا

ومضوا

ومضينا

واختلف الدرب علينا

لا نحن حفظنا

ما كتب الأجداد

ولا الحاسوب الأخرس

ردَّ العمر إلينا

يا ضيعتنا

يوم نسينا

في عمق البحر يدينا

(٩)

أعلنا نحن المسبيين هزيمتنا

وكسرنا آخر أقلام الليل

والمسودَّات انهزمت

ومزاج الأوراق تغير

من يقنع هذي الشاشة

أني أكتب شعراً

وبأني أبكي فوق الأوراق طويلاً

كي يخرج سطرٌ

ممتلئٌ بالأطفال

والآن كما تبصر

آلاف الكلمات تجيء وتذهب

فوق الشاشة

والأطفال الموتى

يختبئون وراء الشاشة

أيقوناتٍ

وينامون على الأدغال

هذا عصرك يا ابن رغال

فاستعجل

من أبطأ خطوك؟

والكل يصيح عليك

تعال

(١٠)

كنا حين يموت لنا رجلٌ

نتوشح بالأسود أعواماً أعواما

لا نفتح مذياعاً

أو نسمع أغنيةً

أو حتى نعلك في السرِّ

فقد صرنا نحن الفتيان

فتيان القرية

أشباحاً ويتامى

نبكي ونصيح ونحزن

نقطع آلاف الأمتار

لنبكي هذا الرجل الراحل عنا

أما اليوم

والفضل يعود إلى الحاسوب

فقد حولهم أرقاماً أرقاما

لن نبكي

فهنالك وجه في الشاشة يبكي بدلاً عني

لن أحزن

الشاشة فيها وجه مرسوم للحزن

سيحزن قبلي في ضغطة زر واحدة

وسيكتب تعزيةً قبلي

وسيرسلها بدلاً عني

وأنا متكئٌ منسيٌّ

كنكاتٍ مرَّ عليها زمنٌ

فاهترأتْ

وبقيت أعاتب أياماً هرمت

وأشيل على ظهريَ أياما

(١١)

ما الذي يصنعه الحاسوب فينا يا إلهي

نحن أولادك ساعدنا

فقد بعثرنا ليل المتاه

ونسينا العمر مشحوناً ومربوطاً مع النقال

فيما نحن منفيون بين الأهل

ملقاةٌ أغانينا القديمات على الدرب

وهذا العمر مشرورٌ على حبل الغوايات

وساهِ

دلنا يا رب

نحن أبناؤك تهنا

والعلامات التي توصلنا للبيت ضاعت

واختفت كل المواعيد الأغاني

الضحك الحلو النكات السير في الليل

ولم يبق سوى

حسرةٍ تنسل من فوق الشفاه

(١٢)

كل شيءٍ قد تغير

كل شي

صالة البيت التي نأوي إليها

ذبلت فينا ونامت دون ضي

جرس البيت اختفى أيضاً

وباب البيت ملقى في يدي

لم يعد يطرقه جارٌ

ولا صحبٌ

وحتى لم يعد يعبث في لحيته

أطفالنا في الحي

بدأت تذبل فينا الكلمات

مثلاً جار لنا قد مات

جارٌ طيبٌ كانت تناغيه المنازل

ما الذي نفعله

والجار هذا الجار راحل

غير أن نبعث وجهاً باكياً

نرسله بين الرسائل

كيف يا رب اختصرنا ذلك الحزن

ومن أطفأ بركان المشاعل

(١٣)

لم يعد للحب معنى

لم يعد كانوا وكنا

هبط الليل علينا ثم لم ترجع

إلى القلب المنازل

لم يعد يبكي المحبون

ولم يطرق جدار القلب سائل

كل ما يفعله الآن المحبون القلائل

صورة جاهزة يرسلها النقال صمتاً

ثم تنسى بين آلاف الرسائل

صورة كررها قبلك آلاف وآلاف

إلى أن بهت اللون

وتاه الحب منسياً

على الشاشات

منسياً وذابلْ.