البنية السريالية في «المؤتمر الأدبي»

أول عمل للإسباني سيزار آيرا بالعربية

البنية السريالية في «المؤتمر الأدبي»
TT

البنية السريالية في «المؤتمر الأدبي»

البنية السريالية في «المؤتمر الأدبي»

صدرت عن دار «مسكيلياني» للنشر بتونس نوفيلا تحمل عنوان «المؤتمر الأدبي» للكاتب الأرجنتيني سيزار آيرا، ترجمة عبد الكريم بدرخان، وهي النوفيلا الأولى لآيرا التي تُترجَم إلى اللغة العربية علماً بأن روايته القصيرة الأولى «مرييرا» وجدت طريقها إلى النشر عام 1975، وقد بلغ رصيده الإبداعي حتى الآن سبعين نوفيلا، إضافة إلى تراجمه وكتاباته النقدية الأخرى.
قبل أن ندخل إلى فضاءات هذه النوفيلا (96 صفحة) لا بد من الوقوف عند تقنيتها، فالمعروف عن آيرا موقفه المناهض للواقعية السحرية؛ إذ ثار عليها منذ وقت مبكّر، وكتبَ ضدّها على الرغم من شيوعها في أميركا اللاتينية وهيمنة الكثير من كُتّابها أمثال ماركيز، خوان رولفو، أوسترياس، إيزابيل الليندي، بورخيس وسواهم من المبدعين الذين تركوا بصماتٍ واضحة في الذاكرة الجمعية للقراء في مختلف أرجاء العالم. فما جديد سيزار آيرا على الصعيد التقني؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد من الإشارة إلى أن عدد نوفيلات آيرا المترجمة إلى الإنجليزية قد بلغ حتى الآن إحدى عشرة نوفيلا، وهو عدد قليل لا يسمح للناقد بالمجازفة في إطلاق الأحكام. ومع ذلك سنتجرأ قليلاً ونقول إن نوفيلاته تجمع بين المعقول واللامعقول، وتزاوج بين الواقع والحلم، آخذين بنظر الاعتبار أن غالبية النقاد الأرجنتينيين قد أحالوا كتاباته إلى أربع مدارس أدبية وفنية معروفة، وهي: «الواقعية، العبثية، السريالية والدادائية» في إشارة صريحة إلى مرجعيتها الأوروبية، ورغبة الكاتب المحمومة في تجاوز الواقعية السحرية بوصفها حركة أدبية قديمة لم تعد تتماشى مع روح العصر.
تبدو أن عبارة «المؤتمر الأدبي» تقريرية ولا تصلح أن تكون عنواناً لهذه النوفيلا، لكننا ما إن نشرع في القراءة حتى نبدأ باستساغة العنوان شيئا فشيئاً. تتألف هذه النوفيلا من فصلين وهما «خط ماكوتو»، وهو فصل قصير يشتمل على عشر صفحات لا غير، بينما يغطي الفصل الثاني المعنون بـ«المؤتمر الأدبي» بقية الصفحات التي قسّمها الكاتب إلى ثمانية مقاطع تصوّر التصعيد الدرامي للحدث السُريالي الذي ترتكز عليه النوفيلا، فثمة أحداث عجائبية ثلاثة تتوزع بانتظام تقريباً في مستهل النص ووسطه ونهايته قبل أن يتركنا الكاتب في مواجهة النهاية المفتوحة، وهي تقنيته المفضلة في كتابة النص النوفيلوّي الذي يشترط وجود قارئ عضوي يتفاعل مع الأحداث ويُشارك في صناعتها.
يُمثِّل الفصل الأول عتبة نصيّة تتيح للقارئ أن يتعرّف إلى البطل الذي اكتشف «خط ماكوتو» مُصادفة، فهو لا يعترف بعبقريته العلمية الفاذّة، ولا يُعير وزناً لموهبته الأدبية، كما أن تجاربه العلمية مُحاطة بالسرية والكتمان، ويصف نفسه غالباً «بالعالم المجنون»، آخذين بنظر الاعتبار أن آيرا يسخر من نفسه، وتشكِّل هذه السخرية جزءاً حيوياً من أسلوبه في كتابة نصوصه الإبداعية. يعمل هذا البطل منذ شبابه بالترجمة وهي وسيلته الوحيدة لكسب قوته اليومي. ولو دققنا في غالبية هذه التفاصيل لوجدناها تنطبق تماماً على سيزار آيرا نفسه الذي يجسّد دور البطولة في العديد من أعماله الأدبية، لكنها ليست بالضرورة سيرة ذاتية متطابقة في كل التفاصيل.
تتكئ هذه النوفيلا برُمتها على ثلاثة مشاهد سُريالية مُدهشة، وهي ظهور الكنز من قلب البحر، وطَوَفان تمثال البرونز على سطح المسبح، وانحدار مئات من الديدان العملاقة الزرقاء من الجبال المحيطة بمدينة ميريدا الأثرية. لا شك في أن المشهد الأول سُريالي بامتياز؛ فهو يُعبِّر عمّا يحدث في العقل الباطن للبطل الذي سمع صوت قرقعة هائلة، ثم رأى صندوق الكنز يقفز من قلب البحر، ويرتفع قرابة مائتي قدم، ثم يتوقف في الأعلى لحظة واحدة قبل أن يهبط عمودياً إلى الأسفل عند قدميه ليجعل منه ثرياً في لحظات!
سيتكرر هذا المشهد السُريالي المُدهش حينما يرى البطل «تمثالاً من البرونز يطفو على سطح الماء، ثم يخرج من قلب الزبد ويتمشى على حافة المسبح بلونه الوردي، تمثالاً مُفعماً بالحياة»(ص46). وسرعان ما نكتشف أنه تمثال أميلينا الذي تجسّد له عبر رؤية سُرياليّة مُبهمَة، إذ سبق له أن التقى بها في هذا المسبح تحديداً، ووقع في حبِّها رغم أنها كانت في عمر ابنته، لكنه لم يستطع نسيانها أبدا لأنها أصبحت مُلهِمته.
يمكن اعتبار المشهد السُريالي الثالث هو متن النوفيلا وذروتها التي سوف تفضي إلى النهاية المفتوحة. وقبل الخوض في تفاصيل هذا المشهد الذي تستند عليه النوفيلا برمتها يجدر بنا أن نتعرف جيداً إلى راوي النص وبطله؛ فهو عالم أجرى تجارب كثيرة، وقد نجح في استنساخ الحشرات والحيوانات الزاحفة والأفراد، وكان «يريد لمخلوقاته المُستنسَخة أن تكون تحت رحمته» (21). وفي خاتمة المطاف قرّر أن يستنسخ الروائي المكسيكي كارلوس فوينتس الذي أحبّه وأعجب بكتاباته الأدبية. وقد لبّى الراوي دعوة المؤتمر الأدبي بعد أن تأكد من حضور فوينتس نفسه. غير أن أمراً مُريباً حدث في اليوم السابع، وهي المدة التي تحتاج إليها عملية الاستنساخ؛ إذ احتشد الناس على أسطح البنايات بينما كانت نواقيس الكاتدرائيات تُقرَع في كل أرجاء المدينة. فثمة ديدان عملاقة زرقاء بطول 1000 قدم وبقطر 70 قدماً تنحدر ببطء من أعالي الجبال، كائنات لزجة، أسطوانية الشكل دونما رؤوس أو أذيال، مخلوقات جبارة تزيح الصخور الثقيلة، وتشق خاصرة الجبل محوّلة أشجاره الضخمة إلى فُتات مُبعثر. ربما لا تحتاج المدينة إلى أكثر من اثنين أو ثلاثة من هذه الديدان الضخمة لكي تمحوها من الوجود رغم أنها لا تمتلك نزعة شرّيرة. فجأة تذكر العالم المجنون أن هذا اللون الأزرق البرّاق قريب جداً من ربطة العُنُق التي كان يرتديها فوينتس، ومن المحتمل جداً أن دبّورته قد جلبت خلية من ربطة عُنُقه الحريرية لا من جسده. لم تخطئ آلة الاستنساخ إذن، فلقد قرأت الشيفرة الوراثية وإعادة استنساخها، لكن العالم المجنون هو الذي ترك الآلة على زر «العمْلقة»، وهو المسؤول الوحيد عن هذه الكارثة ويتوجب عليه إيقافها. كان عقله العبقري يعمل دون عِلمه ومشورته مع أنه كان يعرف الأثر الذي يُحدثه الضوء في الخلايا المستنسخة. وضع الديدان أمام عدسة المجهر وبدأت الصور المنعكسة على الشاشة تمتصها تباعاً حتى اختفى القطيع برمته فظن الناس المذهولون أنهم أمام معجزة كبيرة، بينما ظل العالم موقناً بأن لا شيء في هذا الوجود يحدث من دون سبب، وأن الواحد هو الكل، وهذه هي طبيعة الخلايا المُستنسخة.
تجدر الإشارة بأن نوفيلا «المؤتمر الأدبي» لسيزار آيرا تُذكِّرنا في الأقل برواية «فرانكشتاين» للكاتبة البريطانية ماري شيلي التي صنع بطلها مسخاً هائلاً سوف يستدل على خالِقه ويبدأ بتصفية أفراد أسرته تباعاً مع اختلاف التفاصيل بطبيعة الحال، فديدان آيرا العملاقة الزرقاء ليست شرّيرة على الرغم من أحجامها المهولة بينما كان مسخ شيلي قاتلاً مع سبق الترصد والإصرار.
تتآزر في نوفيلات آيرا المُتقنة عناصر عدة تتمثل في عذوبة اللغة، وغرابة الأفكار، وسلاسة السرد التي تُغري القارئ وتجعله يصدّق الأحداث الفنتازية التي تقع ضمن إطارها الغرائبي واللامعقول.
كثيرون أولئك الذين أثنوا على موهبة آيرا وقدرته الإبداعية، لكننا سنكتفي بالإشارة فقط إلى رأي الكاتب التشيلي روبيرتو بولانيو الذي قال: «آيرا واحد من ثلاثة أفضل كُتّاب يكتبون باللغة الإسبانية اليوم».



«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز
TT

«موعدنا في شهر آب»... شيخوخة الكاتب وفحولة المكتوب

ماركيز
ماركيز

«موعدنا في شهر آب» الهدية التي أرسل بها ماركيز من العالم الآخر إلى قرائه بمناسبة مرور عشر سنوات على رحيله، تثير كثيرا من الأسئلة، بداية من النص ذاته وكاتبه وطبيعة تعاقده مع القارئ، وانتهاء بأسئلة عامة أخرى حول صناعة النشر والتحرير وحدود حرية التصرف في نص بعد رحيل كاتبه، خصوصاً أن نشر النوفيلا القصيرة قد أُتبع بإعلان نجلي ماركيز عن مسلسل تنتجه منصة «نتفليكس» عن «مائة عام من العزلة» أشهر روايات ماركيز التي رفض رفضاً قاطعاً نقلها إلى السينما في حياته. السؤال حول أخلاقية التصرف في أعمال الكاتب الراحل سبق تناوله ولا يمكن الوصول إلى كلمة فصل بشأنه؛ فتراث المبدع الراحل ملك لورثته بحكم القانون، يحلون محله لمدة خمسين عاماً في التصرف به قبل أن يصبح مشاعاً إنسانيّاً. وقد أجاد ابنا ماركيز الدفاع عن قراريهما بخصوص الروايتين.

تبدو مقدمة الرواية الجديدة التي وقعها رودريغو وغونثالو ماركيز بارتشا، عذبة ومراوغة، إلى حد يجعلنا نتوهم أن كاتبها هو ماركيز ذاته؛ حيث تتجلى فيها سمات أسلوبه، الذي يستند إلى حكمة اللايقين (المبدأ الذي نظَّر له كونديرا، دون أن يتجلى في كتاباته بقدر ما يتجلى في أسلوب الساحر الكولومبي).

بداية هناك الأسف على ذاكرة الأب، وأنقل هنا وكل الاقتباسات التالية عن نص الترجمة العربية التي أنجزها وضاح محمود، «كان فقدان الذاكرة الذي عاناه والدنا في السنوات الأخيرة من حياته أمراً غاية في الصعوبة علينا جميعاً، مثلما يمكن لأي امرئ أن يتصور ذلك بسهولة». وينقلان عنه: «إن الذاكرة مادتي الأولية وعدة عملي في الوقت عينه، ومن دونها لا وجود لأي شيء».

ويقرر الولدان أن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له، ويشيران إلى طبيعة العمل الصعب للمحرر على النسخ الكثيرة من الرواية، ويتركان الحديث عن ذلك للمحرر كريستوبال بيرا في ملاحظاته المنشورة تذييلاً للطبعة ذاتها، لاعتقادهما بأنه سيفعل ذلك «بطريقة أفضل بكثير مما يمكن أن نفعل نحن الاثنين معاً، ففي تلك الأثناء لم نكن نعلم شيئاً عن الكتاب باستثناء حكم غابو عليه: هذا الكتاب لا نفع منه ولا بد من تمزيقه». بهذه الملاحظة يهيئان القارئ للمفارقة، فهما لم يمزقا النص، بل قررا نشره بعد أن نظرا في أمر العمل فوجدا أنه يزخر بمزايا كثيرة يمكن الاستمتاع بها، ثم يقرران تحوطاً «في حقيقة الأمر لا يبدو النص مصقولاً كما هو حال أعماله العظيمة الأخرى؛ ففيه بعض العثرات والتناقضات الصغيرة، إنما ليس فيه شيء يمنع القارئ من التمتع بأبرز ما في أعمال غابو من سمات مميزة». هو التلاعب الماركيزي ذاته والقدرة على تقديم مرافعة مقنعة، وبعد ذلك يستبقان القارئ العدو، فيقولان عن نفسيهما ما يمكن أن يقوله، ويؤكدان أنهما «قررا، بفعل يقارب أفعال الخيانة، أن ينشرا النص، مراهنين على مسرة القراء قبل أي اعتبار آخر، فإن هم احتفوا بالكتاب وسروا به، فعسى أن يغفر لنا غابو فعلتنا، ويعفو عنا».

لكن تذييل المحرر كريستوبال بيرا لا يوحي أبداً بأن ثمة معضلات كبرى واجهته في اعتماد نسخة الرواية. يحكي المحرر بداية عن تعارفه مع ماركيز مصادفة بسبب غياب محرره الأصلي كلاوديو لوبيث لامدريد، إذ هاتفته الوكيلة كارمن بالثلس في أغسطس (آب) من عام 2001 تطلب منه العمل مع ماركيز على نشر مذكراته «عشت لأروي». وقد عمل بيرا مع ماركيز على أجزاء من المذكرات عن بعد 200. ثم تأخر استئناف العلاقة بينهما إلى عام 2008. وفي بناء ماركيزي من الاستباقات والإرجاءات التشويقية، يطلعنا المحرر على سيرة طويلة وعلنية لـ«موعدنا في شهر آب» مع كاتبها لا تجعل منها لقية أو مفاجأة أدبية بالمعنى الذي يكون عند اكتشاف نص مجهول تماماً بعد رحيل صاحبه.

يغطي المحرر وقت غيابه عن ماركيز بشهادة سكرتيرة ماركيز مونيكا ألونسو، التي تقرر أنه انتهى من تسليم الملازم النهائية من المذكرات في يونيو (حزيران) من عام 2002، وبدا خاوياً بلا مشروع، لكنها عثرت أثناء تفقدها الأدراج على مخطوطتين، أولاهما تحمل عنوان «هي» والثانية «موعدنا في شهر آب» ومنذ أغسطس 2002 وحتى يوليو (تموز) 2003 انكب ماركيز على العمل في «هي» التي تغير عنوانها عند نشرها في 2004 إلى «ذكريات غانياتي الحزينات». أما «موعدنا في شهر آب» فقد نشر منها فصلاً عام 2003، مما يعد إعلاناً بأنه بدأ المضي قدماً في مشروعه الثاني. لكن الخبر الأول عن هذه الرواية كان أقدم من ذلك، وتحديداً يعود إلى عام 1999 حيث فاجأ ماركيز الحضور في مؤتمر أدبي عن الخيال في الرواية اللاتينية بقراءة فصل من هذه الرواية بدلاً من أن يلقي كلمة، وبعد ذلك نشرت الصحافة خبراً مفاده أن العمل الجديد عبارة عن خمس قصص بطلتها واحدة هي آنا مجدلينا باخ.

يثني المحرر على انضباط مونيكا ألونسو التي لازمت ماركيز فترة كتابته الرواية، من بدايتها عام 1999 إلى عام 2004 حين أنجز النسخة الخامسة من التعديلات وكتب على مخطوطتها: «موافقة نهائية مؤكدة. تفاصيل حولها في الفصل الثاني. انتباه، قد يكون الفصل الأخير هو فصل الختام، هل هو الأفضل؟». حسم ماركيز واضح في بداية العبارة. وأما ما جاء بعد ذلك؛ فيمكن فهمه في إطار الوساوس التي تلاحق الكاتب حتى أمام بروفات الطباعة.

يقرر كريستوبال بيرا أن ماركيز كف عن العمل على الرواية بعد تلك النسخة الخامسة، وأرسل نموذجاً عنها إلى وكيلته كارمن بالثلس في برشلونة. عند هذا الحد كان من الممكن للرواية أن تنشر في حياته دون الدخول في معضلات نشر ما بعد الوفاة، لكن كريستوبال لا يحكي شيئاً عما حدث بين ماركيز والوكيلة. هل عاد وطلب منها التريث أم نصحته هي بذلك؟ لكنه يورد عبارة على لسان ماركيز قالها لسكرتيرته: «أحياناً يجب ترك الكتب كي ترتاح»، وإذا لم تكن العبارة تبريراً لقرار بتعليق النص، فهي مقولة عادية جداً، يعرفها جميع المبدعين ويعملون بها.

يخبرنا المحرر أن الكاتب دخل بعد ذلك في الاستعداد لمناسبة عزيزة، وهي الاحتفال بالذكرى الأربعين لصدور «مائة عام من العزلة» عام 2007 ثم العمل على جمع مقالات كتاب «لم آت لألقي خطبة»، فهل كان الانشغال بالحدثين سبب التأجيل؟ يصل بنا المحرر إلى أن الوكيلة طلبت منه صيف 2010 أن يحث ماركيز على إنهاء «موعدنا في شهر آب» ولم يكن قد عثر على ختام لها حتى ذلك التاريخ، لكنه عثر على إلهام النهاية بعد ذلك، «قرأ عليَّ الفقرة الأخيرة التي يختم بها القصة ختاماً مدهشاً».

رغم كل هذا التأهيل للقارئ بأن العمل انتهى على النحو الأمثل على يد صاحبه، يعود المحرر ليقول إن ذاكرة ماركيز بدأت تخونه، فلا تتيح له أن يوفق بين عناصر نسخته النهائية كلها، ولا أن يثبت التصحيحات التي أجراها عليها. لدينا في حكاية المحرر الكثير من الفجوات مثل فجوات الخفاء التي يتركها الروائيون عمداً. هل تشبث ماركيز بروايته ورفض نشرها بعد كتابة الخاتمة لمجرد أن يملأ أيامه ويقنع نفسه بأنه لم يزل في حالة كتابة، أم أن ظروفاً حالت دون النشر؟

لا يجيب المحرر عن هذا السؤال أيضاً، ويعود فيقرر أن السكرتيرة كانت قد أبقت على الكومبيوتر نسخة رقمية «لا تزال تتعايش بين ثناياها مقاطع من خيارات أو مشاهد أخرى كان الكاتب قد أولاها عنايته سابقاً»، وأنه عمل على تحرير الرواية اعتماداً على الوثيقتين معاً، أي النسخة الورقية الخامسة والنسخة الإلكترونية، مقرراً بأن عمله كان مثل عمل مرمم اللوحات، «إن عمل المحرر ليس تغيير نص الكتاب إنما على جعله أكثر تماسكاً، انطلاقاً مما هو مكتوب على الورق».

إذا كان الكاتب قد اعتمد نسخته الخامسة، فلماذا العودة إلى نسخة إلكترونية سابقة؟

تبقى كل الأسئلة معلقة، والمهم أن الرواية صدرت في النهاية بكيفية تجعلنا نفترض أن تضخيم عمل المحرر في المقدمة والتذييل عمل من أعمال الدعاية المصاحبة للنشر، لأننا بصدد نص يتمتع بالمهارة الماركيزية المعتادة.

البطلة امرأة في منتصف العمر تذهب في السادس عشر من «آب» كل سنة لتضع باقة زنبق على قبر أمها في جزيرة فقيرة، وتمضي ليلتها في فندق، حيث تعثر على عشيق العام في لقاء المرة الواحدة. وفي نهاية الرواية تجد آنا مجدلينا ضائعة بين تجارب حب عابرة لا تجلب سعادة وعدم الاستقرار في الزواج؛ فتقرر في الرحلة الأخيرة استخراج عظام أمها لتأخذها معها وتكف عن الذهاب للجزيرة، الأمر الذي يذكرنا بكيس عظام والدي ريبيكا (ابنة المؤسس بالتبني في «مائة عام من العزلة») وقد أخبرتها عرافة بأنها لن تعرف السعادة ما دامت عظام أبويها لم تدفن، وبدورها تنقل الخبر إلى جوزيه أركاديو بيونديا فيتذكر كيس العظام الذي حُمل مع الصغيرة، ويبحث عنه فيدله البنَّاء بأنه وضعه في جدار البيت، فيستخرجه ويتدبر له قبراً بلا شاهد. وكأن الاستقرار على سطح أرض يستلزم توطين عظام الأسلاف في باطنها.

الرواية الجديدة أكثر شبهاً بتوأمتها «ذكرى غانياتي الحزينات» بداية من رفقة مخطوطيهما، ما يؤكد أنهما كانتا آخر ما كتب ماركيز، وكلتاهما من أقل أعماله ألقاً، وتثبتان معاً أنه رحل وفي نفسه شيء من «الجميلات النائمات» لياسوناري كاواباتا. لكن تتبعه لخطى كاواباتا في «موعدنا في شهر آب» يبدو أكثر رهافة من نموذج الغانيات، فقد جعل البطولة للمرأة هنا وليس للرجل، واستغنى عن حبة المنوم، وإن ظل النوم حاجزاً يحول دون التعارف.

وتبدو في هذه النوفيلا القصيرة مهارات ماركيز كلها، التي جعلته واحداً من السحرة الذين يجبرون القارئ على التخلي عن الممانعة ومنحهم تواطؤه غير المشروط إكراماً لمهارتهم.

البناء محكم؛ فالشخصية الرئيسية آنا مجدلينا مرسومة جيداً، وكذلك بناء شخصيات زوجها وابنتها وابنها ورجالها المجهولين، الجميع يتمتعون بالجودة ذاتها في حدود مساحاتهم بالنص. والمكان محدود بالبيت والعبَّارة والمقبرة وفنادق الجزيرة، ومع ذلك تدبر ماركيز في كل مرة بداية ونهاية مختلفة لكل فصل أو قصة من قصص الكتاب.

يقول ولدا ماركيز إن الرواية كتبت في مسار يتأرجح بين نزوع ماركيز إلى الكمال وخيانة قدراته الذهنية له

بناء اللغة هو ذاته المعتاد لدى ماركيز، من حيث الإغراق في البهارات، والميل إلى الحماسة كاستخدام المطلقات في وصف لوثات الحب التي تغير حياة المحب إلى الأبد، «لن تعود أبداً مثلما كانت من قبل» أو تجعل العاشق يشعر بأنه يعرف الآخر «منذ الأزل». وهناك دائماً الرغبات الجامحة، والالتهام المتبادل في نزال الحب. وتمتد حماسة الأسلوب الماركيزي حتى تشمل حفاري القبور، «استخرج الحارس التابوت بمعونة حفار قبور استُقدم للمناسبة مقابل أجر، ثم رفعا عنه الغطاء بلا رأفة». كما تنتقل المشاعر من الشخصية إلى الأشياء حولها، وكأنها تردد ما بداخلها، «ولما دخلت المنزل، توجهت إلى فيلومينا وسألتها مذعورة عن الكارثة التي حلت فيه بغيابها، إذ لاحظت أن الطيور لم تعد تغرد في أقفاصها، وأن أصص الأزهار الأمازونية والسراخس المدلاة، والعرائش المتسلقة ذات الزهور الزرقاء اختفت عن التراس الداخلي».

لدينا كذلك سمة المفارقة الماركيزية ترصع الأسلوب كما في هذه العبارة: «وفي السنوات الأخيرة غرقت حتى القاع في روايات الخوارق. لكنها في ذلك اليوم تمددت في الشمس على سطح العبَّارة ولم تستطع أن تقرأ حرفاً واحداً».

يبقى في النهاية أن تأمل الروايتين الأخيرتين يجعلنا نكتشف أن الحسية وعرامة الحياة ظاهرة ملازمة لماركيز على نغمة واحدة منذ بدايته إلى نهايته، وكأنه آلة مضبوطة على هذه الدرجة من الفحولة، بلا أي أثر لمرور العمر أو تداعي الجسد الملازم للشيخوخة، ولا حتى أثر الخوف من الذاكرة الذي نجده في المقدمة والتذييل!