يناضل الأكراد في العالم من أجل الحصول على وطن يضم الشتات المتواجد في أربع دول رئيسية وهي، تركيا وإيران والعراق وسوريا، مع انتشار محدود في العديد من دول العالم وبينها مصر، حيث إن هناك بعضا من العائلات المصرية التي تمتد جذورها إلى كردستان وهي حاليا تعيش في مصر، وتطالب بالحصول على تصريح يمنحها شرعية بمركز ثقافي يحمل اسمها ويوثق تاريخها.
تلقيت دعوة من المخرج الكبير علي بدرخان للمشاركة في حضور حفل تكريمه، بعد نيله أرفع جائزة مصرية «النيل للفنون»، التي منحت له بسبب إبداعه الفني المتميّز على مدى يصل إلى 50 سنة.
مكان الاحتفال هو المركز الثقافي الكردي في القاهرة، تحت الإنشاء، حيث إن عائلة بدرخان واحدة من أكبر العائلات المصرية التي لها جذور كردية. انتقل الأجداد من كردستان إلى مصر، وعندما سافر قبل عامين إلى أربيل عاصمة كردستان لحضور مهرجان سينمائي هناك، اكتشف أنّ للعائلة امتدادا في الأراضي الكردية.
في طريقي إلى مركز الثقافة الكردي كانت المفاجأة، لا أحد يعرف أنّ هناك مركزا يحمل أساسا هذا الاسم، بحثت على رقم العمارة كما هو مكتوب في رسالة (الموبايل)، وسألت حارس العقار، فأجابني لا يوجد مركز كردي، وحتى الكلمة لم يستسغها يعني إيه كردي؟ ونفى أساسا وجود مركز في العمارة، وطبعا لم يكن لدي متسع من الوقت لأشرح، فكلّها بالنسبة للحارس مجرد شقق تحمل أرقاما. قال لي بثقة مطلقة «ما عندناش حد بالاسم ده يا محترم»، تذكرت أغنية للمطرب الشعبي بهاء سلطان «قوم أقف وانت بتكلمني»، حين كان الحارس يتحدث وهو جالس على الكرسي بقدر لا يُنكر من التعالي، أيقنت أنّ هناك خطأ ما وهممت بالانصراف، أنقذني أحد الجيران، كان في طريقه للمصعد، فاستمع إلى جانب من الحوار، يبدو أنّه تعرف علي، ربما شاهدني في أحد البرامج، وتلك هي الفائدة ربما الوحيدة التي من الممكن أن تحققها الفضائيات، وقال لي: «تقصد شقة الأستاذ رجائي فايد؟». ولم أكن أعرف حقيقة، حتى تلك اللحظة، اسمه، ولكنّني تشبثت بآخر رجاء وقلت بأنّه الأستاذ رجائي، فقال الشقة في الدور الخامس. وبالفعل، صعدت متردداً وأنا أخشى أن أكون قد أخطأت، ووجدت الباب مفتوحا، وتلك بداية مشجعة طالما هناك ندوة، فما الداعي لغلق الأبواب؟ صحيح لا توجد يافطة على الباب، ولكن في الصالة يافطة مكتوب عليها المركز المصري للدراسات والبحوث الكردية، وفهمت من مدير المركز أنّ الموقف على المستوى الإداري لم يحسم بعد، ولهذا لم يستطع حتى الآن الحصول على ترخيص رسمي بممارسة النشاط في الشقة، ولكن لديه تصريح شفهي من السلطات المختصة وبعدها من الممكن وضع يافطة وإخبار حارس العمارة، أنّ في مصر عددا لا بأس به من الأكراد وأنّه واحد منهم، وطبعا سيشرح له «يعني إيه أساسا أكراد».
رأيت الأستاذ علي بدرخان متصدرا المشهد وحوله عدد من مريديه وأصدقائه وتلاميذه، فهو بجانب كونه مخرجا ينتمي إلى جيل مطلع السبعينات، إلا أنّه في الوقت نفسه، حريص على مواصلة التدريس لطلبة معهد السينما وأيضا الأكاديمية الصغيرة التي أنشئت قبل سنوات وتحمل اسم بدرخان.
تخرج علي بدرخان بالضبط قبل 50 سنة، من معهد السينما في دفعة أطلقوا عليها ساخرين «النكسة»، لأنّها واكبت هزيمة 67. وضمت بالإضافة لبدرخان، المخرجين داود عبد السيد وخيري بشارة، والغريب أنّ الثلاثة جمعتهم «دكة» واحدة.
بدأت الندوة وبإيقاع سريع من مدير المركز، حيث حصل بدرخان على الدرع الذي يحمل شعار المركز، واكتشفت أنّ عددا من العائلات المصرية تنتمي لجذور كردية بما فيها محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة. أكثر من ذلك أنّ الرابطة الجينية ممتدة من القرن الرابع عشر قبل الميلاد، إذ أنّ هناك قواسم عائلية مشتركة بين الفراعنة والأكراد، وأنّ مصر كالعادة ينصهر فيها الجميع ليصبحوا فقط مصريين، وهكذا تتعدّد أسماء المشاهير، مثل أمير الشعراء أحمد شوقي وعملاق الأدب العربي عباس محمود العقاد والفنانان التشكيليان الشقيقان سيف وأدهم وانلي والإمام محمد عبده وقاسم أمين والشيخ عبد الباسط عبد الصمد والأديبان الشقيقان محمد ومحمود تيمور، ومن النجوم في الفن سعاد حسني ونجاة وشريهان وعمر خورشيد وغيرهم، وهذه فقط عينة ولم يكن هناك أبدا تمييز بين كردي ومصري ففي مصر ينصهر الجميع.
سألت علي بدرخان، هل علمك والدك اللغة الكردية؟ أجابني: «لا. كان يعتز بجذوره طبعا، ولكنّه أيقن أنّ حياته ومصيره وفنه، لن يقدمه إلا في مصر. كان يريدني أن أكمل الطريق، وهكذا ذهبت إلى معهد السينما الذي كان قريبا من الفيلا التي ولدت فيها بشارع الهرم، ولم أتحدث أو أكتب أبدا بالكردية، إلا أنّه كان حريصاً على ألا أنسى أبدا جذوري».
عدد الأكراد في العالم لا يتجاوز 40 مليونا في أكثر التقديرات، وفي أقلّها 30 مليونا، وهم يناضلون من أجل تأكيد هويتهم في وطن يجمعهم. بينهم وبين القومية العربية روابط ومصير وتاريخ كفاح ونضال مشترك، والقائد صلاح الدين الأيوبي لا يمكن لأحد سوى أن يتذكره بكل اعتزاز، رغم ما ناله مؤخرا من انتقادات حادة من الكاتب الكبير يوسف زيدان، ولكن هذه قصة أخرى، حقهم الطبيعي في وطن يحمل اسمهم ويضم شتاتهم لا ينبغي تجاهله بل علينا إعلانه وتأييده.
الجذور الكردية لعلي بدرخان بمثابة توثيق للتاريخ، لكنّه طبعا حصل على جائزة مصرية لإبداعه المصري، أكدت الجائزة على أنّ القيمة الإبداعية لا تموت، البعض عندما يؤرخ الإنجاز السينمائي لعلي بدرخان يحاول أن يحصره في تلك المواقف السياسية في أفلامه مثل «الكرنك» الذي انتقد المعتقلات في زمن عبد الناصر، وهو مأخوذ عن رواية لنجيب محفوظ الذي كان الكاتب الأقرب لعلي بدرخان، حين قدم له أيضا واحدة من قصص الحرافيش «سارق النعمة» في فيلم «الجوع»، وإن كان هذا لم يمنع من أن تجد في الفيلم ملامح من القصص التسع الأخرى في ملحمة الحرافيش، والعمل الثالث هو «أهل القمة». وتناول «الجوع» ضرورة التخلص من هيمنة الزعامة والخضوع المطلق للبطل الذي ننتظر منه أن ينتصر لنا في معركتنا بينما نحن لا نفعل شيئا سوى الخضوع، في «أهل القمة» انتقد الانفتاح الاقتصادي العشوائي في زمن السادات.
في مرات قليلة جداً التقيت فيها علي بدرخان، ولكنّه من أكثر الشخصيات التي حفرت بداخلي مساحة من الحب الشخصي والفني، إنّه الطفل الذي تجاوز السبعين، ولا يزال محتفظا بحقه في المشاغبة.
لم يكن يوما صوتا للدولة، ولا يردد ما تريده، ولكنّه يُعلن على الملأ قناعاته، وعندما تأتي الفرصة، يرصدها على شريط سينمائي. كثيرا ما رأيته مشاركا في ندوة أو مؤتمر، ولا يضع أبدا أمامه، أي محاذير، ولا يسأل نفسه، هل أدفع ثمن هذا الرأي؟ في نهاية الثمانينات مثلا، وتحديدا 87، تزعم ما كان يعرف وقتها بجبهة الفنانين لإسقاط قانون أطلقوا عليه 103. حين أرادت الدولة من خلاله إحكام قبضتها على النقابات الفنية، وعندما قامت جبهة «كفاية» في مطلع الألفية الثالثة التي رفعت شعار «لا للتمديد لا للتوريث»، كان أيضاً بدرخان من المؤسسين لها، ولكن يظل أنّه من الظلم للمخرج الكبير أن يسيطر الجانب النضالي الثوري السياسي على تحليل إبداعه. صحيح أنّهما وجهان لعملة واحدة، ولكن هناك ولا شك جماليات فنية على مستوى الاستخدام المرئي والسمعي لكل المفردات الفنية في أفلام بدرخان، لا يمكن سوى أن تستوقفنا.
شكلت سعاد حسني القسط الأكبر والأهم فكريا وإبداعيا والأكثر نجاحا على مستوى الشباك، في مشواره بأفلام «الحب الذي كان» و{الكرنك} و{شفيقة ومتولي} و{أهل القمة} و{الجوع}، الطلاق الذي وقع بينهما في منتصف الثمانينات لم يصل بهما إلى الطلاق الفني، وجاء {الراعي والنساء} عام 1991. فكان آخر إطلالة لسعاد على الشاشة. أيضا لم يمنع الزواج بدرخان من أن يقدّم فيلم {شيلني وأشيلك} عام 77 بطولة نسرين، وهو فيلم فانتازيا.
والده أحمد بدرخان، واحد من أهم مؤسسي السينما المصرية، وهم لا يتجاوزن أصابع اليد الواحدة. قدّم بدرخان الأب أفلاما عديدة لأم كلثوم وفريد الأطرش، وعلى الرغم من ذلك، فإن علي ينتمي «جينياً» على المستوى الإبداعي، أكثر إلى روح سينما يوسف شاهين وتوفيق صالح. وكانا بالنسبة له أيقونتين أكثر من كونهما أستاذين.
سعاد حسني هي الفنانة التي حملت أفكاره للناس، بينما أحمد زكي هو المعادل الذكوري لسعاد حسني. التقاه في أفلام «شفيقة ومتولي» و{نزوة} و{الرجل الثالث} و{الراعي والنساء}.
لا يعترف بسطوة النجوم بل يقدم فيلمه ورؤيته، وهكذا مثلا في آخر فيلم له، الذي شهد أيضا آخر إطلالة سينمائية لنادية الجندي {الرغبة} 2002، حذف لقبها الأثير {نجمة الجماهير} لأول مرة من تترات الفيلم، في واحدة من المرات القليلة التي شاهدنا فيها مخرجاً يقود فنيا ًنادية الجندي، فقدمت أحلى أدوارها.
يقف دائما على يسار الدولة وفي كل العهود. حصد في النهاية أرفع جائزة تمنحها «النيل»، وهو ثاني مخرج سينمائي يحصل عليها، وقد نالها أستاذه يوسف شاهين قبل عشر سنوات، ولكن لا تزال لديه أفكار في أعماقه تنتظر أن يتغير المناخ التجاري الذي يُسيطر بإحكام على مقدرات السينما، ليستطيع تقديمها وتتنفس مع الجمهور، جائزة «النيل» ذهبت لمن يستحقها والتكريم الذي ناله من المركز الكردي جاء أيضا في موعده.
تكريم علي بدرخان بـ «جائزة النيل» يفتح ملف الأكراد في مصر
شوقي والعقاد وسعاد وشريهان أشهرهم
تكريم علي بدرخان بـ «جائزة النيل» يفتح ملف الأكراد في مصر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة