«ما الذي حصل؟»... دفاعٌ فات وقته أمام محكمة التاريخ

ربما كان الأجدر بالسيّدة هيلاري كلينتون أن تكتفي من المجد بكونها أول سيدة أميركية تحصل على بطاقة ترشيح أحد الحزبين الكبيرين في النظام الانتخابي الأميركي المعقد، وتحصل - رغم خسارتها في الجولة النهائية أمام الرئيس الحالي دونالد ترمب - على أغلبية مليوني صوت من مجموع التصويت الشعبي عبر الولايات المتحدة عامة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. لكنّها بدلاً من قضاء أيام شيخوختها بالراحة والتأمل، أو على الأقل بالاستمتاع بمباهج الحياة، اختارت أن تنفق عدة أشهر من وقتها بعد الهزيمة مباشرة، تكتب وتدقق وتراجع مع مساعديها مسودات كتاب انتهى إلى أن يكون بمثابة مذكرات شخصية عن حملتها الانتخابية الخاسرة، بعنوان «ما الذي حصل؟».
وبالفعل، أعلن ناشرها الدائم «سيمون وتشستر»، الأسبوع الماضي، أن تلك المذكرات ستصدر في 12 سبتمبر (أيلول) المقبل، ليثير عاصفة هائلة من الانتقادات اللاذعة لكلينتون على مواقع التواصل الاجتماعي، مع أن الكتاب صعد بسرعة لافتة إلى المركز الـ17 في قائمة الكتب الأكثر مبيعاً (من خلال الطلبات المسبقة) على موقع الأمازون، إذ اعتبره كثيرون بمثابة «دفاع متأخر فات وقته أمام محكمة التاريخ»، و«سرد لمجموعة تبريرات بدلاً من تحمل المسؤولية بشجاعة عما حصل»، بل «ومحاولة يائسة للتكسب من بقايا هالة المرشحة (الجميلة) التي خسرت أمام الوحش».
وشنت وسائل الإعلام اليمينية المؤيدة للرئيس ترمب هجومات موازية على الكتاب وصاحبته، فوصفه أحد كتاب «فوكس نيوز» بأنه «سيكون كتاباً عما لم يحصل بالفعل»، وكتبت «نيويورك أوبزرفر»: «سيكون على الأغلب مسرداً للتبريرات». وحتى في المعسكر الديمقراطي، على الجهة الأخرى، فإن بعض مؤيدي كلينتون انتقدوا صيغة تسمية الكتاب «لأنها تشير إلى رفض كلينتون تحمل مسؤولية فشلها في الفوز على ترمب».
التسريبات والتلميحات عن محتوى كتاب «ما الذي حصل؟»، الذي يعد ثالث مشروع مذكرات لكلينتون، بعد «أن تعيش التاريخ» (2003)، و«خيارات صعبة» (2014)، تشير إلى أن النص - الذي أعلن مسبقاً أنه أشبه بمجموعة مقالات حول مشاعر شخصية تجاه مجموعة من الأقوال المأثورة - تحوّل في النهاية إلى ما يشبه رواية بوليسيّة، تصور المرشحة السابقة نفسها فيها كضحيّة تامّة دفعت ثمن مؤامرة سوداء واسعة، اشتركت فيها أطراف ظلاميّة عدّة، تبدأ من موسكو، مروراً بمكتب التحقيقات الفيدرالي، ولا تنتهي في برج ترمب بواشنطن، على نسق المؤامرة الكونيّة الكبرى في «مقبرة براغ»، رواية أمبرتو إيكو المشهورة. لكن الكتاب الذي تعد كلينتون بأنه سيكون «شديد الصراحة»، سيقدّم إلى جانب ذلك فيما يبدو نصائح لتجاوز الخبرات السيئة في الحياة دون العكوف عليها مطولاً، وترويجاً لها بوصفها زعيمة نسويّة تمثّل صعود المرأة الأميركيّة إلى حلبة التنافس على رئاسة الدولة العظمى.
الخبراء والأكاديميون المتخصصون في شؤون النظام السياسي الأميركي لا يتوقعون الكثير بخصوص المذكرات، إذ إن أطناناً من الحبر أسيلت على تحليل نتائج تلك الانتخابات من جوانب مختلفة منذ نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ووصلت إلى تحديد دقيق لكيفية تحول اتجاهات الناخبين نحو اليمين. لكن السيدة كلينتون لم تستفد فيما يبدو من هذا السيل، وستركز في كتابها - وفق مقربين - على دور روسي محتمل في التأثير على النتيجة، إضافة إلى التأثير شديد السلبيّة الذي لعبه جيمس كومي، رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي، من خلال التحقيق في فضيحة البريد الإلكتروني لها إبّان عملها وزيرة للخارجيّة خلال عهد الرئيس السابق باراك أوباما.
ولذا، فعلى الأرجح، لن يضم الكتاب ذكراً لسلسلة الإخفاقات التي تسببت فيها المرشحة الخاسرة، سواء على مستوى الإدارة (مقتل السفير الأميركي ببنغازي، وسوء إدارة الأموال في مؤسسة كلينتون الخيرية، واستخدام بريد إلكتروني شخصي للمراسلات الرسمية)، أو على صعيد التكتيك الانتخابي (رفضها للمشاركة بالحملة الانتخابيّة لها في ويسكونسن، وعدم توفير دعم كاف لحملتها في ميتشيغان، والفشل في الاحتفاظ ببنسلفانيا، إضافة إلى استنزاف جمهورها في حرب بلا هوادة ضد منافسها ذي الميول الاشتراكية بيرني ساندرز، خلال الانتخابات التمهيدية للفوز ببطاقة الحزب الديمقراطي، على نحو أفقدها تماماً مساندة الشباب الأميركي من الملونين، غير ذوي البشرة البيضاء)، أو حتى العوامل الكلية التي دفعت مزاج الأميركيين العاديين إلى التحول عن الإدارة الديمقراطية للبلاد نحو مرشح شعبوي من خارج المنظومة السياسيّة كلها.
إضافة إلى ذلك كله، فإنه لم تمض بعد عدة أشهر قليلة على تلك المرحلة من السيرة المهنيّة للسيدة كلينتون، كما يقول أحد النقاد. وبالتالي، فإن هذي المذكرات ستكون على الأغلب انفعالية مليئة بردود الفعل العاطفية، بدل أن تقدّم تأملاً هادئاً للأحداث، بعد مرور وقت كاف.
خسارة السيّدة كلينتون القاسية، رغم الدّعم الهائل لها في الأوساط الإعلامية الليبراليّة، كانت بدورها موضوع كتابين يوجدان الآن على قوائم الكتب الأكثر مبيعاً في الولايات المتحدة: «المحطّمة»، وفيه نقد لاذع للتجربة الكلينتونيّة، كتبه جوناثان ألين وإيمي بارنيز، و«تدمير هيلاري كلينتون»، لسوزان بوردو، وهو نص أكثر تعاطفاً معها.
«ما الذي حصل؟» إذن لن يكشف للقراء عن أيّة معلومات جديدة بشأن تلك الانتخابات الدراميّة، وعلى الأغلب، لن يحسّن من صورة المرشحة الخاسرة في عين التاريخ، لكنّه بالتأكيد سيدعم الحساب البنكي لها، وسيجنبها التقاعد بعدة ملايين من الدولارات فحسب.