يواكب الأستاذ في مدرسة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية فواز جرجس في كتابه الأخير «داعش إلى أين؟» انحسار تنظيم داعش وبوادر أفول «دولته» في ظل الانكسارات المتتالية التي بدأ يعاني منها منذ 2016. حيث يحاول التنبؤ بمستقبل التنظيم بناء على ماضيه ووضعه الراهن، مركزاً على السياق الاجتماعي والسياسي لولادة التنظيم لفهم طبيعته وتفسير هذا الظهور المحير والمفاجئ له في 2013 و2014 على نحو لم يتوقعه أحد، ويحاول بالعودة إلى السياقين الاجتماعي والسياسي إنشاء فهم عقلاني وواقعي لتنظيم ينتشر فهمه على نحو سطحي وأسطوري ودعائي. حيث يرى جرجس أن الجوهري في التنظيم أنه مثل على نحو ما رداً عنيفاً موازياً للهيمنة الشيعية في العراق والعلوية في سوريا وتهميش العرب السنة وهو ما يمثل السياق الاجتماعي السياسي الأول لتكوينه، في حين أن السياق السياسي الذي مثل بيئة مواتية لصعوده هو الاضطراب السياسي الذي ساد الشرق الأوسط بعد إحباط ثورات الربيع العربي، إذ بدا كما لو أنه بديل للشباب المحبطين والناقمين من فشل التغيير السياسي السلمي وانسداد أفقه.
ورغم أن «داعش» يتحدر من الآيديولوجيا القاعدية المتطرفة فإنه ليس مجرد امتداد لها، فهو دمج بين البعد العالمي والبعد المحلي، وهو أمر يستند إلى إعادة تعريف العدو، هل هو العدو البعيد؟ أم هو العدو القريب؟ أم هو كلاهما معا؟ ومن الواضح أن هذا الدمج بين العدو البعيد والعدو القريب إنما تشكل في ظل الحرب الأهلية في العراق، أي بعد 2013. والسياسات الطائفية التي لا تطاق والتي انتهجتها حكومة المالكي ضد العرب السنة بعد ذلك. وانطلاقاً من ذلك يركز جرجس على ما يسميها المفاتيح الأربعة لفهم ظهور «داعش»، الأول هو الغزو الأميركي للعراق، والثاني هو تشظي المؤسسة السياسية العراقية، والثالث هو تحطم مؤسسات الدولة في سوريا، والرابع هو الربيع العربي.
يلاحظ المؤلف أن الموجة الحالية من السلفيين الجهاديين وبشكل خاص في تنظيم داعش يغلب عليها – وليس كلها - الأصول الريفية والعشائرية ومن طبقة الفقراء والحرفيين العاملين بالمهن اليدوية، وهي شرائح اجتماعية ناقمة على السلطات المركزية عموماً، وهؤلاء انضموا لـ«داعش» بالأساس ليس بدوافع آيديولوجية بقدر ما رأوا في التنظيم أداة مقاومة ضد السلطة المركزية الطائفية، خصوصاً مع تصوير «داعش» نفسه المدافع الوحيد عن السنة المظلومين والمضطهدين، وهو أمر يغذيه، ويبحث المؤلف في حالة الانقسام الاجتماعي السني الشيعي والتدخل الإيراني المتزايد في المنطقة، وخصوصاً بعد اندلاع الثورة في سوريا والعراق دفعت بقوات عسكرية من المرتزقة ومولتها لإنقاذ حليفيها بشار الأسد ونوري المالكي وهو أمر زاد من زخم المظلومية السنية ومنح قوة وتأكيداً لآيديولوجيا «داعش». لكن جرجس لا يقدم تفسيراً لجاذبية التنظيم للمقاتلين الأجانب، وخصوصاً الغربيين.
يدين صعود التنظيم وعودته مرة أخرى في العراق للقوة التي اكتسبها في سوريا، فنجاحه في احتلال المدن والسيطرة على الموارد النفطية والخزائن المالية سمح له بتدمير الحدود بين البلدين والمضي قدماً نحو الموصل وهزيمة الجيش العراقي الذي كان قد أصبح مجرد ميليشيا طائفية كبيرة في عهد المالكي.
وبقدر ما يبدو تنظيم الدولة مديناً للآيديولوجيا القاعدية، فإنه بصعوده الجديد مدين بشكل رئيسي للصراعات الجيو - سياسية والجيو - طائفية في المنطقة، وهو أمر منح «داعش» الفرصة لتطوير الآيديولوجيا القاعدية والافتراق عنها بنفس الوقت، وأفضى ذلك إلى تصارع على النفوذ وحرب داخلية بين الجهاديين الداعشيين والقاعديين بدءاً من عام 2013.
يؤكد جرجس ما يلاحظه الكثير من الباحثين أيضاً بأن البيئة التي ينمو فيها هذا التنظيم هي «البيئة المتوحشة» التي تعاني من الاضطراب والعنف، ففي صلب عقيدته السياسية أن التغيير لا يمكن أن يكون إلا بالعنف والقوة، وعلى هذا الأساس تشكلت عداوة ملحوظة مع تيارات الإسلام السياسي التقليدية التي تقبل بقواعد العمل السلمي وشروط اللعبة الديمقراطية، ويتكرر بشكل دائم نقد لهذه التيارات والتشهير بفشل مشاركتهم بالعملية الديمقراطية مقابل «نجاح» نهجهم العسكري وفرض وقائع على الأرض.
وإذ تكوَّن التنظيم في ظل انهيار مؤسسات الدولة وتراجع الأنظمة السياسية في الشرق الأوسط فقد نجحت الأنظمة الحليفة للنظام السوري والعراقي في تسويق فكرة أن الربيع العربي يعادل وجود «داعش» وإطلاق حروب طائفية تتهدد الإقليم وما بعده، وواقع الحال أن – حسب جرجس - إجهاض الربيع العربي، وليس فشله كان هدية بالنسبة للسلفية الجهادية لم تحلم بها أو تتوقعها.
يخلص المؤلف بعد ثمانية فصول غنية تدرس التنظيم وتاريخه إلى البحث في نقاط قوة التنظيم ونقاط ضعفه، ويمكن للقارئ أن يكتشف بسهولة أن نقاط قوة التنظيم الأساسية هي عناصر خارجية ليست متأتية من بنية التنظيم نفسه، في حين أن معظم عوامل ضعف التنظيم هي عوامل ذاتية. فقوة التنظيم تتأتى سرديته والمستندة إلى تهميش العرب السنة مع أنهم المكون الأساسي للمنطقة، بنشوء حكم طائفي متطرف وقمعي في العراق بعد الاحتلال الأميركي وسيطرة الأقلية العلوية على الأكثرية بقوة الحديد والنار في سوريا، بمعنى آخر وجود وقائع دامغة حول المظلومية السنية، التي كانت كل الظروف تسوق سرديتها وتدفع للقناعة بها.
من نقاط قوة التنظيم تقديم بديل عن النظام العالمي الجائر والدولة الوطنية متمثلا بـ«الخلافة العادلة» وهو مفهوم مكتنز بالرمزية التاريخية والدينية في آن، كما أن التنظيم سعى للسيطرة على موارد اقتصادية (النفط ومؤسسات الطاقة والمؤسسات الحيوية) وفرض نظاما ضريبياً شكل له ذلك بمجموعه تمويلا ذاتياً كبيراً وفائضاً مالياً جعله صار أغنى تنظيم جهادي في العالم.
وفضلاً عن ذلك تسمح المفاهيم الدينية التي استخدمت كمكمل للآيديولوجيا الجهادية بأقصى درجات التضحية والمفاصلة الجذرية والولاء للتنظيم. لكن نقاط القوة هذه تقابلها نقاط ضعف قاتلة، فمن جهة يفتقد التنظيم برنامجا إيجابيا في الحكم، وخبرات معدومة في إدارة الحكم، وهو مبني على نمط ديكتاتوري قمعي وتنعدم فيه الحريات، وهو نمط كان الحافز أساساً للربيع العربي. ويلاحظ جرجس أن عنصر ضعفه الرئيسي يكمن في قاعدته الاجتماعية الهشة، ففي العراق بسبب تقبله كعدو للشيعة وليس كبديل للحكم، وفي سوريا بسبب واقع الحال وقدرته على مواجهة القوة والوحشية الهائلة التي أظهرها نظام الأسد في قمع معارضيه. يضاف إلى نقاط الضعف هذه أن التنظيم «متقن لصنع الأعداء» سواء من خلال لعبة التخويف بالعمليات الإرهابية، أو من انعدام قدرته على ممارسة المرونة السياسية عندما تقتضيها مصالحه.
يخلص المؤلف إلى أن القضاء على التنظيم يتطلب أولاً وقبل أي شيء نزع الشرعية عن سردية التنظيم القائمة على المظلومية السنية من جهة، وانعدام العدالة من جهة ثانية، وهو أمر يعني أن كف يد إيران عن التلاعب بالمنطقة وتعزيز الانقسام الشيعي السني، وتوفير حل سلمي للنزاعات الأهلية وتحقيق الحد الأدنى من طموحات شعوب المنطقة الأساسية في نشوء أنظمة ديمقراطية تعبر عنها ولا تهمشها. ويتطلب ثانياً حرمان التنظيم من تكوين مصادر تمويل ذاتية والسيطرة على موارد اقتصادية يمكن أن توفر له متطلبات التسليح والتجنيد والفعالية.
ما المآل الذي سينتهي إليه التنظيم إذا ما تم انتزاع مناطق السيطرة من يده؟ يجيب جرجس أن من دون إحداث تغيير سياسي يمنح شعوب المنطقة التي ينتشر فيها على الأقل أملاً بحياة أفضل، ويجبر الانقسام الاجتماعي السني الشيعي فإن فرصة بقاء هذا التنظيم ستكون كبيرة، وانحساره عن المشهد لن يعني أنه قد لا يعود بصورة جديدة وبنسخة أكثر وحشية وعنفاً مما ظهر حتى الآن.
* كاتب سوري
تنظيم لا ينمو إلا في «البيئات المتوحشة»
فواز جرجس في كتابه «داعش إلى أين؟»
تنظيم لا ينمو إلا في «البيئات المتوحشة»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة