جان مورو بهرت معجبيها وحافظت على سحرها حتى النهاية

133 فيلماً وأكثر من عشرين جائزة وطلّة فريدة

مشهد من «مصعد إلى المشنقة» أول أفلامها المهمة - جان مورو الشابّة - جان مورو مع عمر الشريف في فيلم «كاثرين العظيمة»
مشهد من «مصعد إلى المشنقة» أول أفلامها المهمة - جان مورو الشابّة - جان مورو مع عمر الشريف في فيلم «كاثرين العظيمة»
TT

جان مورو بهرت معجبيها وحافظت على سحرها حتى النهاية

مشهد من «مصعد إلى المشنقة» أول أفلامها المهمة - جان مورو الشابّة - جان مورو مع عمر الشريف في فيلم «كاثرين العظيمة»
مشهد من «مصعد إلى المشنقة» أول أفلامها المهمة - جان مورو الشابّة - جان مورو مع عمر الشريف في فيلم «كاثرين العظيمة»

ما إن أشيع نبأ وفاة الممثلة الفرنسية جان مورو، صباح يوم أمس 31 يوليو (تموز) عن 89 سنة، حتى تنادى لتعزيتها كبار المسؤولين الفرنسيين. رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون قال عنها: «أسطورة السينما والمسرح. ممثلة تعاملت مع زوابع الحياة بكل حرية».
وزيرة الثقافة فرنسواز نيسن كتبت تقول: «ماتت لكنّ صوتها وعبقريتها ورؤيتها كفنانة باقٍ». ورئيس مهرجان كان السينمائي بيار لسكور غرّد بقوله: «كانت امرأة قوية، ولم تكن تحب العواطف القلبية المغالى بها. آسف يا جين، لكنّ هذا مستحيل علينا. نبكيك».
كانت جان مورو بالفعل أيقونة في السينما الفرنسية مع ملايين المعجبين داخل وخارج الحدود. ممثلة عرفت كيف تعكس شخصيتها على الشاشة كأنثى وكامرأة مفكرة وحساسة في الوقت ذاته.

مع مخرجين كبار
على الشاشة، وبعد تسع سنوات من أدوار صغيرة، وفي أدوار متقدمة في أفلام صغيرة، جاء دور نجوميتها عندما اختارها المخرج الراحل لوي مال بطلة لفيلمه «مصعد للمشنقة» سنة 1957. كانت قد انطلقت فوق خشبة المسرح بتشجيع من والدتها التي كانت راقصة مسرحية. أمها بريطانية تزوّجت من صاحب مطاعم فرنسي وأنجبا في 23 من شهر يناير (كانون الثاني) سنة 1928، الطفلة التي ما إن بلغت الـ16 من العمر، حتى فقدت اهتمامها بالدراسة وتعلمت الرقص ثم التمثيل. خلال الحرب عاش والدها في الريف، وبقيت والدتها في باريس ثم - بعد الحرب - عادت إلى بلدتها الإنجليزية لانكشير.
وقفت جان على خشبة المسرح في منتصف الأربعينات، وبدأت التمثيل في السينما أواخر العقد ذاته، لكنّها حققت على المسرح في تلك الفترة حضوراً قوياً لم تشهده في أفلامها الأولى مثل «آخر حب» (1949) و«ثلاث شقيقات» (1950) و«دكتور شوايتزر» (1953)، ربما لأن مخرجي هذه الأفلام كانوا من المواهب غير المؤثرة في مسيرة السينما الفرنسية (جان ستيلي وريشار بوتييه وأندريه آكيت على التوالي. «جولييتا» (1953) كان مختلفاً إذ حققه مارك أليغريه ككوميديا رومانسية ومنحها دوراً مسانداً لجانب جان ماريه وداني روبِن. لكن لا هذا الفيلم ولا «امرأة الشر» أو «السرير» ولاحقاً «جاك هايواي» منحاها أكثر من إطلالة محدودة التأثير، حتى جاء دور لوي مال سنة 1958، ليمنحها بطولة «مصعد إلى المشنقة» ويجعل منها نجمة متألقة.
منذ ذلك الحين لم تعرف مهنة جان مورو أي تراجع يذكر. استعان بها مال في فيلمه التالي مباشرة «العشاق» وانتقلت إلى فرنسوا تروفو لتمثل «النفخات الـ400» (The 400 Blows) ومنه إلى روجيه فاديم في «علاقات خطرة» (1959).
المخرج مارتن رِت (Ritt) كان الأميركي الأول الذي تعامل معها كإحدى بطلات فيلمه الحربي «خمس نساء موصومات» (5Branded Women) لجانب الإيطالية سيلفانا مانيانو وفيرا مايلز وباربرا بل غيديس وكارلا غرافينا. الفيلم حمل نيات طيبة وتنفيذاً أقل من المطلوب ثم دخل نفق النسيان، لكن بطلته لم تتأثر بل انتقلت إلى فيلم آخر لفرنسوا تروفو وبرعت فيه هو «جول وجيم» وبعده، ومن بين أعمال أخرى، طلبها الإسباني لوي بونييل لبطولة «مفكرة خادمة» (1964). هذا في العام ذاته الذي وضعها الأميركي جون فرانكنهايمر أمام بيرت لانكاستر في «القطار».

التجربة الأميركية
تلك الفترة كانت من الثراء بالنسبة للممثلة مورو بحيث إنها لم تتوقف عن العمل. وفي حين تعددت الأدوار واختلفت الأفلام إلا أنها داومت على إبهار مشاهديها بموهبة أداء رفيعة كما بجمال آسر. وهذا تبدّى في معظم ما ذًكر آنفاً إلى جانب أفلام مثل «خليج الملائكة» لجاك ديمي و«قشرة الموز» لمارسيل أوفلوس كما «الليل» لمايكل أنجلو أنطونيوني. كذلك لمعت في فيلم الألماني فرنر فاسبيندر «كواريل» وفي فيلم البريطاني توني رشاردسون «بحار من جبل طارق».
أخرجت مورو ثلاثة أفلام في حياتها. الأول كان «لوميير» («ضوء») سنة 1976 والثاني «مراهقة» مانحة الدور الأول لسيمون سنيوريه. أمّا الثلاث والأخير فيلم تسجيلي بعنوان «ليليان غيش» تكريما للممثلة الأميركية التي كانت قد انتقلت من السينما الصامتة إلى الناطقة بنجاح كبير.
تقديراً لمجمل أفلامها نالت جان مورو سعفة ذهبية من مهرجان «كان» سنة 2003 وهذه الجائزة هي واحدة من 16 جائزة نالتها تقديراً عن مجمل أعمالها وذلك من مهرجانات ومؤسسات مختلفة من بينها مهرجان موسكو ومهرجان تاورمينا ومهرجن فنيسيا وأكاديمية العلوم والفنون السينمائية (الأوسكار) ومن مهرجانات برلين وسان سابستيان وبوسان (كوريا الجنوبية). كذلك نالت أكثر من 15 جائزة عن أدوار فعلية.
سنة 1958 نالت جائزة أفضل ممثلة عن «العشاق» من مهرجان فنيسيان. بعد عامين نالت جائزة أفضل ممثلة من «كان» عن فيلم «الراهبات» ومن مهرجان برلين حظيت بجائزة أفضل ممثلة عن فيلمها «المراهقة». هذا إلى جانب أربع جوائز سيزار (المقابل الفرنسي للأوسكار الفرنسي) من بينها، سنة 1992، فيلم «المرأة المسنة التي مشت في البحر» للوران هينيمان.
على الجانب الأميركي، استفادت هوليوود منها في أدوار قليلة. لجانب «القطار» لجون فرانكنهايمر («خمس نساء موصومات» كان إنتاجاً إيطالياً بالإنجليزية، لمعت في «مونتي وولش» لويليام أ. فراكر (1970) أمام لي مارفن وجاك بالانس. هي المرأة الفرنسية المهاجرة إلى الغرب الأميركي التي تحب مارفن؛ لكنّها تموت قبل أن تستقر حياتهما. تحت إدارة إيليا كازان في «التايكون الأخير» (1976) ثم «مستر كلاين» لجوزيف لوزاي في العام نفسه.
ما يشي كل ذلك عنه لا كثرة أفلامها فقط (133 فيلماً سينمائياً)، بل فترة نجوميتها الطويلة من ناحية وخامتها الفنية الناجحة من ناحية أخرى. الشهرة التي واكبتها سبقت شهرة كاثرين دينوف وايزابل أوبير، وطغت على شهرة بريجيت باردو. هي الممثلة التي تلعب كل الأدوار، لكنّها تعكس شخصية المرأة المفكرة والحساسة. قد تكون طيبة هنا وشريرة هناك، لكنّ الوقع الذي تحدثه لدى مستقبليها واحد ودائماً مهم.
وبصرف النظر عن مراحل عمرها، فإنّ لديها كماً كبيراً من الأدوار التي أدّتها جيداً في مختلف تلك المراحل. حتى عندما أصبحت مسنة في منتصف التسعينات الماضية، وجدت، بين النقاد، من يميّزها عن سواها من الممثلين بذلك الوجه الهادئ والبّحة الصوتية المميزة. أحد أفلامها في ذلك الحين «كاثرين العظيمة» الذي أنتجته شركة ألمانية وجمعها مع عمر الشريف.
«طوال حياتي أردت أن أبرهن لوالدي أنّني كنت مصيبة في اختياري» قالت ذات مرّة. وهي ربما لم تتوقف عن هذه المحاولة فعدد أعمالها منذ مطلع القرن الحالي، لا يقل عن 20 فيلماً. وحين سألها صحافي من «ذا نيويورك تايمز» سنة 2001، عن رأيها في الحياة قالت له: «الكليشية يقول إن الحياة هي جبل. تصعد فوقه. تصل إلى قمّته ثم تنحدر. بالنسبة لي، الحياة هي صعود حتى تحترق». وكانت قبل ذلك ذكرت ما هو شبيه بهذه الصورة، حين قالت: «ليس صحيحاً أنّ الحياة تبلغ ذروة ثم تموت. هي مثل الشمعة تنطفئ وما زالت قوية».



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)