ما بعد «داعش»... وأفول الحركات الراديكالية

آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)
آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)
TT

ما بعد «داعش»... وأفول الحركات الراديكالية

آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)
آثار وخرائب «داعش» باقية في كل مكان بالموصل (أ.ف.ب)

إن التجربة هي أكثر العوامل الفاعلة والمؤثرة في سقوط آيديولوجيا التطرف العنيف وجاذبيتها، فبها تسقط الوعود والتأويلات الخاطئة للدين في مرآة الواقع والمجتمع والأمة. كانت التجربة الفاصل الأهم في سقوط إمارات الخوارج جميعا في القرن الثاني الهجري، وخاصة أكثرهم تشددا وغلواء في التاريخ.
تتسم بدايات دعوات وتنظيمات التطرف العنيف بالجاذبية والإغراء للمستعدين لها، من المتعصبين والمهمشين والمغرر بهم، وينشط دعاتها في طرحها خلاصا من الجور والظلم، والتزام تمامي بصحيح الدين وصلاح الدنيا، وتنشط ماكينة أدبياتهم وخطاباتهم في رفض تشويه كل نقد لهم، في التفاف واقتطاف يناقض الضبط والنسق، فإذا ضيق عليه فكرا لجأ للواقع سندا والعكس صحيح أيضا.
تبنى الأسوار الضخمة لحماية الاعتقاد الآيديولوجي العنيف من مخاطر المراجعة والتصحيح والنقد، بحصر وحكر الإفتاء في شؤون الجهاد والميدان لفقهاء الميدان، كما أعلن الظواهري وغيره في رسالته «التبرئة» التي رد فيها على ما أصدره شيخ الجهاد والقاعدة السابق وصاحب «الجامع في طلب العلم الشريف» - المرجع الأهم حتى حينه - سنة 2009، وهو حائط الصد الذي رفعته مختلف الجماعات والتنظيمات الأصولية والانغلاقية على مدار التاريخ.
ولكن مع اختبار الوقت والمعايشة والصراع الذي يحصر ويحشر العمران والاجتماع البشري فيه أبدا لدى هذه الجماعات التطيرية والتصفوية لمخالفيها، تسقطها التجربة، وتسقط معها الوعود واليوتوبيا المزعومة، كما تنفض عنها هذا السحر الجذاب للمجندين والمنتمين بل يستدرك بعض هؤلاء متأخرا سقوط قناعاتهم السابقة وتوظيفهم الخادع إعجابهم واعتقادهم أرضا، على التجنيد وتغيير العالم والانقلاب على التاريخ والزمن وتنظيمات متطرفة كانت أكثر عنفا وحضورا وتأثيرا في زمانها كذلك من الخوارج وفرقهم العشرين، وخاصة أكثرهم تطرفا كالمحكمة والأزارقة والنجدات، التي أسست أول دولها سنة 60 هجرية في الأهواز العربية، التي لم يعد بها خارجي، كما برزت فيها أسماء نساء وقائدات مرموقات كغزالة التي فر من أمامها الحجاج بن يوسف في إحدى المعارك، وكان يعاير بذلك في الشعر، ولكن كسر التاريخ صولة هؤلاء ووأد جذوة التطرف فيهم.
كما برز المتطرفون من غير الخوارج كالحشاشين الذين نجحوا في اغتيال الوزير نظام الملك السلجوقي سنة 457 هجرية والخليفتين العباسيين الراشد والمرشد وحاولوا قتل صلاح الدين الأيوبي قبل ذلك، وحاولوا قتله أكثر من مرة حسب بعض الروايات، وظلوا شوكة في جسد هذه الأمة حتى قضى عليهم في قلعة الموت هولاكو المغولي سنة 656 هجرية، كما قضى عليهم في الشام الظاهر بيبرس المملوكي بعد ذلك بسنوات قليلة.
وهكذا، كما كان لـ«داعش» وخلافته المزعومة جولة يخفت نجمها الآن، كان لغيره من جماعات وفرق التطرف العنيف - على مدار التاريخ - جولات سطع فيها نجمها كذلك، ثم انتهى لخفوت، وأقاموا دولا وإمارات كما أقام لكن انتهت للتلاشي والسقوط والاندثار كذلك، ولم يبق إلا بقاياها الأكثر اعتدالا هنا وهناك.
وتبدو العبرة المؤكدة أن التاريخ لا يقبل من يكفرون بقوانينه، وينقلب على من ينقلبون عليه، كما أن الدين يبقى جوهره ووسطه، ويذهب المشادون له، ولا يمكن أن تكون آيديولوجيا العنف خيارا مؤبدا فيه. لم تنجح الأصوليات عبر التاريخ في مصارعة قوانينه، ومع إرهاصات ما بعد «داعش» التي تنازع الحياة وخسارة معاقلها الرئيسية في الموصل والرقة وغيرهما، ندخل مرحلة ما بعد «داعش» التي نتوقع لها كمونا وتراجعا خطرا طويلا للإرهاب وجماعاته بعدها، لن يظهر منه إلا علامات يأسه وانتقامه من ساقطيه.

ملامح تجربة التطرف العنيف
رغم ما حاولته تجربة «داعش» في الحكم لبؤر تمكينها خلال الأعوام القليلة الماضية من تجربة الدولة واعتماد التنظيم والتقنين، في الموصل والعراق وفي سرت ودرنة وغيرها، من طبع عملات وإنشاء دواوين وتنظيمات عمومية، بل وتسويق سعادة مواطنيها والواقعين تحت حكمها في هذه المناطق المختلفة، عبر الكثير من التسجيلات المصورة، وهم يلهون على البحر أو يتسابقون في مسابقات محلية، إلا أن قسوة الفكرة ووحشيتها جعلت الترحيب بسقوطها أينما وجدت واضحا، ليس فقط لدى من تسلطت عليهم من المواطنين الأبرياء والمسالمين ولكن أيضا لدى منافسيها الآيديولوجيين والجهاديين الآخرين كـ«القاعدة» وفروعها وغيرها من الفصائل المقاتلة هنا وهناك.
عانى الجميع مع «داعش» مرارة الألم، المعارضون لها - قطعا - والمختلفون معها كلا أو جزءا، وكذلك من قاتلوها ومن سالموها، المسلمين وغير المسلمين، على السواء، وكان الاتهام بالكذب والتزوير والتوحش لها اتهاما سائرا ومتواترا يصارح به كل من عرفها وذاق تجربتها.
أصدرت مختلف تنظيمات التطرف العنيف بيانات وانتقادات نظرية في نقد تجربة وممارسات «داعش» ضدها، كما تحاربت وتقاتلت عمليا معها أو فيما بينها، وظلت صراعاتها دليلا على ضيق أفق الخلاف وسعاره فيما بين المنطلقين من نفس الأرضية الفكرية والمؤمنين بنفس الغايات والأهداف، ولم تنفع أو تشفع لوقف قتالهم يوما دعوات التوحد والتكتل التي كان يطلقها المتوسطون بينهم، بل لا شك أن الصراعات البينية بين «داعش» وغيره من تنظيمات التطرف العنيف كانت سببا رئيسيا في إضعافها مع الوقت في كل ساحة، وإضعاف منافسيها كذلك.
كذلك أثبتت وكشفت التجربة الداعشية العطب البنيوي العميق داخل التنظيم وعلاقاته، بين تكفير وقتل وخيانة وسرقة وفساد ومساوئ أخلاقية وسلوكية مختلفة تناقض ما تطرحه آيديولوجيا اليوتوبيا المزعومة من وعود بالصلاح والإصلاح، فقد أعدم التنظيم بعضا من أبرز رفقائه السابقين ربما كان أشهرهم أبو خالد السوري في مارس سنة 2013 الذي وسع شقة الخلاف بين قاعدة العراق (داعش فيما بعد) والقيادة المركزية لـ«القاعدة» ممثلة في أيمن الظواهري، كما أعدم بعضا من أبرز دعاته كأبي عمر الكويتي، واستبعد الكثيرين ممن هللوا لآيديولوجيته وشعاراته وخليفته بل كان أحدهم تركي البنعلى (أبو همام الأثري) الذي تم استبعاده في يونيو (حزيران) سنة 2016 الذي كان أول من دعا في رسالته «مد الأيادي لبيعة البغدادي» لخلافة أمير «داعش»، كما كان في نظر منظري السلفية الجهادية والقاعدة وغيرها المسؤول الأول عن الغلواء والتعصب الذي يحرق به التنظيم ويحترق في الآن نفسه.
ومن هنا نفهم لماذا لم تقبل «القاعدة» أو فروعها أو غيرها من الجماعات على إصدار أو دعوة لمساندة «داعش» في تراجعها في معاقلها، فبينما صدرت البيانات تلو البيانات تعليقا على خلافات جبهة فتح الشام - النصرة سابقا وحلفاؤها - وجبهة أحرار الشام التي اشتعلت مجددا مؤخرا للتوقف والمصالحة وصدرت البيانات بخصوص أحداث الأقصى في يوليو (تموز) الجاري بخصوص ما يجري من اعتداءات على المسلمين في المسجد الأقصى، وصدرت النداءات من كل جماعة أصولية بخصوصه وغيره، إلا أننا لم نجد أصولية أخرى ترفض سقوط تمكين «داعش».
ولكن المعاناة الأكثر بالطبع كانت من وقع تحت سيطرتها من المواطنين السلميين، وخاصة من غير المسلمين، كالأيزيديين في جبل سنجار في العراق قبل تحريرهم بعد ذلك، وسافرت مأساتهم مختلف بلدان العالم، وبعض القبائل الرافضة لتسلطها كقبائل أبو نمر والشعيطات والجبور في العراق أو في سوريا، وقبائل الترابين الذين اصطدموا بمجموعات «داعش» في سيناء، في أبريل (نيسان) الماضي من العام الجاري وغيرها من الأقليات والقبائل كذلك، وقد مثلت بعضها حاضنة سابقة لصعودها سواء في تجربة دولة العراق الإسلامية سنة 2006 التي أنتجها حلف «المطيبين» أو في صحوتها الثانية بعد استمرار سياسات التمييز الطائفي ضد القبائل والمحافظات السنية في العراق أثناء الفترة الثانية لحكم رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي.
فقدت «داعش» بعد التجربة حواضنها المحتملة، ولم يعد ممكنا لها تكرار ما سبق من نجاح في توظيف بعض المظلوميات الاجتماعية السابقة، بل صارت تمثل جحيما أكثر بشاعة من الواقع الذي دعت للتخلص منه، وسرقت ثوراته ومطلبياته لأجندتها وأهدافها الخاصة، فكانت عبئا أينما حلت ولم تكن حلا.
ومن أهم ملامح التجربة الداعشية بعد انهيارها أنها لم يعد لها هذا الزخم الانتحاري السابق، وأن نهايتها الحتمية هي السقوط والانتهاء، فرغم صلابة وعنف وتوحش ممارساتها، إلا أنها انتهت بهروب وألقى مقاتلوها بعناصرهم في نهر الموصل، وهرب بعضهم الآخر، واختفى قادتها ودعاتها، بل توقفت خلال الأسابيع القليلة الماضية أغلب إصداراتها ومنابرها الإعلانية، واختفى البغدادي بعد إشاعة مقتله.

أفول طويل للوعد الأصولي
نرى أن مرحلة ما بعد «داعش» ستشهد أزمة كبيرة لتنظيمات التطرف العنيف، كما شهدت مرحلة ما بعد الإخوان أزمة عنيفة لتيارات الإسلام السياسي، فالتجربة كانت فاصلا واختبارا مرا سقطت فيه وتعرت عن جوهرها الشعارات السهلة المؤثرة في آن، كما كشفت كذلك الكثير من سوءات القاموس والسلوك الانغلاقي والتفكير التآمري داخليا وخارجيا، وعلى الجماهير التي تحاول هذه التنظيمات اختطافها.
فالتجربة كانت القاضية والحاسمة التي تمهد لدخول التنظيمات الإرهابية وآيديولوجياتها سرداب النسيان أو الكمون عقودا، دون الإصرار السابق منذ انتفاضات الربيع العربي عام 2011 على الحكم والتحكم وعلى أدلجته وتوظيف نتائجه لصالحها فقط، سواء في ذلك تجربة التطرف العنيف أو تجربة الحركات السياسية شأن الإخوان المسلمين، ولكن يظل الرهان هو عدم توفر الظروف والسياقات السابقة التي أنتجت وتولد منها الصعود السابق، من أزمات الدولة والإدارة والتمييز وغيرها.
إن الأفول لا يعني النهاية الأبدية ولكنه يعني سقوط الهالة والجاذبية ويعني الكمون بعد غروب القوة والقدرة، وتظل النهاية لمشاريع كبيرة تحتمل التجدد هو تجدد مكافحتها فكريا وثقافيا بمنظومة شاملة تملأ كل الفجوات والفراغات التي يمكن أن تتسرب منها وتظهر في وجه العالم من جديد.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.