مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت

العالم يتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه

مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت
TT

مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت

مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت

يبدو وكأن مواجهة الإرهاب والأصولية مسألة سوف تمتد إلى آماد، ما يجعل التفكير في آليات جديدة للمواجهة والمجابهة فرضاً وليس نافلة، لا سيما أن مشهد الإرهاب العالمي في أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بات مختلفاً كل الاختلاف عن نظيره في أوائل القرن نفسه، والدليل على ذلك هو أن ما جرى في سبتمبر (أيلول) 2001 في كل من واشنطن ونيويورك إنما كان نتاجاً لتنظيم عنقودي تراتبي له قيادة وقمة تعطي التعليقات لمن هم في درجات التنظيم الأسفل ليقوموا بالمهام المشؤومة الموكلة إليهم.
غير أن العمليات الإرهابية الأخيرة التي جرت في أوروبا تحديداً، إنما كانت نتاجاً وإفرازاً لتواصل شبكات الإرهابيين بعضهم ببعض دون لقاءات شخصية، أو سابق معرفة بينهم، ما دعا البعض للإشارة إلى وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وفي مقدمتها الإنترنت، بوصفها «لعنة» حلَّت بالجنس البشري المعاصر بعد أن سهَّلَت لهم الاعتداء على الأرواح والممتلكات الشخصية، ومن هنا بدأ التفكير في تدبير خطط عالمية لمواجهة ما بات يُعرف بالإرهاب السيبراني والأصولية السيبرائية، كوسيلة للتصدي والتحدي للكوارث الإلكترونية وفي مقدمتها الإرهاب الأعمى... ماذا عن تلك الخطط والآليات؟

الإرهابيون والتواصل السري
لعله يتوجب علينا وقبل الإشارة إلى تلك الخطط والمنتديات العالمية لمكافحة الإرهاب عبر شبكة الإنترنت التذكير ببعض من تلك العمليات السرية التي استخدمت فيها الجماعات الإرهابية الشبكة العنكبوتية لتنفيذ مخططاتها السوداء. وكشفت التحقيقات التي جرت في فرنسا بعد حادثة مسرح «الباتاكلان» الشهيرة، والتي راح ضحيتها العشرات من الفرنسيين أن المخططين قد استخدموا في التواصل بينهم بعض الألعاب المتاحة على شبكة الإنترنت، وقد نجحوا في خداع أجهزة الأمن الفرنسية، وذلك عبر تجنبهم استخدام طرق التواصل أو الاتصال المعروفة، بدءاً من اللقاءات الشخصية، مروراً بالبريد الإلكتروني أو رسائل الهواتف الجوالة.
وكانت الفكرة غير مسبوقة، ولذلك تمت العملية بنجاح من وجهة نظر الذين أعدوا وخططوا لها عبر الدروب الإنترنتية الخلفية، ودون أدنى متابعة من شبكات محاربة الإرهاب الفرنسية الداخلية أو الخارجية، الأمر الذي مثل لطمة كبرى هناك للقائمين على شؤون مكافحة الإرهاب.
لم يتوقف الأمر عند حدود فرنسا، بل تخطاه إلى روسيا؛ ففي أواخر شهر يونيو (حزيران) الماضي أعلنت هيئة الأمن الفيدرالي الروسي أن الإرهابيين باتوا يستخدمون تطبيق «تلغرام»، وأن انتحاري مترو سان بطرسبورغ ومشرفة الخارجي، قد استخدما «ميسنجر تلغرام» في الترتيب للعمل الإرهابي، عبر كل مراحله من إعداد وتنفيذ، وصولاً إلى لحظة التفجير داخل عربة القطار، ما أوقع عدداً من القتلى والجرحى.
وفي بيان لها، تذهب هيئة الأمن الفيدرالي الروسي إلى أن معظم عناصر المنظمات الإرهابية الدولية يستخدمون برامج «ميسنجر»، التي تتيح لهم إقامة محادثات سرية على مستوى من تشفير البيانات المنقولة.
اليقظة الروسية لما جرى هناك دعت السلطات الروسية لمطالبة «بافل دوروف» مؤسس «تلغرام» بتقديم بيانات لا بد منها ليتوافق «ميسنجر» مع المعايير والشروط التي تنص عليها التشريعات الروسية، بما في ذلك تسليم شفرات الدخول إلى فضائه، وتتبع تحركات المشبوهين ولاتصالاتهم عبره، تحت طائلة حجبه في الفضاء المعلوماتي الروسي. وعلى الرغم من أن دوروف قد رفض هذا الطلب معتبراً أنه يتعارض مع الحريات الدستورية، إضافة إلى أنه يظهر قلة الفهم فيما يتعلق بكيفية تشفير الاتصالات في 2017 على حد تعبيره، فإنه ولا شك كان قد أيقظ عند كثيرين مشاعر وأفكاراً تقود إلى مكافحة الإرهاب السيبراني عبر أفكار مبتكرة وغير تقليدية.

منتدى عالمي لمكافحة الإرهاب
لم يكن للغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية أن يبقى بعيداً عن أحدث معارك مواجهة الإرهاب، ذلك أنه وعبر عقد من الزمان، قد وقر لدى الأميركيين أن المحاولات الممكنة للقيام بعمليات إرهابية على الأراضي الأميركية لن تتم إلا من خلال اختراق الشبكات الإلكترونية للبلاد، سواء من الإرهابيين التقليدين أصحاب الأصوليات ذات المسحة الدينية، أو من خلال الدول المعادية وفي المقدمة منها الصين وروسيا.
في هذا الإطار جاء الإعلان في الأسابيع القليلة الماضية عن تأسيس «منتدى إنترنت» حول العالم، مثل شركة «فيسبوك» و«مايكروسوفت» و«تويتر» و«يوتيوب»، وذلك في مبادرة تقدمت بها هذه الشركات العملاقة التي تواجه ضغوطا متزايدة من حكومات العالم لمنع نشر الدعاية الإرهابية. وهنا يعنّ لنا أن نطرح علامة استفهام... هل ستتخلى تلك الشركات عن التنافس التجاري والاقتصادي القائم بينها من أجل هدف أكبر يهددها جميعاً، وهو الإرهاب المدمر؟
يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، فقد قالت الشركات السابقة في بيان لها إن المنتدى «يضفي الطابع الرسمي ويرسي هيكلية المحاور التعاون القائمة أو المقبلة بين مؤسساتنا».
والشاهد أن فلسفة هذا المنتدى تقوم على العمل المشترك بين أعضائه، وتقاسمهم لأفضل الأدوات التكنولوجية والتنظيمية التي تطورها كل شركة من شركات المنتدى، ما يمكن أن يؤثر بشكل أفضل على التهديد الناجم عن المحتوى الإرهابي على الإنترنت.
وهذه الخطوة في واقع الأمر كانت قد سبقتها خطوة أخرى أعلنت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فقد تم تأسيس شراكة عالمية بين الشركات الأربع لمكافحة المحتويات ذات الطابع الإرهابي. البيان الأخير لعمالقة الإنترنت حول العالم يوضح كيف أن عمل المنتدى سيركز على الحلول التكنولوجية لرصد المحتويات الإرهابية والقيام بأبحاث لتحسين وسائل إزالة المحتويات الجدلية وتطوير خطابات مضادة للدعاية الإرهابية، وتقاسم المعلومات بين الشركات والهيئات المشتركة في هذه المبادرة.
هل توافرت معلومات جديدة لأجهزة الاستخبارات الغربية، وفي مقدمتها مجمع الاستخبارات الأميركية الذي يضم نحو ست عشرة وكالة استخباراتية عتيدة عجلت بهذا النوع من أنواع الحرب على الإرهاب عبر الإنترنت؟
وفي أواخر مايو (أيار) الماضي، وتحديداً في 27 منه، أرسل الـ«إنتربول»، إلى جميع قيادات الشرطة الأوروبية قائمة بأسماء 173 عضواً من أعضاء تنظيم داعش، تحصلت عليها أجهزة الأمن الأميركية، وقد أماطت صحيفة «الغارديان» البريطانية اللثام عن القصة برمتها، وعندما أن الأميركيين وعبر مصادرهم وفي المقدمة منها الاختراقات الإلكترونية لشبكات الإنترنت قد تعرفوا إلى هويات متطرفين قدموا من أوروبا، وتدربوا لدى «داعش» لتنظيم عمليات انتحارية في بلادهم، وأن الدواعش أنشأوا تلك الخلايا بعقلية انتقامية تحسباً للهزائم اللاحقة في الشرق الأوسط.

تمويل الإرهابيين
على أن الحديث عن العلاقة الوثيقة واللصيقة بين الجماعات الإرهابية والشبكة العنكبوتية اليوم، قد تجاوز مسألة التربية للعمليات الإرهابية والتواصل مع الأطراف الفاعلة والمكلفة بالقيام باللمسات الأخيرة، إذ وصل اليوم إلى حدود دائرة جديدة شريرة مبتكرة هي دائرة التمويل... لماذا التمويل تحديداً؟ الثابت أن «داعش» وطوال العامين الماضيين، وأزيد قليلاً كان يعتمد اعتماداً كليّاً على مصدرين رئيسيين لتمويلها الأول هو بيع النفط المهرب والمسروق من الحقول العراقية والسورية، والثاني هو مردودات بيع الآثار المنهوبة من متاحف الدولتين المتقدمتين. غير أنه وبعد الانتكاسات السريعة والعريضة التي حصلت بـ«داعش» هناك، بدا وكأنه لا بد من طرق جديدة للحصول على تمويل لاستمرار تلك العمليات، وهنا ظهر الإنترنت ومن جديد كمصدر عبر طرق مستحدثة لم تكن تخطر على تفكير أحد من قبل.
في منتصف مايو الماضي أيضاً استيقظ العالم على إحدى أكبر الهجمات الإلكترونية في التاريخ الحديث، وقد كان المتسبب الرئيسي فيها هو أحد برامج أو فيروسات الفدية Ransomware المعروف باسم Wanna Cry ويعمل هذا البرنامج عن طريق تشفير نظام الحاسوب والمطالبة بفدية لتحريره، ويمكن دفع هذا المقابل المالي من خلال العملة الرقمية «بيتكون» إلى مصدر مجهول، يمكنه - من الناحية النظرية على الأقل - توفير مفتاح الشفرة لتحرير النظام والعهدة هنا على الراوي، صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية سألت: هل يمكن أن يضحى هذا الفعل نسقاً للإرهابيين يمكنهم من خلاله الحصول على ملايين الدولارات كتمويل لعملياتهم الإرهابية حول العالم؟
دون أدنى شك يمكن أن برنامج الفدية طريقها خطيرا لتمويل المجتمعات الإرهابية على اختلاف منابعها ومشاربها، وهذا ما أشار إليه أخيراً ريان كالمبر أحد أهم خبراء الأمن الإلكتروني الاستراتيجي في شركة «بروف بوينت» لشبكة CBS الأميركية حين قال: «لقد شاهدنا الجماعات الإرهابية تمول منظماتها من خلال استخدام بعض العمليات مثل الجرائم الإلكترونية وبرامج الفدية»... هل واشنطن مسؤولة بدرجة أو بأخرى عن هذا النوع الجديد من أنواع التهديد السيبراني حول العالم. يمكن القول إن واشنطن تتقاسم بعض اللوم في انتشار هذا الهجوم، فمن المعتقد أن نقطة الضعف التي استغلها برامج الفدية جرى اكتشافها أولاً من قبل وكالة الأمن القومي NSA، وقد أصدرت «مايكروسوفت» تصحيحاً لنقطة الضعف بعد تسريبها هذا العام، ولكن ربما لم يحدِّثْ الكثير من المستخدمين أنظمتهم، الأمر الذي مكَّن أعضاء التنظيمات الإرهابية، وبينهم بالفعل خبراء ومؤهلون علميّاً للتعامل مع شبكات الإنترنت، من اختراق الكثير من أجهزة الشركات الكبرى، والأفراد، بل الحكومات، من أجل الحصول على ملايين الدولارات لتمويل عملياتهم. والمقطوع به أن الإشكالية التي نحن بصددها قد أكدت على جزئية كارثية تواجه العالم برمته اليوم ويبرع الإرهابيون في التعاطي معها، ذلك أن وجود «أبواب خلفية» لدى وكالات إنفاذ القانون للدخول إلى برامج وأنظمة الحاسوب، حتى ولو كان لأسباب تتعلق بالأمن القومي، يزيد من مخاطر وصول المجموعات الإجرامية أو بعض العناصر الفاسدة الأخرى إلى نقط الضعف تلك، الأمر الذي دعا بريان فتج المراسل التكنولوجي لـ«واشنطن بوست» للقول: «إن الأمر أشبه بترك المفاتيح أسفل السجادة التي توضع أمام باب الدخول إلى المنزل، والتي يمكن أن يستخدمها أشخاص أخيار، ولكن يمكن للأشرار أيضاً استخدامها».

إرهاب الإنترنت واليمين المتطرف
والشاهد أن الحرب السيبرانية وأفكار المنتديات العالمية لمواجهة صناع الشر وزراعته حول العالم لا تنسحب فقط على العالم العربي أو الإسلامي، لا سيما بعد أن أصبح الحديث عن الإرهاب والأصولية ضوان للعالم الإسلامي وللإسلام في مغالطة واضحة وفاضحة، وأنها تشمل كذلك جميع التيارات الشعبوية واليمينية حول العالم.
ففي أوروبا أضحت هناك مخاوف حقيقية من عودة الأصوليات اليمينية القديمة بأفكارها المتطرفة، وهو ما رأيناه ونراه في جماعات مثل «النازيين الجدد» أو حركة «بيغيدا» في ألمانيا، أو حركة النجوم الخمس في إيطاليا، وغيرها في الدول الإسكندنافية هذه وغيرها في واقع الحال ترتب أوراقها واتصالاتها بشكل جيد للتواصل والقفز على ما هو طبيعي ومعروف من أدوات إنسانية في بناء المجتمعات البشرية، للتصور إلى حدود العمل في الخفاء عبر الأبواب الخلفية للإنترنت وإخوتها ونشر روح الكراهية وتدبير أعمال العنف. والثابت أن المشهد ذاته ينطبق على الولايات المتحدة الأميركية وعلى القارة اللاتينية بالقدر ذاته. وعرفت واشنطن العاصمة وضواحيها في العقدين الأخيرين تصاعداً مطرداً في نمو الجماعات اليمينية ذات التوجهات الراديكالية، وعند كثير من المحلين السياسيين المتتبعين للشأن الأميركي أن فرقاً أهلية أميركية كثيرة تتجهز للصراع مع الحكومة الاتحادية، وليس سرّاً كذلك أن بعضها يطالب بالانفصال، وأخرى تهدد بعمليات إرهابية في قلب البلاد.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.