مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت

العالم يتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه

مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت
TT

مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت

مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت

يبدو وكأن مواجهة الإرهاب والأصولية مسألة سوف تمتد إلى آماد، ما يجعل التفكير في آليات جديدة للمواجهة والمجابهة فرضاً وليس نافلة، لا سيما أن مشهد الإرهاب العالمي في أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بات مختلفاً كل الاختلاف عن نظيره في أوائل القرن نفسه، والدليل على ذلك هو أن ما جرى في سبتمبر (أيلول) 2001 في كل من واشنطن ونيويورك إنما كان نتاجاً لتنظيم عنقودي تراتبي له قيادة وقمة تعطي التعليقات لمن هم في درجات التنظيم الأسفل ليقوموا بالمهام المشؤومة الموكلة إليهم.
غير أن العمليات الإرهابية الأخيرة التي جرت في أوروبا تحديداً، إنما كانت نتاجاً وإفرازاً لتواصل شبكات الإرهابيين بعضهم ببعض دون لقاءات شخصية، أو سابق معرفة بينهم، ما دعا البعض للإشارة إلى وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وفي مقدمتها الإنترنت، بوصفها «لعنة» حلَّت بالجنس البشري المعاصر بعد أن سهَّلَت لهم الاعتداء على الأرواح والممتلكات الشخصية، ومن هنا بدأ التفكير في تدبير خطط عالمية لمواجهة ما بات يُعرف بالإرهاب السيبراني والأصولية السيبرائية، كوسيلة للتصدي والتحدي للكوارث الإلكترونية وفي مقدمتها الإرهاب الأعمى... ماذا عن تلك الخطط والآليات؟

الإرهابيون والتواصل السري
لعله يتوجب علينا وقبل الإشارة إلى تلك الخطط والمنتديات العالمية لمكافحة الإرهاب عبر شبكة الإنترنت التذكير ببعض من تلك العمليات السرية التي استخدمت فيها الجماعات الإرهابية الشبكة العنكبوتية لتنفيذ مخططاتها السوداء. وكشفت التحقيقات التي جرت في فرنسا بعد حادثة مسرح «الباتاكلان» الشهيرة، والتي راح ضحيتها العشرات من الفرنسيين أن المخططين قد استخدموا في التواصل بينهم بعض الألعاب المتاحة على شبكة الإنترنت، وقد نجحوا في خداع أجهزة الأمن الفرنسية، وذلك عبر تجنبهم استخدام طرق التواصل أو الاتصال المعروفة، بدءاً من اللقاءات الشخصية، مروراً بالبريد الإلكتروني أو رسائل الهواتف الجوالة.
وكانت الفكرة غير مسبوقة، ولذلك تمت العملية بنجاح من وجهة نظر الذين أعدوا وخططوا لها عبر الدروب الإنترنتية الخلفية، ودون أدنى متابعة من شبكات محاربة الإرهاب الفرنسية الداخلية أو الخارجية، الأمر الذي مثل لطمة كبرى هناك للقائمين على شؤون مكافحة الإرهاب.
لم يتوقف الأمر عند حدود فرنسا، بل تخطاه إلى روسيا؛ ففي أواخر شهر يونيو (حزيران) الماضي أعلنت هيئة الأمن الفيدرالي الروسي أن الإرهابيين باتوا يستخدمون تطبيق «تلغرام»، وأن انتحاري مترو سان بطرسبورغ ومشرفة الخارجي، قد استخدما «ميسنجر تلغرام» في الترتيب للعمل الإرهابي، عبر كل مراحله من إعداد وتنفيذ، وصولاً إلى لحظة التفجير داخل عربة القطار، ما أوقع عدداً من القتلى والجرحى.
وفي بيان لها، تذهب هيئة الأمن الفيدرالي الروسي إلى أن معظم عناصر المنظمات الإرهابية الدولية يستخدمون برامج «ميسنجر»، التي تتيح لهم إقامة محادثات سرية على مستوى من تشفير البيانات المنقولة.
اليقظة الروسية لما جرى هناك دعت السلطات الروسية لمطالبة «بافل دوروف» مؤسس «تلغرام» بتقديم بيانات لا بد منها ليتوافق «ميسنجر» مع المعايير والشروط التي تنص عليها التشريعات الروسية، بما في ذلك تسليم شفرات الدخول إلى فضائه، وتتبع تحركات المشبوهين ولاتصالاتهم عبره، تحت طائلة حجبه في الفضاء المعلوماتي الروسي. وعلى الرغم من أن دوروف قد رفض هذا الطلب معتبراً أنه يتعارض مع الحريات الدستورية، إضافة إلى أنه يظهر قلة الفهم فيما يتعلق بكيفية تشفير الاتصالات في 2017 على حد تعبيره، فإنه ولا شك كان قد أيقظ عند كثيرين مشاعر وأفكاراً تقود إلى مكافحة الإرهاب السيبراني عبر أفكار مبتكرة وغير تقليدية.

منتدى عالمي لمكافحة الإرهاب
لم يكن للغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية أن يبقى بعيداً عن أحدث معارك مواجهة الإرهاب، ذلك أنه وعبر عقد من الزمان، قد وقر لدى الأميركيين أن المحاولات الممكنة للقيام بعمليات إرهابية على الأراضي الأميركية لن تتم إلا من خلال اختراق الشبكات الإلكترونية للبلاد، سواء من الإرهابيين التقليدين أصحاب الأصوليات ذات المسحة الدينية، أو من خلال الدول المعادية وفي المقدمة منها الصين وروسيا.
في هذا الإطار جاء الإعلان في الأسابيع القليلة الماضية عن تأسيس «منتدى إنترنت» حول العالم، مثل شركة «فيسبوك» و«مايكروسوفت» و«تويتر» و«يوتيوب»، وذلك في مبادرة تقدمت بها هذه الشركات العملاقة التي تواجه ضغوطا متزايدة من حكومات العالم لمنع نشر الدعاية الإرهابية. وهنا يعنّ لنا أن نطرح علامة استفهام... هل ستتخلى تلك الشركات عن التنافس التجاري والاقتصادي القائم بينها من أجل هدف أكبر يهددها جميعاً، وهو الإرهاب المدمر؟
يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، فقد قالت الشركات السابقة في بيان لها إن المنتدى «يضفي الطابع الرسمي ويرسي هيكلية المحاور التعاون القائمة أو المقبلة بين مؤسساتنا».
والشاهد أن فلسفة هذا المنتدى تقوم على العمل المشترك بين أعضائه، وتقاسمهم لأفضل الأدوات التكنولوجية والتنظيمية التي تطورها كل شركة من شركات المنتدى، ما يمكن أن يؤثر بشكل أفضل على التهديد الناجم عن المحتوى الإرهابي على الإنترنت.
وهذه الخطوة في واقع الأمر كانت قد سبقتها خطوة أخرى أعلنت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فقد تم تأسيس شراكة عالمية بين الشركات الأربع لمكافحة المحتويات ذات الطابع الإرهابي. البيان الأخير لعمالقة الإنترنت حول العالم يوضح كيف أن عمل المنتدى سيركز على الحلول التكنولوجية لرصد المحتويات الإرهابية والقيام بأبحاث لتحسين وسائل إزالة المحتويات الجدلية وتطوير خطابات مضادة للدعاية الإرهابية، وتقاسم المعلومات بين الشركات والهيئات المشتركة في هذه المبادرة.
هل توافرت معلومات جديدة لأجهزة الاستخبارات الغربية، وفي مقدمتها مجمع الاستخبارات الأميركية الذي يضم نحو ست عشرة وكالة استخباراتية عتيدة عجلت بهذا النوع من أنواع الحرب على الإرهاب عبر الإنترنت؟
وفي أواخر مايو (أيار) الماضي، وتحديداً في 27 منه، أرسل الـ«إنتربول»، إلى جميع قيادات الشرطة الأوروبية قائمة بأسماء 173 عضواً من أعضاء تنظيم داعش، تحصلت عليها أجهزة الأمن الأميركية، وقد أماطت صحيفة «الغارديان» البريطانية اللثام عن القصة برمتها، وعندما أن الأميركيين وعبر مصادرهم وفي المقدمة منها الاختراقات الإلكترونية لشبكات الإنترنت قد تعرفوا إلى هويات متطرفين قدموا من أوروبا، وتدربوا لدى «داعش» لتنظيم عمليات انتحارية في بلادهم، وأن الدواعش أنشأوا تلك الخلايا بعقلية انتقامية تحسباً للهزائم اللاحقة في الشرق الأوسط.

تمويل الإرهابيين
على أن الحديث عن العلاقة الوثيقة واللصيقة بين الجماعات الإرهابية والشبكة العنكبوتية اليوم، قد تجاوز مسألة التربية للعمليات الإرهابية والتواصل مع الأطراف الفاعلة والمكلفة بالقيام باللمسات الأخيرة، إذ وصل اليوم إلى حدود دائرة جديدة شريرة مبتكرة هي دائرة التمويل... لماذا التمويل تحديداً؟ الثابت أن «داعش» وطوال العامين الماضيين، وأزيد قليلاً كان يعتمد اعتماداً كليّاً على مصدرين رئيسيين لتمويلها الأول هو بيع النفط المهرب والمسروق من الحقول العراقية والسورية، والثاني هو مردودات بيع الآثار المنهوبة من متاحف الدولتين المتقدمتين. غير أنه وبعد الانتكاسات السريعة والعريضة التي حصلت بـ«داعش» هناك، بدا وكأنه لا بد من طرق جديدة للحصول على تمويل لاستمرار تلك العمليات، وهنا ظهر الإنترنت ومن جديد كمصدر عبر طرق مستحدثة لم تكن تخطر على تفكير أحد من قبل.
في منتصف مايو الماضي أيضاً استيقظ العالم على إحدى أكبر الهجمات الإلكترونية في التاريخ الحديث، وقد كان المتسبب الرئيسي فيها هو أحد برامج أو فيروسات الفدية Ransomware المعروف باسم Wanna Cry ويعمل هذا البرنامج عن طريق تشفير نظام الحاسوب والمطالبة بفدية لتحريره، ويمكن دفع هذا المقابل المالي من خلال العملة الرقمية «بيتكون» إلى مصدر مجهول، يمكنه - من الناحية النظرية على الأقل - توفير مفتاح الشفرة لتحرير النظام والعهدة هنا على الراوي، صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية سألت: هل يمكن أن يضحى هذا الفعل نسقاً للإرهابيين يمكنهم من خلاله الحصول على ملايين الدولارات كتمويل لعملياتهم الإرهابية حول العالم؟
دون أدنى شك يمكن أن برنامج الفدية طريقها خطيرا لتمويل المجتمعات الإرهابية على اختلاف منابعها ومشاربها، وهذا ما أشار إليه أخيراً ريان كالمبر أحد أهم خبراء الأمن الإلكتروني الاستراتيجي في شركة «بروف بوينت» لشبكة CBS الأميركية حين قال: «لقد شاهدنا الجماعات الإرهابية تمول منظماتها من خلال استخدام بعض العمليات مثل الجرائم الإلكترونية وبرامج الفدية»... هل واشنطن مسؤولة بدرجة أو بأخرى عن هذا النوع الجديد من أنواع التهديد السيبراني حول العالم. يمكن القول إن واشنطن تتقاسم بعض اللوم في انتشار هذا الهجوم، فمن المعتقد أن نقطة الضعف التي استغلها برامج الفدية جرى اكتشافها أولاً من قبل وكالة الأمن القومي NSA، وقد أصدرت «مايكروسوفت» تصحيحاً لنقطة الضعف بعد تسريبها هذا العام، ولكن ربما لم يحدِّثْ الكثير من المستخدمين أنظمتهم، الأمر الذي مكَّن أعضاء التنظيمات الإرهابية، وبينهم بالفعل خبراء ومؤهلون علميّاً للتعامل مع شبكات الإنترنت، من اختراق الكثير من أجهزة الشركات الكبرى، والأفراد، بل الحكومات، من أجل الحصول على ملايين الدولارات لتمويل عملياتهم. والمقطوع به أن الإشكالية التي نحن بصددها قد أكدت على جزئية كارثية تواجه العالم برمته اليوم ويبرع الإرهابيون في التعاطي معها، ذلك أن وجود «أبواب خلفية» لدى وكالات إنفاذ القانون للدخول إلى برامج وأنظمة الحاسوب، حتى ولو كان لأسباب تتعلق بالأمن القومي، يزيد من مخاطر وصول المجموعات الإجرامية أو بعض العناصر الفاسدة الأخرى إلى نقط الضعف تلك، الأمر الذي دعا بريان فتج المراسل التكنولوجي لـ«واشنطن بوست» للقول: «إن الأمر أشبه بترك المفاتيح أسفل السجادة التي توضع أمام باب الدخول إلى المنزل، والتي يمكن أن يستخدمها أشخاص أخيار، ولكن يمكن للأشرار أيضاً استخدامها».

إرهاب الإنترنت واليمين المتطرف
والشاهد أن الحرب السيبرانية وأفكار المنتديات العالمية لمواجهة صناع الشر وزراعته حول العالم لا تنسحب فقط على العالم العربي أو الإسلامي، لا سيما بعد أن أصبح الحديث عن الإرهاب والأصولية ضوان للعالم الإسلامي وللإسلام في مغالطة واضحة وفاضحة، وأنها تشمل كذلك جميع التيارات الشعبوية واليمينية حول العالم.
ففي أوروبا أضحت هناك مخاوف حقيقية من عودة الأصوليات اليمينية القديمة بأفكارها المتطرفة، وهو ما رأيناه ونراه في جماعات مثل «النازيين الجدد» أو حركة «بيغيدا» في ألمانيا، أو حركة النجوم الخمس في إيطاليا، وغيرها في الدول الإسكندنافية هذه وغيرها في واقع الحال ترتب أوراقها واتصالاتها بشكل جيد للتواصل والقفز على ما هو طبيعي ومعروف من أدوات إنسانية في بناء المجتمعات البشرية، للتصور إلى حدود العمل في الخفاء عبر الأبواب الخلفية للإنترنت وإخوتها ونشر روح الكراهية وتدبير أعمال العنف. والثابت أن المشهد ذاته ينطبق على الولايات المتحدة الأميركية وعلى القارة اللاتينية بالقدر ذاته. وعرفت واشنطن العاصمة وضواحيها في العقدين الأخيرين تصاعداً مطرداً في نمو الجماعات اليمينية ذات التوجهات الراديكالية، وعند كثير من المحلين السياسيين المتتبعين للشأن الأميركي أن فرقاً أهلية أميركية كثيرة تتجهز للصراع مع الحكومة الاتحادية، وليس سرّاً كذلك أن بعضها يطالب بالانفصال، وأخرى تهدد بعمليات إرهابية في قلب البلاد.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟