مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت

العالم يتحرك لإنقاذ ما يمكن إنقاذه

مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت
TT

مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت

مبادرة دولية لمواجهة التشدد على الإنترنت

يبدو وكأن مواجهة الإرهاب والأصولية مسألة سوف تمتد إلى آماد، ما يجعل التفكير في آليات جديدة للمواجهة والمجابهة فرضاً وليس نافلة، لا سيما أن مشهد الإرهاب العالمي في أواخر العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، بات مختلفاً كل الاختلاف عن نظيره في أوائل القرن نفسه، والدليل على ذلك هو أن ما جرى في سبتمبر (أيلول) 2001 في كل من واشنطن ونيويورك إنما كان نتاجاً لتنظيم عنقودي تراتبي له قيادة وقمة تعطي التعليقات لمن هم في درجات التنظيم الأسفل ليقوموا بالمهام المشؤومة الموكلة إليهم.
غير أن العمليات الإرهابية الأخيرة التي جرت في أوروبا تحديداً، إنما كانت نتاجاً وإفرازاً لتواصل شبكات الإرهابيين بعضهم ببعض دون لقاءات شخصية، أو سابق معرفة بينهم، ما دعا البعض للإشارة إلى وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة، وفي مقدمتها الإنترنت، بوصفها «لعنة» حلَّت بالجنس البشري المعاصر بعد أن سهَّلَت لهم الاعتداء على الأرواح والممتلكات الشخصية، ومن هنا بدأ التفكير في تدبير خطط عالمية لمواجهة ما بات يُعرف بالإرهاب السيبراني والأصولية السيبرائية، كوسيلة للتصدي والتحدي للكوارث الإلكترونية وفي مقدمتها الإرهاب الأعمى... ماذا عن تلك الخطط والآليات؟

الإرهابيون والتواصل السري
لعله يتوجب علينا وقبل الإشارة إلى تلك الخطط والمنتديات العالمية لمكافحة الإرهاب عبر شبكة الإنترنت التذكير ببعض من تلك العمليات السرية التي استخدمت فيها الجماعات الإرهابية الشبكة العنكبوتية لتنفيذ مخططاتها السوداء. وكشفت التحقيقات التي جرت في فرنسا بعد حادثة مسرح «الباتاكلان» الشهيرة، والتي راح ضحيتها العشرات من الفرنسيين أن المخططين قد استخدموا في التواصل بينهم بعض الألعاب المتاحة على شبكة الإنترنت، وقد نجحوا في خداع أجهزة الأمن الفرنسية، وذلك عبر تجنبهم استخدام طرق التواصل أو الاتصال المعروفة، بدءاً من اللقاءات الشخصية، مروراً بالبريد الإلكتروني أو رسائل الهواتف الجوالة.
وكانت الفكرة غير مسبوقة، ولذلك تمت العملية بنجاح من وجهة نظر الذين أعدوا وخططوا لها عبر الدروب الإنترنتية الخلفية، ودون أدنى متابعة من شبكات محاربة الإرهاب الفرنسية الداخلية أو الخارجية، الأمر الذي مثل لطمة كبرى هناك للقائمين على شؤون مكافحة الإرهاب.
لم يتوقف الأمر عند حدود فرنسا، بل تخطاه إلى روسيا؛ ففي أواخر شهر يونيو (حزيران) الماضي أعلنت هيئة الأمن الفيدرالي الروسي أن الإرهابيين باتوا يستخدمون تطبيق «تلغرام»، وأن انتحاري مترو سان بطرسبورغ ومشرفة الخارجي، قد استخدما «ميسنجر تلغرام» في الترتيب للعمل الإرهابي، عبر كل مراحله من إعداد وتنفيذ، وصولاً إلى لحظة التفجير داخل عربة القطار، ما أوقع عدداً من القتلى والجرحى.
وفي بيان لها، تذهب هيئة الأمن الفيدرالي الروسي إلى أن معظم عناصر المنظمات الإرهابية الدولية يستخدمون برامج «ميسنجر»، التي تتيح لهم إقامة محادثات سرية على مستوى من تشفير البيانات المنقولة.
اليقظة الروسية لما جرى هناك دعت السلطات الروسية لمطالبة «بافل دوروف» مؤسس «تلغرام» بتقديم بيانات لا بد منها ليتوافق «ميسنجر» مع المعايير والشروط التي تنص عليها التشريعات الروسية، بما في ذلك تسليم شفرات الدخول إلى فضائه، وتتبع تحركات المشبوهين ولاتصالاتهم عبره، تحت طائلة حجبه في الفضاء المعلوماتي الروسي. وعلى الرغم من أن دوروف قد رفض هذا الطلب معتبراً أنه يتعارض مع الحريات الدستورية، إضافة إلى أنه يظهر قلة الفهم فيما يتعلق بكيفية تشفير الاتصالات في 2017 على حد تعبيره، فإنه ولا شك كان قد أيقظ عند كثيرين مشاعر وأفكاراً تقود إلى مكافحة الإرهاب السيبراني عبر أفكار مبتكرة وغير تقليدية.

منتدى عالمي لمكافحة الإرهاب
لم يكن للغرب بقيادة الولايات المتحدة الأميركية أن يبقى بعيداً عن أحدث معارك مواجهة الإرهاب، ذلك أنه وعبر عقد من الزمان، قد وقر لدى الأميركيين أن المحاولات الممكنة للقيام بعمليات إرهابية على الأراضي الأميركية لن تتم إلا من خلال اختراق الشبكات الإلكترونية للبلاد، سواء من الإرهابيين التقليدين أصحاب الأصوليات ذات المسحة الدينية، أو من خلال الدول المعادية وفي المقدمة منها الصين وروسيا.
في هذا الإطار جاء الإعلان في الأسابيع القليلة الماضية عن تأسيس «منتدى إنترنت» حول العالم، مثل شركة «فيسبوك» و«مايكروسوفت» و«تويتر» و«يوتيوب»، وذلك في مبادرة تقدمت بها هذه الشركات العملاقة التي تواجه ضغوطا متزايدة من حكومات العالم لمنع نشر الدعاية الإرهابية. وهنا يعنّ لنا أن نطرح علامة استفهام... هل ستتخلى تلك الشركات عن التنافس التجاري والاقتصادي القائم بينها من أجل هدف أكبر يهددها جميعاً، وهو الإرهاب المدمر؟
يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، فقد قالت الشركات السابقة في بيان لها إن المنتدى «يضفي الطابع الرسمي ويرسي هيكلية المحاور التعاون القائمة أو المقبلة بين مؤسساتنا».
والشاهد أن فلسفة هذا المنتدى تقوم على العمل المشترك بين أعضائه، وتقاسمهم لأفضل الأدوات التكنولوجية والتنظيمية التي تطورها كل شركة من شركات المنتدى، ما يمكن أن يؤثر بشكل أفضل على التهديد الناجم عن المحتوى الإرهابي على الإنترنت.
وهذه الخطوة في واقع الأمر كانت قد سبقتها خطوة أخرى أعلنت في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، فقد تم تأسيس شراكة عالمية بين الشركات الأربع لمكافحة المحتويات ذات الطابع الإرهابي. البيان الأخير لعمالقة الإنترنت حول العالم يوضح كيف أن عمل المنتدى سيركز على الحلول التكنولوجية لرصد المحتويات الإرهابية والقيام بأبحاث لتحسين وسائل إزالة المحتويات الجدلية وتطوير خطابات مضادة للدعاية الإرهابية، وتقاسم المعلومات بين الشركات والهيئات المشتركة في هذه المبادرة.
هل توافرت معلومات جديدة لأجهزة الاستخبارات الغربية، وفي مقدمتها مجمع الاستخبارات الأميركية الذي يضم نحو ست عشرة وكالة استخباراتية عتيدة عجلت بهذا النوع من أنواع الحرب على الإرهاب عبر الإنترنت؟
وفي أواخر مايو (أيار) الماضي، وتحديداً في 27 منه، أرسل الـ«إنتربول»، إلى جميع قيادات الشرطة الأوروبية قائمة بأسماء 173 عضواً من أعضاء تنظيم داعش، تحصلت عليها أجهزة الأمن الأميركية، وقد أماطت صحيفة «الغارديان» البريطانية اللثام عن القصة برمتها، وعندما أن الأميركيين وعبر مصادرهم وفي المقدمة منها الاختراقات الإلكترونية لشبكات الإنترنت قد تعرفوا إلى هويات متطرفين قدموا من أوروبا، وتدربوا لدى «داعش» لتنظيم عمليات انتحارية في بلادهم، وأن الدواعش أنشأوا تلك الخلايا بعقلية انتقامية تحسباً للهزائم اللاحقة في الشرق الأوسط.

تمويل الإرهابيين
على أن الحديث عن العلاقة الوثيقة واللصيقة بين الجماعات الإرهابية والشبكة العنكبوتية اليوم، قد تجاوز مسألة التربية للعمليات الإرهابية والتواصل مع الأطراف الفاعلة والمكلفة بالقيام باللمسات الأخيرة، إذ وصل اليوم إلى حدود دائرة جديدة شريرة مبتكرة هي دائرة التمويل... لماذا التمويل تحديداً؟ الثابت أن «داعش» وطوال العامين الماضيين، وأزيد قليلاً كان يعتمد اعتماداً كليّاً على مصدرين رئيسيين لتمويلها الأول هو بيع النفط المهرب والمسروق من الحقول العراقية والسورية، والثاني هو مردودات بيع الآثار المنهوبة من متاحف الدولتين المتقدمتين. غير أنه وبعد الانتكاسات السريعة والعريضة التي حصلت بـ«داعش» هناك، بدا وكأنه لا بد من طرق جديدة للحصول على تمويل لاستمرار تلك العمليات، وهنا ظهر الإنترنت ومن جديد كمصدر عبر طرق مستحدثة لم تكن تخطر على تفكير أحد من قبل.
في منتصف مايو الماضي أيضاً استيقظ العالم على إحدى أكبر الهجمات الإلكترونية في التاريخ الحديث، وقد كان المتسبب الرئيسي فيها هو أحد برامج أو فيروسات الفدية Ransomware المعروف باسم Wanna Cry ويعمل هذا البرنامج عن طريق تشفير نظام الحاسوب والمطالبة بفدية لتحريره، ويمكن دفع هذا المقابل المالي من خلال العملة الرقمية «بيتكون» إلى مصدر مجهول، يمكنه - من الناحية النظرية على الأقل - توفير مفتاح الشفرة لتحرير النظام والعهدة هنا على الراوي، صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية سألت: هل يمكن أن يضحى هذا الفعل نسقاً للإرهابيين يمكنهم من خلاله الحصول على ملايين الدولارات كتمويل لعملياتهم الإرهابية حول العالم؟
دون أدنى شك يمكن أن برنامج الفدية طريقها خطيرا لتمويل المجتمعات الإرهابية على اختلاف منابعها ومشاربها، وهذا ما أشار إليه أخيراً ريان كالمبر أحد أهم خبراء الأمن الإلكتروني الاستراتيجي في شركة «بروف بوينت» لشبكة CBS الأميركية حين قال: «لقد شاهدنا الجماعات الإرهابية تمول منظماتها من خلال استخدام بعض العمليات مثل الجرائم الإلكترونية وبرامج الفدية»... هل واشنطن مسؤولة بدرجة أو بأخرى عن هذا النوع الجديد من أنواع التهديد السيبراني حول العالم. يمكن القول إن واشنطن تتقاسم بعض اللوم في انتشار هذا الهجوم، فمن المعتقد أن نقطة الضعف التي استغلها برامج الفدية جرى اكتشافها أولاً من قبل وكالة الأمن القومي NSA، وقد أصدرت «مايكروسوفت» تصحيحاً لنقطة الضعف بعد تسريبها هذا العام، ولكن ربما لم يحدِّثْ الكثير من المستخدمين أنظمتهم، الأمر الذي مكَّن أعضاء التنظيمات الإرهابية، وبينهم بالفعل خبراء ومؤهلون علميّاً للتعامل مع شبكات الإنترنت، من اختراق الكثير من أجهزة الشركات الكبرى، والأفراد، بل الحكومات، من أجل الحصول على ملايين الدولارات لتمويل عملياتهم. والمقطوع به أن الإشكالية التي نحن بصددها قد أكدت على جزئية كارثية تواجه العالم برمته اليوم ويبرع الإرهابيون في التعاطي معها، ذلك أن وجود «أبواب خلفية» لدى وكالات إنفاذ القانون للدخول إلى برامج وأنظمة الحاسوب، حتى ولو كان لأسباب تتعلق بالأمن القومي، يزيد من مخاطر وصول المجموعات الإجرامية أو بعض العناصر الفاسدة الأخرى إلى نقط الضعف تلك، الأمر الذي دعا بريان فتج المراسل التكنولوجي لـ«واشنطن بوست» للقول: «إن الأمر أشبه بترك المفاتيح أسفل السجادة التي توضع أمام باب الدخول إلى المنزل، والتي يمكن أن يستخدمها أشخاص أخيار، ولكن يمكن للأشرار أيضاً استخدامها».

إرهاب الإنترنت واليمين المتطرف
والشاهد أن الحرب السيبرانية وأفكار المنتديات العالمية لمواجهة صناع الشر وزراعته حول العالم لا تنسحب فقط على العالم العربي أو الإسلامي، لا سيما بعد أن أصبح الحديث عن الإرهاب والأصولية ضوان للعالم الإسلامي وللإسلام في مغالطة واضحة وفاضحة، وأنها تشمل كذلك جميع التيارات الشعبوية واليمينية حول العالم.
ففي أوروبا أضحت هناك مخاوف حقيقية من عودة الأصوليات اليمينية القديمة بأفكارها المتطرفة، وهو ما رأيناه ونراه في جماعات مثل «النازيين الجدد» أو حركة «بيغيدا» في ألمانيا، أو حركة النجوم الخمس في إيطاليا، وغيرها في الدول الإسكندنافية هذه وغيرها في واقع الحال ترتب أوراقها واتصالاتها بشكل جيد للتواصل والقفز على ما هو طبيعي ومعروف من أدوات إنسانية في بناء المجتمعات البشرية، للتصور إلى حدود العمل في الخفاء عبر الأبواب الخلفية للإنترنت وإخوتها ونشر روح الكراهية وتدبير أعمال العنف. والثابت أن المشهد ذاته ينطبق على الولايات المتحدة الأميركية وعلى القارة اللاتينية بالقدر ذاته. وعرفت واشنطن العاصمة وضواحيها في العقدين الأخيرين تصاعداً مطرداً في نمو الجماعات اليمينية ذات التوجهات الراديكالية، وعند كثير من المحلين السياسيين المتتبعين للشأن الأميركي أن فرقاً أهلية أميركية كثيرة تتجهز للصراع مع الحكومة الاتحادية، وليس سرّاً كذلك أن بعضها يطالب بالانفصال، وأخرى تهدد بعمليات إرهابية في قلب البلاد.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.