صنع الله إبراهيم... مشروع روائي صلبه الإنسان المقهور

يصدر «67» بعد خمسين سنة من كتابتها

صنع الله إبراهيم
صنع الله إبراهيم
TT

صنع الله إبراهيم... مشروع روائي صلبه الإنسان المقهور

صنع الله إبراهيم
صنع الله إبراهيم

منذ روايته الأولى «تلك الرائحة» (1966) ظل صنع الله إبراهيم حاضراً من خلال كتابته ومواقفه السياسية المعارضة، وكل كتاب جديد له مناسبة للجدل الفني والسياسي. وكان رفضه جائزة الرواية العربية عام 2003 بخطاب سياسي حاد على منصة التتويج بدار الأوبرا المصرية ذروة هذا الحضور الأدبي المشتبك مع السياسة. قد كان موقف صنع الله في تلك الليلة أبرز موقف جذري لكاتب معارض خلال 30 عاماً من حكم مبارك.
في السنوات الأخيرة أصدر صنع الله كتباً مضت هوناً، لا كما اعتاد جمهور الأدب، وأحدثها رواية «67» التي صدرت هذا العام، وهي رواية قديمة خبأها نحو خمسين عاماً، ولهذه الخصوصية وحدها كان ينبغي أن تثير فضولاً لم تصادفه للأسف!
هذا التغيير يستحق الدراسة، وإن كان من الممكن رؤية الأمر في إطار عزلة الأدب في سنوات الصخب والعنف اللذين اقتيد إليهما الربيع العربي. قد يبدو ظاهر الواقع الأدبي عكس ما أفترض هنا، لكن المتأمل للحال لن يجد سوى عدد من جوائز الرواية، تتبناها دول الخليج التي ظلت بمأمن من الزلزلة التي تعرضت لها دول الربيع المغدور. وقد جاءت «جائزة الملتقى» للقصة بالكويت التي أطلقها القاص والروائي طالب الرفاعي لترفع صوت هذا الفن إلى جانب الرواية، لكننا بقينا في حقل السرد، دون الشعر، ودون أن تكون الحفاوة بالسرد حدثاً مجتمعياً، بل حالة معلقة بالجوائز.
معظم ما ينشر حول الأدب هو عن السرد، وبالأحرى عن الروايات والجوائز: مواعيد التقديم، تكهنات الفوز، ثم النتائج. وبين كل هذا تتمحور القراءات النقدية في الغالب حول الروايات الفائزة فيها أو الروايات التي لم يحالفها الحظ.
في هذا الإطار يمكننا أن نتحدث عن «عزلة الأدب» رغم الضجيج الظاهر، ويمكننا أن نفهم جزئياً لماذا يصدر عمل لصنع الله إبراهيم مدثراً بهذا الصمت.
في تقديمه للرواية يحكي صنع الله قصة كتابتها عام 1968، في بيروت تحت العنوان ذاته «1967» ويقول إن محاولاته لنشرها قوبلت بالرفض من الدور البيروتية، وبينها دار «نزار قباني» التي أطلقها خصيصاً لنشر أعماله، ودار الآداب، حيث رد عليه سهيل إدريس بالرفض لأن بطله ممسوس بالجنس، ويقول صنع الله إنه انشغل عن الرواية بمتابعة الأسفار بعد المحطة البيروتية. ومع التحول السياسي الذي قاده السادات أصبح عدم النشر قراراً من الكاتب حتى لا تتحول الرواية إلى سلاح يستخدمه اليمين في حربه ضد الناصرية والاشتراكية.
وها هو يقرر نشرها بعد أن زالت الأسباب، وفي تقديم ثانٍ للرواية يعتبرها محمد شعير جزءاً ثانياً من «تلك الرائحة» الأمر الذي يشترك فيه مع دراسة محمد بدوي التي ذيلت الرواية، ووصف فيها الناقد ملامح أسلوب صنع الله إبراهيم السردي، أو على الأقل ملامح البدايات: «أنا متكلم، شاهد عيان يقول الأشياء ويصفها ويكتب الحدث دون تعليق، تاركاً المجال للأشياء والأقوال أن تدل بنفسها». ويعتبر بدوي أن هذه الاستراتيجية السردية، استراتيجية الحياد، واضحة لدى عدد من أبناء الستينات «ولعلها، فضلاً عن ضغط الواقع وأزمة سلطة يوليو (تموز) ناصر، متحددة في مصادر عدة، بل من كتب بعينها مثل كتاب (إرنست هيمنغواي) لكارلوس بيكر أو كتاب (نحو رواية جديدة) لآلن روب جرييه الذي تُرجم في مصر عام 1968».
بين المقدمتين والتذييل، يجد القارئ نفسه بمواجهة نوفيلا من 12 فصلاً تغطي أشهر عام النكسة، تبدأ بحفل رأس السنة في الفصل الأول، وتتوالى الفصول التي يمكن منها أن نخمن الشهر من خلال وصف عابر للطقس أو لحدث سياسي.
تبدو علاقة الرواية الحبيسة المفرج عنها واضحة بسابقتها المنشورة «تلك الرائحة» حيث الراوي البطل المحايد أو مدون اليوميات حاضر مهيمن على السرد من الجملة الأولى: «قال أخي إنه لن يشرب الليلة لأنه سيعمل في الصباح، وقالت زوجته: كيف يعمل المرء في أول العام الجديد؟! أفرغت كأسها كلها وقامت تحضر واحدة أخرى. وقالت سعاد إن زوجة أخي فظيعة. غادرت مقعدي وعبرت الصالة، كانت إنصاف تجلس بمفردها».
هكذا يدفع صنع الله بالشخصيات بسرعة لنرى مجتمعاً متنوعاً وربما متنافراً في الحفل: أصدقاء، زملاء عمل، جيران يطرقون الباب فجأة، بينهم من التباغض واللامبالاة أكثر مما بينهم من الحب والصداقة، وبينهم علاقات وتحرشات ينضح منها الضجر، وتثير الأسى أكثر مما تثير الاشتهاء.
الحوارات ناقصة، العلاقات ناقصة، ولا يبدو أن هناك ما يجمع هذا الخليط من البشر، لا قضية، لا قيمة. هذه هي الروح التي يبدأ بها العام، وتمضي الأشهر حتى الهزيمة، التي ستحل في يونيو (حزيران)، في الفصل السادس من الرواية.
الشخصيات غامضة، لا نكاد نعثر على أوصاف فيسيولوجية أو جمالية إلا فيما ندر، وبينما يمكن أن نمسك بأطراف قصة عبر مثلث العلاقة الملغزة في الرواية: الراوي وشقيقه وزوجة هذا الشقيق، لا نقع على اسم لأحدهم. في مقابل حضور الفعل وغياب الاسم نتعثر في الكثير من الأسماء بلا أفعال أو سمات مميزة: سعيد، عفاف، صادق، سلوى، رمزي، وفؤاد. نعرف عن كل منهم لمحة واحدة: طالبة جامعية، زميل، صديق... إلخ، لكننا لا نعرف إلا القليل عن خلفياتهم الاجتماعية والسياسية، وبين كل هؤلاء يمكننا أن نتوقف أمام إنصاف. نراها في الفصل الأول «تجلس بمفردها بجفون منتفخة وشعر غير مرتب يملؤه البياض» ونراها تتكلم في الفصل الأخير: «قالت إنصاف: كلكم ذاهبون ولن يبقى أحد بجواري. وقالت إن هذه هي قصة حياتها فقد قضتها جالسة تشهد الآخرين وهم يذهبون إلى السجن أو الخارج أو الحياة الأخرى».
هذه المرأة التي تفتتح وتختتم الرواية، هي الوحيدة التي يخصها الراوي الضجر بمعاملة خاصة. يوصلها إلى بيتها، ويصاحبها حتى تفتح الباب ويلمح على الحائط صورتها مع زوجها الفارع، ثم يودعها ويعود. ليست محل اشتهاءاته، لكنها ملاذه بين وقت وآخر. في لحظة التشوش بين كذبة النصر الساحق وحقيقة الهزيمة المروعة يغادر الراوي الجريدة التي يعمل بها إلى بيت إنصاف، وهناك يتلقى هاتفاً من زميله صادق يخبره بانقشاع الدعاية والتحقق من الفاجعة الوطنية، وفي تلك اللحظة كانت صورة زوج إنصاف ماثلة أيضاً: «وضعت السماعة ونظرت إلى إنصاف ثم رفعت بصري إلى صورة زوجها المعلقة على الجدار. جلسنا صامتين ننتظر». وفي زيارة أخرى، ستشكو له إنصاف مما تعانيه من الآخرين، وتخبره عن حسنين ذكي، قالت إنه «يناسبها تماماً».
نحن بصدد رمز يحيل بوضوح إلى مصر نفسها من جهة، ومن جهة أخرى تمثل إنصاف، بقدر ما يمثل الراوي في الروايتين التوأم «تلك الرائحة» و«67» صورة الإنسان المهدور كما يصفها علم النفس الاجتماعي، وأحسب أن هذا هو صلب مشروع صنع الله إبراهيم الروائي.



بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو
TT

بودلير وهيغو... لماذا لا يطيق الشعراء الكبار بعضهم بعضاً؟

 فيكتور هيغو
فيكتور هيغو

لم يكن بودلير متصالحاً مع المجتمع، ولا مع العالم، ولا مع نفسه، وبالأخص مع نفسه. كان منشقاً على ذاته، ومنخرطاً في حرب ضارية جوانية لا تبقي ولا تذر. كان يجلد نفسه بنفسه باستمرار، وذلك بنوع من التلذذ الأقصى والمازوشية. ولكنه في بعض الأحيان كان يصبح سادياً. كان سادياً ومازوشياً في الوقت ذاته. كل علل الأرض كانت فيه. وعن ذلك أنتج الشعر بأعظم ما يكون. وعلى الرغم من بؤسه وعذابه فقد كان أستاذاً في فن التهكم والسخرية وازدراء الأشياء. هل تريدون مثالاً على ذلك؟ إليكم هذه الرسالة التي كتبها إلى أشهر ناقد فرنسي في القرن التاسع عشر المدعو: سانت بيف. وهو الذي ذكره طه حسين مرات كثيرة، بل واستوحى عنوان كتابه «حديث الأربعاء» من عنوان كتاب الناقد الفرنسي: «حديث الاثنين». كان سانت بيف الأكبر سناً من بودلير يعد بمثابة أستاذ الجيل. كان ناقداً أدبياً فذاً يرعب معظم الكتّاب، بمن فيهم فيكتور هيغو ذاته. يكفي أن يكتب مقالة ضدهم لكي يصابوا بالهلع والذعر. ولكنه لم يكن يرعب بودلير على الإطلاق.

بودلير

والدليل على ذلك هذه الرسالة التي وجهها إليه، والتي يرد فيها على الرسالة التي كان الناقد الشهير قد وجهها له سابقاً:

أستاذنا العزيز: أشكرك كل الشكر على رسالتك الممتازة التي أبهجتني. ولكن هل يمكن أن تكتب إلا رسائل ممتازة؟ عندما تقول لي فيها: «يا ابني العزيز»، فإنك تشعرني بالحنان والعطف، وتجعلني أنفجر بالضحك أيضاً. فعلى الرغم من أني كبرت في السن وشاب رأسي، وأصبحت أشبه أعضاء الأكاديمية الفرنسية (من حيث الشكل الخارجي على الأقل)، فإنني بحاجة إلى من يحبني ويشفق علي ويدعوني بابنه. وأنت تذكرني بذلك الشخص الذي كان عمره 120 سنة، والذي التقى فجأة بشخص آخر عمره 90 سنة فقط فقال له: يا ولد الزم حدك!

ما قرأت هذه القصة مرة إلا وكدت أموت من الضحك.

هل تريدون مثالاً آخر؟ في رسالته إلى فيكتور هيغو راح بودلير يمجده أولاً ثم يتهكم عليه لاحقاً. يقول مثلاً: كم أنت سعيد يا أستاذ! الصحة مع العبقرية في معيتك. لقد جمعت المجد من طرفيه أو من كل أطرافه. حقاً إنك شخص سعيد.

ولكن بودلير راح فيما بعد وفي إحدى رسائله إلى أمه يقول هذا الكلام مستهزئاً بفيكتور هيغو:

لقد أجبرت قبل فترة على قبول دعوة للعشاء عند مدام فيكتور هيغو في دارتها ببروكسل. كم وبخني ولداها فرنسوا وشارل لأني لست جمهورياً ثورياً مثل والدهما المبجل. ثم أعطتني مدام فيكتور هيغو درساً بليغاً في التربية السياسية التقدمية الهادفة إلى إسعاد الجنس البشري. ولكن بما أني لا أحب التحدث كثيراً بعد العشاء، وإنما أحب الغرق في الأحلام وهضم الطعام، فإني بذلت جهداً كبيراً لإقناعها بأنه ربما كان قد وُجد رجال عظام في التاريخ قبل زوجها المحترم: السيد فيكتور هيغو. ولكن لحُسن الحظ فإن الناس يعتبرونني مجنوناً، وبالتالي فلا أحد يعتب علي مهما قلت وثرثرت.

عندما كتب بودلير هذا الكلام كان شخصاً مجهولاً تقريباً من قبل معاصريه. لم يكن أحد يعرف من هو بالضبط، ولا قيمته الشعرية. لم تنفجر أسطورته إلا بعد موته. وأما فيكتور هيغو فكان في أوج شهرته ومجده. كان ظله يخيم على فرنسا الأدبية كلها. ومعلوم أن فيكتور هيغو أكبر منه بعشرين سنة. وبالتالي فينبغي أن نأخذ كل هذه المعطيات بعين الاعتبار؛ لكي نفهم كلام بودلير، ونموضعه ضمن سياقه التاريخي.

وفي مكان آخر يقول لأمه أيضاً:

فيكتور هيغو الذي قطن في بروكسل لبعض الوقت يريدني أن التحق به في المنفى هناك في تلك الجزيرة الإنجليزية التي اختارها. وذلك لكي أسامره وأسليه بعض الوقت لأنه يشعر بالوحدة والوحشة في جزيرة صغيرة معزولة. أعترف بأنه أصبح يضجرني ويتعبني. فأنا لا أحسده على كل مجده وشهرته وثروته، حيث كان ينبغي علي في الوقت ذاته أن أمتلك كل سخافاته وغلاظاته. اعلمي أن مدام فيكتور هيغو نصف بلهاء. وأما ولداه شارل وفرنسوا فهما من أغبى الأغبياء. إذا كنت تريدين قراءة ديوانه الأخير(أغاني الشوارع والغابات) فسوف أرسله لك فوراً. كما هي العادة نجاح ضخم في المكتبات ولكن خيبة أمل كبيرة لدى كل أولئك الذين قرأوه. يا إلهي كم هو غليظ فيكتور هيغو. كم هو مزعج وثقيل الدم. أوف! أوف! أوف! لقد أراد أن يكون مرحاً هذه المرة وخفيف الظل، بل وأراد العودة إلى زمن الشباب والتصابي فكانت النتيجة معكوسة. كم أحمد الله على أنه لم يتحفني بكل صفات فيكتور هيغو وغلاظاته وسخافاته.

التوقيع: شارل بودلير.

هكذا نجد أن الحسد والغيرة والمنافسات ليست موجودة فقط عند الشعراء العرب، وإنما نجد مثلها أو أكثر منها لدى الشعراء الفرنسيين. إنهم لا يطيقون بعضهم بعضاً. ولكن موقف بودلير هنا صادق ويتجاوز الحسد، حيث يعبر عن رؤيا أخرى للشعر والوجود. ولكن الشيء العجيب والغريب هو أنه يمدحه أحياناً، بل وأهداه عدة قصائد في ديوانه الشهير «أزهار الشر». وبالتالي فموقفه منه كان غامضاً وازدواجياً ملتبساً. كان يجمع بين الإعجاب الشديد والاحتقار الأشد.

غني عن القول أنه في عصر بودلير لم يكن يوجد جوال ولا إنترنت ولا إيميل، ولا أي نوع من أنواع الاتصالات الحديثة الرائجة هذه الأيام. وبالتالي فكانت الرسالة المكتوبة هي وسيلة التواصل الوحيدة بين الكتّاب والأدباء أو حتى الناس العاديين. ورسائل بودلير ذات أهمية كبرى لأنها تنضح بشخصيته، وانفعالاته، وهمومه، وجنونه. بودلير موجود في رسائله كما هو موجود في ديوانه «أزهار الشر»، أو مجموعته النثرية «سأم باريس: قصائد نثر صغيرة». وكما هو موجود في كتابه «قلبي العاري» الذي يتخذ طابع السيرة الذاتية، حيث يعري شخصيته وأعماقه الدفينة. بعد قراءة رسائله نكتشف أن بودلير كان إنساناً محكوماً عليه بالفشل الذريع في الحياة. ولذلك اضطر إلى أن يعيش حياة البطالة والعطالة والتسكع في شوارع باريس. والواقع أن هذه هي الحياة الوحيدة التي كانت تناسبه: التسكع إلى ما لا نهاية ومن دون أي هدف. من أين جاء الشعر العظيم؟ من أين جاءت القصائد العبقرية؟ ولكنه كان يتمنى لو أنه نجح في الحياة لكي يبرر نفسه أمام المجتمع وأمام أمه بشكل خاص. ومعلوم أنها كانت تؤنبه وتلاحقه وتقرعه باستمرار؛ لأنه لم يصبح موظفاً كبيراً أو سفيراً أو دبلوماسياً يُشار إليه بالبنان، ويحظى براتب محترم كل آخر شهر مثل بقية أبناء العائلات البورجوازية الفرنسية. كل هذا فشل في تحقيقه. ولهذا السبب كان الإحساس بالذنب والتقصير يلاحقه باستمرار فينوء تحت وطأته، وتحت وطأة الحاجة المادية والفقر المدقع (بين قوسين وعلى سبيل المقارنة عندما مات فيكتور هيغو اكتشفوا أنه خلف وراءه ثروة طائلة أذهلت معاصريه. هذا في حين أن بودلير مات وليس في جيبه قرش واحد. ولكن من الذي انتصر شعرياً في نهاية المطاف؟ من الذي أسّس الحداثة الشعرية الفرنسية والعالمية حتى قبل رامبو ذلك المجنون الآخر؟). كان الحظ العاثر يلاحق بودلير باستمرار إلى درجة أنه عد النحس شيئاً مكتوباً على جبين كل كاتب حقيقي. وكان يجد له شبيهاً معزياً في شخص الكاتب الأميركي الشهير إدغار آلان بو. ومعلوم أنه كان يعده مثله الأعلى وقدوته العظمى. ولم يكن يحلف إلا باسمه. وقد أمضى قسماً كبيراً من حياته في ترجمته إلى اللغة الفرنسية، وتقديم أعماله والتعليق عليها. بودلير اشتهر بوصفه مترجماً أولاً قبل أن يشتهر بوصفه شاعراً لاحقاً.

في بعض رسائله كان بودلير يقول هذه العبارة: أعتقد بأنه من الأفضل أن يعاني الناس الطيبون، الناس الأبرياء. ينبغي أن يتعذبوا ويشبعوا عذاباً. ينبغي أن يذوقوا كأس الألم والمهانة حتى الثمالة. ينبغي أن ينزلوا إلى الطبقات السفلى للجحيم قبل أن يكتبوا حرفاً واحداً. ويبدو أن تجربته في الحياة أثبتت له أن الإنسان الطيب تدوسه الناس في الغالب أو تتألب عليه. وبالتالي فينبغي أن يتحمل قدره ومصيره كونه إنساناً مسحوقاً ومقهوراً ومنحوساً. لا يوجد حل آخر. وككل مبدع حقيقي فإن الشعور بالخواء العبثي أو العدمي كان يكتسحه من الداخل اكتساحاً. ولذا فكان يتحول أحياناً إلى شخص ساخر أو متهكم من الطراز الأول: أي إلى شخص يستسخف كل شيء تقريباً، ويزهد في كل شيء. وإلا فكيف يمكن أن نفهم سر ترشحه للأكاديمية الفرنسية؟ لقد رشح نفسه وهو لا يزال كاتباً مغموراً غير معترف به من قِبل الأوساط الأدبية. هذا أقل ما يمكن أن يُقال. إضافة إلى ذلك فقد كانت سمعته «حامضة» جداً إذا جاز التعبير. فهو مؤلف ديوان شعر مُدان من قبل المحاكم الفرنسية بتهمة الإساءة إلى الدين والأخلاق والقيم الفاضلة. وهو مترجم لشاعر أميركي مجرد ذكر اسمه يثير القرف والرعب في كل مكان. وهو مؤلف فاشل لا يجد ناشراً.

ومع ذلك فتصل به الجرأة والوقاحة إلى حد ترشيح نفسه للأكاديمية الفرنسية: قدس الأقداس! فعلاً الذين استحوا ماتوا. في الواقع إنه فعل ذلك على سبيل السخرية والاستهزاء ليس إلا. وقد كتب رسالة إلى فلوبير يعلمه فيها بهذا الترشيح، وأنه ارتكب حماقة جنونية فعلاً، ولكنه لا يستطيع التراجع عنها. لقد أراد إثارة الفضيحة في الأوساط الأدبية الباريسية، وقد نجح في ذلك أيما نجاح. ولكن النتيجة كانت معروفة سلفاً: الرفض القاطع لشخص من أمثاله، شخص يقف خارج كل الأعراف والتقاليد، شخص هامشي منبوذ لا شغل له إلا التسكع في شوارع باريس والتردد على حاناتها ومواخيرها. ولكن الشيء العجيب والغريب، هو أن معظم أعضاء الأكاديمية الفرنسية آنذاك نُسيت أسماؤهم الآن، ولم يبق إلا اسمه يلمع على صفحة التاريخ!