تفكك البنية الاجتماعية في سوريا وأثره على الحل السياسي

«الشرق الأوسط» تنشر دراسة لـ«المركز الألماني للدراسات الدولية والأمنية»

رجل وزوجته قرب مسجد مدمر في حلب (غيتي)
رجل وزوجته قرب مسجد مدمر في حلب (غيتي)
TT

تفكك البنية الاجتماعية في سوريا وأثره على الحل السياسي

رجل وزوجته قرب مسجد مدمر في حلب (غيتي)
رجل وزوجته قرب مسجد مدمر في حلب (غيتي)

تنشر «الشرق الأوسط» اليوم ترجمة خاصة مختصرة لدراسة كتبها خالد يعقوب عويس الزميل في «المركز الألماني للدراسات الدولية والأمنية» ضمن برنامج «المشهد المحلي في سوريا» الذي يقوم به المركز بدعم من الخارجية الألمانية، إذ يرى أن الحرب الأهلية السورية في شكل عميق من هياكل الأعمال التجارية القائمة، والتوازن الدقيق للقيم الدينية، والروابط القديمة بين المناطق الحضرية والريفية. وظهرت الشبكات، والهويات، والهياكل الاجتماعية الجديدة المتصلة باقتصاد الحرب، وعسكرة المجال العام، وإمارات التطهير العرقي.
ومن غير المرجح لأي إنهاء رسمي للصراع الدائر أن ينجح في وقف التحول المجتمعي العنيف. وسيظل التعايش من التحديات الكبيرة الماثلة نظراً لطبيعة الانقسامات الراهنة. بيد أن وجود النظام السياسي الشامل الذي يقضي على تهميش، ويقبل التنوع العرقي، ويوفر الحماية للأقليات أصبح من المتطلبات الأساسية لخفض مستويات انعدام الثقة العميقة بين الطوائف المجتمعية المختلفة.
استخدمت غالبية النظم الحاكمة في الشرق الأوسط تكتيكات «فرق... تسد» في إدارة المجتمعات الداخلية قبل اندلاع انتفاضات الربيع العربي الأخيرة. ويوم بعد يوم، مارست سياسات الترغيب والترهيب. ويميل حكام الجمهوريات العربية، كما هو الحال في سوريا والعراق، إلى استخدام نسخة أكثر وحشية من هذه المقاربات بسبب حاجتهم إلى إضفاء الطابع المحلي على العدد الكبير من السكان الذين ليست لديهم شرعية ديمقراطية تذكر، لا من الناحية التقليدية أو من الناحية الدينية.
لم يفلح سقوط نظام صدام حسين في عام 2003 وزوال حكم الأقلية في بغداد في تغيير يذكر لاستراتيجية النظام في دمشق. إذ سيطرت عشيرة الأسد على أجزاء من الاقتصاد ومنحت امتيازات هائلة للنخب الأخرى المرتبطة بها. وكان النظام الحاكم يستند، إلى جانب الأجهزة الأمنية، على الشراكات القائمة بين الطبقة العليا في المجتمع والتجار ، لا سيما في دمشق وحلب. وأخضع النظام الحاكم القبائل السنية إلى حد كبير، التي تفككت، نتيجة لذلك، على مر العقود. وفي الوقت نفسه، منحهم دورا في الإدارة المجتمعية. وتلقى المزارعون الدعم قبل التحرير الجزئي للاقتصاد في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، وأسهم رفع هذا الدعم في حدوث فوضى اجتماعية واقتصادية كبيرة. كما شهد المجتمع الكردي معاملة سيئة للغاية وحرمانه من حقوقه، مع استثناء وحيد تمثل في دعم النظام السوري الحاكم لحزب العمال الكردستاني.
ومع الموجة الأولى من الربيع العربي التي اجتاحت الشمال الأفريقي في أواخر عام 2010، حاول بشار الأسد استباق الثورة السورية عن طريق الإعلان عن التزامات خطابية بتحسين أحوال القاعدة غير المؤيدة في البلاد، غير أن الانقسامات الاجتماعية والاقتصادية كانت قد بلغت مستويات شديدة العمق حالت دون نجاح محاولات النظام، الذي عززها، في احتوائها والسيطرة عليها. على سبيل المثال، لم يعد النظام السوري قادراً على إدارة صغار المتطرفين وغيرهم من اللاعبين الإسلامويين، الذي عمل على تعزيز وجودهم، بصورة جزئية، بغية الدفع بالأسد كبديل وحيد للفوضى المنتظرة، وممارسة الضغوط على الغرب لإنهاء فترات العزلة المحدودة المفروضة على النظام السوري بدءاً من عام 2005، وحتى عام 2008.

الآثار الاجتماعية لاقتصاد الحرب
أسفرت ديناميات الحرب الأهلية، التي أعقبت قمع ثورة 2011، عن توليد التفتت الاجتماعي الهائل في الداخل السوري. حيث أدت إلى تفكيك الهياكل الاجتماعية، والاقتصادية، وما بين الأجيال المتعاقبة، كما غذت الشبكات العسكرية - الاقتصادية الناشئة حديثاً. وتبدل توازن القوى بين الجماعات الدينية والمجموعات العرقية في البلاد. ولم يعد الحراك الاجتماعي مستنداً إلى ارتباطه الوثيق بالنظام الحاكم، ونتيجة لذلك، تراجعت وبشدة سيطرة عشيرة الأسد على نظام الحكم الذي اعتمد وللغاية على المحسوبية والحكم الطائفي.
وأسفر الفقدان التدريجي للسلطة المركزية عن تضاؤل تركيز المكاسب الاقتصادية في أيدي الطبقة العليا من النظام الحاكم. وفتحت أبواب الأسواق الجديدة أو الكبيرة أمام الجهات الفاعلة الصغرى السابقة، الذين هم في الثلاثينات من أعمارهم، في مناطق سيطرة النظام وفي أقاليم المعارضة.
ومن بين صفوف الموالين للنظام، كان النهب واقتطاع شرائح معتبرة من السوق السوداء من الحوافز الرئيسية للآلاف المجندين في صفوف الميليشيات الموالية للنظام. وأثرى أصحاب الرتب المتواضعة في أجهزة الاستخبارات - من الذين عاشوا على الرشى الصغيرة نسبيّاً - أنفسهم عبر فرض الإتاوات على المعلومات المتعلقة بالأشخاص المحتجزين في سجون النظام والاستخبارات. وكان من الشائع بين مختلف العائلات بيع جميع أصولهم مقابل الأموال لقاء الحصول على معلومات عن ذويهم، وما إذا كانوا أحياء أو وافتهم المنية. وانطلق آخرون إلى أعلى مراتب الابتزاز في المناطق المحاصرة. وأصبحت إمدادات الوقود إلى مناطق سيطرة النظام وصفقات الطاقة مع المناطق الخاضعة لسيطرة «داعش» من المعاملات التجارية الكبيرة. وسعى المستغلون الجدد إلى تعزيز أوضاعهم الاجتماعية. وقاموا، بدعم من الميليشيات الموالين لهم، بممارسة أعمال البلطجة على ركائز مجتمع الأعمال السابق حتى يتسنى لهم تولي المزيد من المناصب، مع انتشار الوسائل الأكثر عنفاً في ممارسة الأعمال، التي تعززت في أعقاب عام 2011.
وبين الشخصيات البارزة وأحد الممثلين النموذجيين لهذه النخبة التجارية الجديدة هو أحمد الفوز. وهو من الشخصيات الشابة غير المعروفة فيما سبق في محافظة اللاذقية، الذي ابتاع في عام 2017 بعض الأصول المملوكة إلى عماد غريواتي - وهو أحد أبناء جيل رجال الأعمال المعروفين باسم «أصدقاء بشار» قبل اندلاع الثورة - نقداً بطريق التربح الحربي. وبين الأصول الجديدة المملوكة لأحمد الفوز نجد «نادي الشرق»، وهو إحدى الركائز الرئيسية للنخبة الدمشقية القديمة. ويعكس شراء هذا النادي تحديداً نجاح أحمد الفوز في الدخول إلى الهيكل البرجوازي في العاصمة السورية.
وظهرت الجهات الفاعلة السابقة «صغيرة السن» على سطح الأحداث في مناطق المعارضة كذلك. ففي ضواحي الغوطة الشرقية على مشارف العاصمة دمشق، أدى الحصار طويل الأجل إلى ظهور تجارة الأنفاق، ما أسفر عن إفساح التجار التقليديين المجال أمام جيل التجار الأصغر سنّاً. وحقق الرأسماليون الجدد ثرواتهم خلال الحصار المفروض من خلال توريد اللوازم الأساسية والسلع والبضائع ونقلها عبر شبكة الأنفاق. كما أنهم أقاموا الشراكات مع قوى المعارضة المختلفة، ومع النظام الحاكم في كثير من الحالات، وأمنوا الفتاوى الشرعية عن طريق العلاقات مع رجال الدين. وناور كثير من رجال الدين بين الطبقات الاجتماعية المتغيرة، ونالوا العضوية والزعامة الصورية في كثير من مجالس الشورى والتحكيم الشرعي ذات الصلة بألوية المعارضة. ووفرت هذه المجالس الأرضية الشرعية لانخراط جماعات المعارضة في اقتصاد الحرب، وفي الحروب ضد جماعات المعارضة الأخرى، التي تضمنت في غير حالة المنافسة المحتدمة على الموارد، كما تضمنت التنافس على الآيديولوجيات الدينية.
انتشرت شبكة الأنفاق من الغوطة الشرقية وحتى أقاليم المعارضة بالقرب من حي القابون في دمشق. ومع ذلك، وبموجب اتفاق الاستسلام في النصف الأول من عام 2017، تم انتقال قوى المعارضة من تلك المنطقة إلى مناطق سيطرة المعارضة بعيداً عن حدود العاصمة. وأغلقت العديد من الأنفاق بعد خسارة المعارضة لحي القابون، مما أتاح المجال لتاجر صغير سابق يدعى محيي الدين منفوش نوعاً من الاحتكار الافتراضي لإمدادات الغوطة الشرقية. ولقد أقام منفوش علاقات قوية مع شبكة من الوسطاء تربطه بالنظام الحاكم، كما تربطه كذلك بقوى المعارضة، تلك التي مكَّنته من نقل السلع والبضائع على سطح الأرض بعيداً عن الأنفاق.
وواجهت الهياكل الاجتماعية والاقتصادية الجديدة التحديات من التطورات السياسية الناشئة. فالغوطة الشرقية، التي كانت ضحية رئيسية لإحدى الهجمات بالأسلحة الكيماوية في عام 2013، والتي أسفَرَت عن سقوط المئات من القتلى المدنيين، من المفترض أن تدخل ضمن نطاق «مناطق نزع التصعيد». وجاء الاقتراح بإقامة هذه المناطق في مايو (أيار) عام 2017، على أيدي الضامنين الثلاثة (روسيا، وتركيا، وإيران) لمحادثات السلام في آستانة منذ أوائل عام 2017. ومع موسكو التي تلعب دور أكثر الدعاة حزما في مقترح إقامة هذه المناطق، فمن غير المنتظر أن تسفر هذه المناطق عن سيناريو يماثل برلين الغربية، بمعنى الجزيرة المحاطة بالأراضي المعادية، ولكن عن وصول شبه حر إلى العالم الخارجي. ومن شأن تعيين الحدود ومستويات الوصول إلى المناطق أن يعيد تشكيل الديناميات المجتمعية المحلية.

انتقام فقراء الريف
أسفرت عسكرة الثورة السورية منذ النصف الثاني من عام 2011 عن وضع الطائفة المهمشة في قلب المعارضة والمقاومة المسلحة لنظام الأسد. وتتألف هذه الطائفة من سكان المناطق الريفية، ومن ذوي الأصول الريفية الذين يعيشون في الأحياء الفقيرة في المدن والمناطق المجاورة. وقد أتاح لهم الدور العسكري الجديد السلطة لتصحيح الاختلال الاجتماعي والاقتصادي فيما يتعلق بالشرائح الغنية من المجتمع والمتحالفة مع النخبة العلوية الحاكمة.
ومع تراخي قبضة الأسد على السلطة، أصبح الحراك الاجتماعي للعديد من سكان الريف يعتمد على المعاملات المحلية والديناميات الطائفية بدلاً من الارتباطات مع نخب النظام الحاكم. وظهرت المظالم على السطح، وشرع الكثير من السكان الفقراء في تبني اسم «المستضعفون». ولقد استخدم الاسم ذاته لإضفاء اللمحة الشرعية على الصعود السياسي والاجتماعي لطائفة الشيعة في العراق ولبنان في السنوات العشر إلى العشرين الماضية.
وكان النظام الحاكم السوري ينظر إلى سكان الريف نظرة غير الجديرين بالثقة، لا سيما بالنسبة لأولئك الذين تمردوا عليه في ثمانينات القرن العشرين في محافظتي حماة وإدلب.
وعلى النقيض من المناطق الريفية والأحياء الفقيرة، مالت المؤسسة العسكرية والأمنية الرسمية لأن تكون أكثر رسوخاً وتعزيزاً في القطاعات الأكثر ثراء في المدن. وجاء استيلاء قوى المعارضة على الأقاليم، وأغلبها في الضواحي ومشارف المدن، ليعزز من الخطوط الاجتماعية الفاصلة، ليس بين الريف والمدن فحسب، وإنما بين الأحياء الأكثر ثراء والأكثر فقراً في المدن نفسها. ويُعزى تطور هذه الخطوط الفاصلة في جزء كبير منها إلى إهمال النظام الحاكم للمناطق الريفية الفقيرة، وشيوع أنماط المساكن القانونية وغير القانونية (العشوائية) ذات الارتباط الوثيق بالفساد، وتقسيم المناطق، والهندسة الاجتماعية.

تراجع نبلاء الريف القدماء
أسفرت التغيرات الاقتصادية عن تقلُّص ما تبقى من طبقة نبلاء الريف القديمة، التي اجتازت فيما قبل موجات التأميم الوطنية، والسياسات الزراعية الاشتراكية في الماضي. وبين أبرز الأمثلة على ذلك نجد بلدة «قلعة المضيق» في محافظة حماة. وتفاقمت هنا التوترات المجتمعية الريفية منذ قرارات الإصلاح الزراعي في الخمسينات. فلقد حرضت طبقة المزارعين المستأجرين السابقين، الذين منحهم النظام الحاكم الأراضي، ضد طبقة النبلاء القديمة الذين تمكنوا من الاحتفاظ ببعض من أراضيهم وممتلكاتهم الأصلية. ففي أثناء الحرب الأهلية الحالية، فقدت بلدة «قلعة المضيق»، الواقعة على مقربة من بقايا مدينة «أفاميا» الرومانية القديمة على مشارف سهل الغاب، حيازاتها الزراعية. وتُعزى تلك الخسارة في جانبها الأكبر إلى قصف النظام الذي يهدف إلى منع الزراعة في مناطق المعارضة. وانضم، جراء ذلك، المزارعون المستأجرون السابقون في البلدة إلى ألوية المعارضة، لا سيما جماعة «أحرار الشام»، وهي الجماعة الكبيرة التي تسيطر على خط العبور الرئيسي مع تركيا (قبل ان تهزمها جبهة النصرة قبل ايام). وساعدت الجغرافيا والروابط مع جماعة أحرار الشام في تحويل بلدة «قلعة المضيق» إلى القناة الرئيسية للسلع والبضائع والوقود التركي الذي يصل إلى مناطق سيطرة المعارضة ابتداء من عام 2012. وأدت شبكات التجارة والتهريب الجديدة إلى تلاشي طبقة نبلاء الريف المالكة للأراضي الشاسعة عن قمة الهرم الاجتماعي في البلدة. وساعد النشاط التجاري المتزايد في البلدة إلى تعويض المنطقة عن تعذر الوصول إلى عاصمة محافظة حماة، التي اجتاحتها قوات النظام الحاكم بالدبابات والمدرعات في أغسطس (آب) من عام 2011.
إلى جانب تغيرات الهياكل الاقتصادية بسبب سيطرة النظام على المراكز التجارية التقليدية، تغيرت المجتمعات في المناطق النائية نتيجة للأعداد الكبيرة وتنوع اللاجئين الذين فروا من هناك.
ومع انقطاع محافظة إدلب التي تسيطر عليها قوى المعارضة عن حلب، تحولت بلدة سرمدا الصغيرة إلى مركز للعملات الأجنبية والتحويلات النقدية، وحلت الخدمات محل الزراعة باعتبارها الدعامة الاقتصادية الأولى في البلدة. وعبر أرجاء إدلب، يتنافس صغار رجال الأعمال بقوة فيما بينهم لتوفير الخدمات. وأقاموا أبراج محلية للاتصالات مكنت السكان في مناطق سيطرة المعارضة من شراء خدمات الإنترنت والتواصل عبر تطبيقات الصوت والرسائل.
وأدى التدفق السكاني المستمر عبر أرجاء إدلب نتيجة لفرار اللاجئين إلى صعوبة لدى مختلف الألوية والكتائب السلفية الجهادية والمتطرفة، من التي استولت على معظم مناطق المحافظة، من فرض قوانينها الدينية على الجميع، مثل ارتداء النساء للنقاب أو حظر التدخين، على الرغم من أن النقاب كان شائعا إلى حد ما في الريف السني السوري قبل اندلاع الثورة. وفي بعض الحالات، تكيفت الأعراف الاجتماعية مع الأعمال التجارية. على سبيل المثال، تمكنت بلدة الدانة في إدلب من جذب الأعمال التجارية من خلال تبني المواقف الاجتماعية الأقل صرامة حيال جموع السكان النازحين. ووقع سكان الدانة الأصليين، الذين بلغ تعدادهم نحو 30 ألف نسمة قبل الثورة، بنحو 70 ألف لاجئ جديد من أصحاب النزعات الاجتماعية الأكثر مرونة والقادمين من أجزاء مختلفة من سوريا واتخذوا من البلدة موطنا جديدا لهم. وأدى التفاوت المسموح به اجتماعيا في البلدة إلى تحفيز العائلات النازحة وحتى النساء اللائي يعشن بمفردهن إلى استئجار الوحدات السكنية في البلدة. وإحدى النساء اللاتي فررن من حلب ولا ترتدي النقاب الذي يغطي الوجه بالكامل تمكنت من استئجار منزل في بلدة الدانة تعيش فيه بمفردها منذ شهور. ومن غير مزيد من الأسئلة من جانب السكان.

المصادمات الطبقية في حلب
أحد الشخصيات الرئيسية التي نقلت قضية السكان إلى إحدى أدوات السلطة السورية بعد عام 2011 كان عبد القادر صالح، وهو تاجر تحول إلى أحد قادة المعارضة من أبناء بلدة مارع في ريف حلب. وهو معروف باسم «حاجي مارع» وكان يقود «كتائب التوحيد الإسلامية». وهو يمثل شريحة من الطبقات الدنيا في المجتمع أو السكان السنة غير الظاهرين اجتماعيا، الذين يتخذون مظهرا أكثر تحفظية، ويفتقرون إلى الروابط التي يحظى بها رجال الأعمال في المناطق الحضرية مع النظام الحاكم. وتفتقد قاعدتهم الشعبية للثقة في الطبقة البرجوازية السنية.
وقبل تمكن النظام من اغتيال صالح في حلب عام 2013، تمكنت كتائبه من السيطرة على القطاع الشرقي من المدينة. وبالمقارنة بالسكان الأثرياء في غرب حلب، كان سكان القطاع الشرقي يشكلون في الغالب المهاجرين الجدد نسبيا من ريف محافظتي حلب وإدلب ومن المناطق النائية الأكثر جفافا في شرق سوريا. وكان سكان حي الصاخور، وهو أحد أكبر أحياء حلب، يكتسبون أرزاقهم من الوظائف الصناعية متدنية الأجور أو من العمل في المحاجر ومحالج الأقطان. وكانت المساكن في شرقي حلب تعرف بالعشوائيات بسبب أنها بُنِيَت من دون تصاريح بناء رسمية وليس لها من وجود في السجلات الرسمية بالدولة. وأكثر من نصف المساكن الحضرية في سوريا قبل عام 2011 كانت تندرج تحت تصنيف المساكن العشوائية. وعلى النقيض من ذلك، كانت المساكن والعقارات في الأحياء الغربية من حلب مسجلة رسميّاً في السجلات الحكومية، الأمر الذي سهل عليهم شق الطرق وتوفير الخدمات من جانب الحكومة. وكان سوق العقارات وتسجيل المساكن من أدوات الاستقطاب الرئيسية في أيدي النظام السوري الحاكم. ولا يزال الأمر اليوم في حلب وغيرها من المناطق النظامية على منواله من حيث إن ملكية العقارات تعتمد إلى حد كبير على ما يعرف بالجمعيات الإسكانية، التي تتألف من مجموعات من الملاّك المؤهلين للحصول على القروض المصرفية الحكومية الموجهة لبناء المساكن وفقاً لولاء تلك الجمعيات للنظام الحاكم. وفور الانتهاء من بناء المساكن يتم حجز عدد من الشقق المجانية للمسؤولين الحكوميين أو عملاء أجهزة الاستخبارات لبيعها، أو العيش فيها، أو منحها لأتباعهم، أو استخدامها رشى، بما في ذلك القضاة وغيرهم من المسؤولين الذين يسهلون أعمالهم وتجارتهم.
وعبر موجة الاستياء الكبيرة من النخبة الطبقية في حلب، كان نهب المصانع من السمات المميزة لسقوط القطاع الشرقي من المدينة في أيدي المعارضة، إذ كانوا يعتبرون أصحاب هذه المصانع من الموالين للنظام.
ومع ذلك، كان العلاقة أكثر تقلبا وتلونا. فإن الكثيرين من سكان حلب الغربية الأثرياء لم تكن لديهم خيارات سوى التعاون مع النظام الحاكم أو مغادرة سوريا بكل بساطة. ولقد ألقوا باللائمة على النظام في القضاء على حلب كمركز مدني وحضري كبير ومتنوع، وفي هروب السواد الأعظم من سكانه من الأقليات، وفي خنق المؤسسات الحرة في المدينة. ومن ناحية أخرى، روج البعض الآخر، وأشاد بصلاتهم العميقة مع النظام الحاكم.
وافتتح أحد أرباب الصناعة مصنعاً جديداً في الأردن بعد نهب مصنعه القديم في حلب، الذي كان يعمل فيه 700 عامل، وكان يعتمد على أعمال التصدير للخارج. واشتكى رجل الصناعة، وكان يتحدث وتظهر بجانبه صورة مؤطرة لبشار الأسد في مكتبه بالعاصمة عمان، أن التكاليف في الأردن مرتفعة للغاية بسبب عجزه عن رشوة المسؤولين للتوقف عن سداد تأمينات العمال كما كان يفعل في سوريا من قبل.
لم يكن أحد يجرؤ على الشكوى العلنية من المحسوبية الطائفية التي مارسها النظام السوري في فترة ما قبل عام 2011، ولكنها كانت من المصادر الرئيسية للاستياء الكامن لدى الغاالبية. واعتبر المنشقون أن النظام الحاكم غير قابل للاستمرار، ودعوا إلى التحول الديمقراطي بديلاً لأي انتقام طائفي مُنتَظَر. وبين طوائف السنّة في سوريا، كانت هناك فروع مختلفة مرتبطة بالتيار السلفي والصوفي من التي تنافست فيما بينها في هدوء للحصول على النفوذ، بيد أن التوازن الذي نشأ وتطور عبر القرون كان يحفظ التوترات فيما بينهم بعيداً عن السطح. ومال أغلب السكان إلى انتهاج النزعة المحافظة اجتماعياً، ووقعوا في حالة وسط بين السلفية والصوفية. ولم يحقق أي من التيارين تقدماً يُذكر في الداخل السوري كآيديولوجية مستقلة قائمة بذاتها على نطاق واسع.
ورغم ذلك، ومنذ أوائل العقد الأول من القرن الماضي، شرع النظام السوري في خلخلة هذا التوازن الهش ليتناسب مع أغراضه السياسية، معززاً بصورة تعسفية من توسيع الفجوة الآيديولوجية السنية من خلال منح بعض الجماعات حرية الدعوة ويحظرها على جماعات أخرى. ويبرز مثالان على جانب التيار الصوفي في ذلك. المثال الأول يتعلق بمؤسسة الشيخ أحمد كفتارو، التي سمحت السلطات لإدارتها بإقامة اتصالات مع السفارات الغربية كممثلين عن الوجه المعتدل للإسلام المدعوم من النظام في سوريا. ويتعلق المثال الثاني بجماعة النساء القبيسيات التي ازدهرت كثيرا في العاصمة دمشق نحو عام 2006 وأثارت سخط الطائفة السنية المحافظة في البلاد، الذين كانوا يعتبرونها من الجماعات الصوفية الباطنية المارقة عن الإسلام.
ونقل النظام السوري الصراع إلى مستويات أعلى عندما سمح بتجنيد المتطرفين لتقويض الوجود الأميركي في العراق عام 2003 وما بعده، مما أسهم في انتشار الدعوى السلفية الجهادية، لا سيما في المناطق الريفية والمناطق الحضرية الفقيرة من البلاد. وإيماناً من النظام على تصميم تحركات المتطرفين، جلب النظام في عام 2006 سكان الأحياء العشوائية إلى قلب العاصمة دمشق. وسمح للآلاف بالعيش في الحي الدبلوماسي في العاصمة، كما سمح لهم بالتظاهر ضد نشر الرسوم الكاريكاتيرية الدنماركية. وقام المحتجون الغاضبون - الذين كانوا يتبعون رجال الدين الموالين تماماً للنظام الحاكم - بحرق مباني سفارتي الدنمارك والنرويج في دمشق. وأدرك الدبلوماسيون الأوروبيون المتمركزون في دمشق أن هذه الأحداث ليست إلا نتاج الأيادي الخفية التي يحركها النظام. وفي هذه الأثناء، كان الأمر بمثابة تحذير خفي من النظام بأنه يمكنه إطلاق عفاريت التطرف الإسلاموي من القمقم ما لم ينهِ الغرب العزلة الدولية المفروضة على النظام السوري، في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري في عام 2005.
لم تحمل الانقسامات الاجتماعية (العرقية والدينية) أية أهمية سياسية في الداخل السوري مع بدء الاحتجاجات لعام 2011. وكان كثير من العلويين البارزين من الممثلين والمخرجين يدعمون الثورة. واجتاحت المظاهرات المؤيدة للديمقراطية ربوع الريف والمدن السورية على نطاق واسع، فضلا عن المناطق الحضرية ذات مستويات الدخل المتنوعة والميول الدينية المختلفة. وفي المراحل الأولى من الحرب الأهلية، تبنت المناطق المحاصرة الخاضعة لسيطرة المعارضة النزعات الدينية بصرامة أكبر، وفي جزء منها كوسيلة لمواجهة المعاناة من النظام التمييزي العشوائي وردا على القصف الروسي العنيف. وتجاوزت النزعة السلفية التأثيرات الصوفية المعتدلة، وعزز الاستقطاب الآيديولوجي من مستويات المرارة والألم حيال المدن، التي كانت تحظى بقدر من الأمان في ذلك الوقت، وأثارت الشكوك الخطيرة بأن سكان هذه المدن قد تخلوا عن «دينهم» وباعوه للنظام الحاكم هناك. وأصبح الجميع ينظرون إلى دمشق، على وجه الخصوص، من زاوية افتقارها إلى المصداقية الدينية بسبب وقوع العاصمة تحت تأثير التيار الصوفي الذين يُعتبرون مرتدين عن الإسلام من جانب الإسلامويين المتشددين.
وبحلول منتصف عام 2017، استولى النظام عبر الحصار الحربي على معظم المناطق التي فقدها من قبل لصالح قوى المعارضة في العاصمة وفي الضواحي، باستثناء الغوطة الشرقية (...) غير أن سكان دمشق، رغم ذلك، لم يكن أمامهم المجال الكافي للتعامل أو لإظهار أي تعاطف مع إخوانهم في المناطق الأخرى بسبب الوجود الأمني المكثف لنظام الأسد هناك. ولقد تم سحق الإضراب الذي نظمه تجار دمشق في عام 2012 للاحتجاج على مقتل أكثر من 100 مدني في محافظة حمص بكل سرعة وضراوة. وبعد صعود المتطرفين، كان يمكن أن تسود المشاعر بين جموع التجار الذين لم يغادروا البلاد بأن سوريا، تحت حكم الأسد، كانت مهيأة لشيوع نسخة الحكم الإسلاموي على طراز «داعش» أو ربما «طالبان». ومن بين أولئك مَن مكثوا ليس بسبب تأييد النظام الحاكم وإنما بسبب خشيتهم من أنهم إن غادروا البلاد فستستولي الميليشيات الموالية للنظام، والمجندة من داخل وخارج البلاد، على ممتلكاتهم. ورغم أن وجود الميليشيات كان ظاهراً في البلدة القديمة، وهي موطن بعض أكثر الأسواق التجارية ازدحاماً، سعى النظام الحاكم إلى الحفاظ على أصحاب المتاجر من المحافظين داخل دمشق لاستخدامهم كواجهة للنشاط الاقتصادي «الطبيعي» في وقت الحرب.

العشائر والأكراد وميليشيات إيران
من الناحية النسبية، كان المكون الأقوى من بين المكونات التقليدية الموالية للنظام هو العشائر العربية، إذ جعلتهم المعرفة والجذور المتأصلة في المناطق الكبيرة التي يسكنونها شرق حلب وحماة وحمص من المكونات التي لا غنى عنها بالنسبة لمختلف السلطات الحاكمة التي بسطت سيطرتها على المنطقة منذ عام 2011.
وتفاوتت آثار الحرب تبعاً للقوى الخارجية الموجودة في المناطق المعينة. فالعشائر التي حافظت على ولائها للنظام الحاكم مالت إلى تأمين المزيد من النفوذ وتوسيع نطاق شبكاتهم الاجتماعية.
وإلى خارج مناطق النظام، لا سيما في شرق سوريا، أدى الصراع على الموارد والمواد الخام إلى نشوب النزاعات القبلية، ما أسفر عن اتساع رقعة الانقسامات في المجتمعات المحلية، التي شهدت الانقسامات أول الأمر جراء سياسة «فرق... تسد» التي اعتمدها النظام الحاكم في العقود السابقة على الصراع الحالي. وفي محافظات الرقة، ودير الزور، والحسكة، تصارعت مختلف العشائر فيما بينها على النفط والغاز حتى ظهور تنظيم داعش وسيطرته على أغلب أراضي المنطقة الشرقية السورية في عام 2013. ورزح زعماء العشائر، من الذين تمتعوا باستقلالية كبيرة من قبل، تحت وطأة الحكم الجديد من أمراء «داعش» الذين كانت لهم اليد الطولى.
زاد استيلاء تنظيم «داعش» على المنطقة الشرقية من البلاد من الدعم الكبير بين جموع الأكراد السوريين لـ«وحدات حماية الشعب» الكردية التابعة لحزب العمال الكردستاني، المدعومة من الولايات المتحدة الأميركية. وأسفر التقدم الذي أحرزته «وحدات الحماية» ضد «داعش» بدءاً من أواخر عام 2014 عن تغيير المشهد المجتمعي الداخلي مرة أخرى، ومكَّن من حشد وتأييد قوات «الوحدات» الذين صاروا صناع القوة الجديدة في المنطقة.
تعاونت «الوحدات» مع نظام الأسد منذ بداية الثورة، ونفذت أساليب القمع العنيف ضد الاحتجاجات المناهضة للأسد، وقامت مقام قناة الإمداد للجيش الحكومي السوري. وتوسعت منطقة سيطرة الوحدات» بموافقة من النظام السوري، لتشمل كلاًّ من المناطق الكردية والعربية. ولقد انقسمت منذ عام 2014 إلى ثلاثة كانتونات: الجزيرة في محافظة الحسكة الشرقية، وعفرين على مقربة من مدينة حلب، وكوباني (عين العرب) والواقعة بين الجزيرة وعفرين. وبعدما رسخت «الوحدات» من سلطاتها هناك، بدأ الوسطاء الموالون للميليشيات الكردية في الظهور لبيع محاصيل القمح إلى النظام السوري، كما هو الحال في منطقة رأس العين على الحدود التركية، ولتولي صفقات النفط المنتج في بلدة رميلان بمحافظة الحسكة، وهي من أكبر حقول النفط السورية. ثم استسلمت الشخصيات المحلية في المدن الكردية إلى كوادر وحدات الحماية الشعبية المسلحة، الذين تابعوا تنفيذ عمليات القمع العنيفة بحق المعارضة. ولم تطالب «الوحدات» بالولاء فحسب من شخصيات المجتمع الكردي المحلي، وإنما كان لزاماً عليهم أن يكونوا مخلصين آيديولوجياً لشخص وطائفة عبد الله أوجلان كي يحوزوا على أي مصالح من جانب «الوحدات». وكثيراً ما غادر كثير من الأكراد المتعلمين مسقط رأسهم، مما أدى إلى نقص ملحوظ في العمال الماهرين في المناطق الكردية من سوريا. وغادر آخرون لمجرد الفرار من التجنيد الإجباري في صفوف وحدات الحماية الشعبية الكردية.
وقعت الانقسامات بين مختلف القبائل والعشائر العربية في صالح «الوحدات» مع استيلائها على المزيد من الأراضي العربية التقليدية من أيدي تنظيم «داعش». وأقامت «الوحدات» وحداتٍ جديدةً مثل المجالس العسكرية والإدارات المحلية، التي تنال الشخصيات العربية البارزة فيها المناصب الرفيعة ذات الألقاب البارزة. وكان حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو الجناح السياسي لـ«الوحدات»، من اللاعبين العاملين على إنشاء المزيد من المجالس المحلية، وأشرف على جهود شراء الولاء من بعض القبائل العربية المحلية. ورغم ذلك، كانت عمليات صنع القرارات المهمة مقصورة على الجهات الفاعلة فقط في وحدات الحماية الشعبية الكردية. وبدا العقد الاجتماعي، تحت ظلهم، مشابهاً لهياكل نظام الأسد السابقة، التي كان «حاكم الأمر الواقع» في غالب الأحيان هو الوكيل الأمني للطائفة العلوية القابع خلف الكواليس، وليست الهياكل الديمقراطية الشعبية التي أنشئت لإضفاء مظهر أصحاب الكلمة الأخيرة لدى السكان المحليين.
من عام 2012 وحتى 2013 فصاعداً، صار التطهير العرقي أحد أسلحة الحرب الناجزة، التي كانت موجَّهَةً بصورة أساسية وبارزة ضد السكان في مناطق المعارضة، واستخدمتها مختلف الجهات العسكرية الفاعلة. وفي مناطق سيطرة قوات المعارضة، أصبحت الميليشيات، المدعومة رأساً من إيران، هم السادة الجدد في كثير من المجتمعات، التي اقتلع سكانها من جذورهم وفروا بحياتهم إلى الدول المجاورة أو إلى أوروبا وبأعداد هائلة.
وتركزت عمليات نقل السكان حول دمشق والمناطق المحيطة بها، وفي محافظة حمص القريبة، وهي المناطق التي تتألف في الغالب من السكان الذين كانوا المراكز الرئيسية للعمالة الماهرة في داخل وخارج سوريا. كما تم إخلاء بلدتين مواليتين لدمشق وطهران في شمال سوريا بشكل كبير من سكانهما في عام 2017 الحالي في جزء من اتفاق تم التفاوض عليه بوساطة قطرية. واشتمل الاتفاق أيضاً على إخلاء بلدتين معارضتين أخريين بالقرب من دمشق، الأمر الذي لم يلقَ أي اعتراض دولي يُذكر.
انعكس التجزيء والتناقضات الداخلية بين الميليشيات المختلفة على أداء المجتمعات في المناطق السورية التي خضعت لسلطان تلك الميليشيات، حتى بعد إخراج السكان منها تماماً. ومن بين صفوف الميليشيات، لا يزال «حزب الله» اللبناني هو أقوى الفصائل وأوسعها انتشاراً وأسرعها من حيث العمليات الدعائية. ومع ذلك، تقوضت سلطات «حزب الله» الشيء الكثير من خلال عمله داخل سوريا مع حلفاء أقل انضباطاً يتألفون من الميليشيات المستقدمة من سوريا، والعراق، وأفغانستان، إلى جانب الميليشيا المحلية، التي تركز جُل اهتمامها على عمليات السلب والنهب بأكثر من الاهتمام بالآيديولوجية والفكر.
وكان عناصر الميلشيات من السوريين، الذين لعبوا دور الرجل الثاني كجماعة مصغرة موالية للنظام الحاكم، قد ارتقوا عسكرياً ومالياً إثر الدعم الذي نالوه من إيران. وبحلول منتصف عام 2017 الحالي، كانت الأجزاء الاستراتيجية المهمة من سوريا على طول الخط الحدودي مع لبنان، من القصير وحتى الزبداني، قد سقطت في أيدي «حزب الله» ومجموعة متنوعة من الميليشيات المدعومة من إيران، والقادمة من سوريا ومن أماكن أخرى. وبصرف النظر تماماً عن الاتحاد الذي أظهروه في تقويض الوجود الاجتماعي الذي ثار ضد حكم الأسد فإنهم أخفقوا على ما يبدو في تأسيس إدارة متماسكة.

تحولات المدى الطويل
من شأن التغييرات الاجتماعية أن تنعكس على الواقع السوري بأسره، بصرف النظر عن النظام الحاكم وما إذا كانت قبضته تترسخ الآن أم ينفرط العقد منه مفككاً أو (ربما وإن كان من غير المرجح في المرحلة الآنية) أن ينهار تماماً. ومن بين الملايين الذين فروا من سوريا إلى دول الجوار وصوب أوروبا، فإن تفكك الطبقات المجتمعية قد بات أكثر عمقاً وتنوعاً عن ذي قبل.
سعى النظام إلى إظهار نفسه باعتباره اللاعب الوحيد في الحرب الأهلية الجدير بإعادة المجتمع السوري إلى سابق عهده. ورغم ذلك، فلقد فقد النظام السيطرة على القوى التي أطلق لها العنان أول الأمر، وألقى بالمجتمع بأسره إلى أتون جديد من الفوضى الثقافية، والفكرية، والاقتصادية متعددة المستويات. وصار النظام ذاته يواجه التحديات المجتمعية من صفوف الموالين له.
وكان منهاج النظام قبل اندلاع الثورة في التعامل مع العناصر المجتمعية التي انتفخت قواها للغاية يتمحور حول التخلص منها أو اجتزاء قواها وتقليص حجمها إلى المستوى المناسب لبسط السيطرة عليها. وكان التهديد باستخدام العنف من العوامل الأساسية في استيلاء أقارب الرئيس الأسد المباشرين (خصوصاً شقيقه وأبناء العمومة) على أجزاء واسعة من اقتصاد البلاد والشروع في الأنشطة غير المشروعة، فضلاً عن المشتريات الحكومية الفضفاضة. وسيتعين عليهم التعامل مع طبقة أثرياء الحرب الجدد بغية المحافظة على الهيمنة وبسط المزيد من السيطرة. ومن غير المحتمل أن تتقبل الجهات الفاعلة الممكنة حديثا العودة إلى حالة الوضع الراهن السابقة فور اختفاء العدو المشترك من واجهة الأحداث.
وفي إشارة واضحة على التوترات المتصاعدة، جاءت التقارير الإخبارية المختلفة لتفيد بوقوع العديد من الحوادث من شاكلة عدوان عصابات الشوارع منذ عام 2012 فيما بين أفراد من عائلة الرئيس الأسد وغيرهم من أبناء الطائفة العلوية الحاكمة.
وإن أسفرت المناورات الدولية الحالية عن اتفاق يحفظ ماء وجه النظام الحالي ويسمح له بمحاولة توسيع استراتيجياته التعاونية مجدداً، سيواجه النظام السوري صعوبات جمة في تهدئة غضب سكان الريف. ومن شأن «الوحدات» التي سيطرت على المناطق الريفية العربية إلى الشرق من حلب من أيادي تنظيم «داعش»، أن تواجه المشكلة ذاتها. ورغم من أن «الوحدات» اعتمدت أسلوباً من الحكم يشابه أسلوب النظام السوري، فإن نزاعات الأراضي وغيرها من النزاعات المحلية الأخرى لا تزال تفسد الصلات الرابطة بين الأكراد والعرب في المنطقة. ولقد أثبت الواقع أن «الوحدات» لا تستند في قوتها إلا على الدعم الأميركي الخالص في نهاية المطاف. وفي غياب هذا الدعم، فمن المرجح أن العرب من سكان المناطق الريفية والقبلية في سوريا سيتعاملون بالحد الأدنى من الاحترام مع «وحدات الحماية» والهياكل الديمقراطية التي أقامتها هناك. وفي مناطق المعارضة بأكثر من المناطق الداخلية السورية، اختبر سكان المناطق الريفية، في بعض الحالات، الحراك الاجتماعي من دون الاعتماد على الترتيبات الاجتماعية ذات الصلة بالنظام الحاكم. وصاغوا نسختهم الخاصة من خطاب «المستضعفين» بمعاونة من مختلف الآيديولوجيات الدينية داخل سوريا وخارجها من التي بدأت في العمل بحرية مطلقة، وللمرة الأولى، في البلاد مع سقوط أجزاء كبيرة من الريف السوري في أيدي قوات المعارضة. ويمكن لهذا الخطاب أن يتحول إلى الأداة الرئيسية في التعبئة الاجتماعية المستمرة، التي، على غرار معاناة الطائفة الشيعية تحت حكم صدام حسين في العراق، سوف تبقى كامنة غير بادية حتى وإن تم القضاء تماماً على الثورة السورية.
ولقد شهد سكان الريف الكثير من فصائل المعارضة تسيطر على بلداتهم وقراهم ويقومون بدور أمراء الحرب هناك. وقد تفضل نسبة من سكان الريف العودة إلى محاضن النظام الحاكم، لا سيما إن تجمعت للنظام الموارد الكافية لإعادة الدعم للمحاصيل الكبيرة وإعانات الطاقة التي توقفت قبل اندلاع الثورة.
إن الاضطرابات التي تعرضت لها الهياكل المجتمعية إلى جانب مقدار الثقة المفقودة بين مختلف مكونات المجتمع المجزأ تسلط الضوء على الحاجة الماسة إلى الوصول إلى حل شامل وديمقراطي للحرب الأهلية السورية. ومثل هذه المقاربة، في كثير من الحالات، هي من المقاربات البغيضة للقوى الخارجية المنشغلة للغاية بتأمين الترتيبات الجيو - سياسية التي تعتقد أنها ستنهي الصراع المحتدم لصالحهم. ومن المرجح أن يستغرق الأمر عقودا لمداواة الجراح المجتمعية السورية (الناجمة عن الحرب الأهلية فضلاً عن الهندسة الاجتماعية والحكم الطائفي منذ سيطرة عشيرة الأسد على سدة السلطة في سبعينات القرن الماضي) وإعادة بناء مستويات الثقة بين مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية للدرجة التي تسمح بالتعايش فيما بينها. ولكن في غياب معالجة قضايا العدالة، والحكم، والإصلاح القضائي، والفساد المستشري، والنظام المناهض للثقة المعمول به على نطاق واسع، فمن شأن الانقسامات القائمة أن تتعمق وتظهر على السطح انقسامات جديدة.



«حزب الله» يُعدّ تشييعاً «شعبياً» لأمينه العام السابق حسن نصر الله

«حزب الله» يستعد لتشييع شعبي لأمينه العام السابق حسن نصر الله (رويترز)
«حزب الله» يستعد لتشييع شعبي لأمينه العام السابق حسن نصر الله (رويترز)
TT

«حزب الله» يُعدّ تشييعاً «شعبياً» لأمينه العام السابق حسن نصر الله

«حزب الله» يستعد لتشييع شعبي لأمينه العام السابق حسن نصر الله (رويترز)
«حزب الله» يستعد لتشييع شعبي لأمينه العام السابق حسن نصر الله (رويترز)

يُحضّر «حزب الله» لإقامة تشييع «شعبي» لأمينه العام السابق حسن نصر الله، الذي قُتل في غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية، أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، وفق ما أعلن مسؤول في الحزب، اليوم الأربعاء، بُعَيد بدء سريان وقف إطلاق النار في لبنان.

ووفقاً لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، قال نائب رئيس المجلس السياسي للحزب محمود قماطي، خلال مؤتمر صحافي في الضاحية الجنوبية لبيروت: «أجّلنا تشييع سماحة الأمين العام لكي نقوم بتشييع لائق به بروحه وبشهادته هو، ورفيق دربه سماحة السيد هاشم (صفي الدين)»، رئيس المجلس التنفيذي في الحزب الذي قُتل كذلك في ضربة إسرائيلية، مضيفاً: «اليوم، نُحضّر لهذا التشييع الذي سيكون استثناء واضحاً وقوياً وشعبياً ورسمياً وسياسياً».