خلال الأيام القليلة الماضية صوّت مجلس الشيوخ الأميركي مرتين على إلغاء برنامج الرئيس السابق باراك أوباما للرعاية الصحية. في الأولى – وكانت ذات طابع إجرائي – اضطر نائب الرئيس الأميركي مايك بنس إلى ممارسة حقه في التصويت لكسر تعادل الأصوات بعد وقوف عضوين من الغالبية الجمهورية في مجلس الشيوخ مع الأعضاء الديمقراطيين، واقتراعهما ضد توجه حزبهما والرئيس دونالد ترمب الهادف إلى إلغاء البرنامج حتى قبل التوافق على برنامج بديل. أما «الشيخان» الجمهوريان المتمرّدان فكانا في الحقيقة «شيختين» هما السيناتورة سوزان كولينز (من ولاية مين) والسيناتورة ليزا موركاوسكي (من ولاية ألاسكا). السيناتورتان تُعدّان من التيار المعتدل - الليبرالي اجتماعياً في الحزب، وهما تمثلان ولايتين تقعان في أقصى شمال شرقي البلاد وأقصى شمال غربها. وفي المرة الثانية، في التصويت الحاسم على مشروع «قانون الرعاية الميسّرة» انضم السيناتور المخضرم والمرشح الرئاسي السابق جون ماكين إلى كولينز وموركاوسكي والديمقراطيين ليسقط الثلاثة خطط الحزب الجمهوري والبيت الأبيض. ولئن كان موقف موركاوسكي ظل موضع أخذ ورد، قبل أن تحسم أمرها، فإن كولينز أعلنت منذ البداية أنها لا تستطيع تأييد إلغاء البرنامج قبل إقرار برنامج بديل يحفظ حقوق الأميركيين وصحتهم.
ثمة توافق بين متابعي المشهد السياسي في العاصمة الأميركية واشنطن أن السيناتورة سوزان كولينز تعتبر اليوم العضو الجمهوري الأكثر اعتدالاً في مجلس الشيوخ، وأقربهم إلى عقد تفاهمات مع الشيوخ الديمقراطيين.
أكثر من هذا، فإن كولينز هي اليوم العضو الجمهوري في المجلس من ولايات إقليم نيوإنغلاند الست، وهو الإقليم الذي يحتل الزاوية الشمالية الشرقية من الولايات المتحدة، وذلك بعد تحوّل الحزب الجمهوري تدريجياً خلال العقود الأخيرة إلى حزب محافظ متشدد اجتماعياً ودينياً. وأدى هذا التحوّل عملياً إلى تزايد جاذبية الحزب في ولايات الجنوب الزراعية (في «حزام القطن» و«حزام التبغ») التي كانت حتى منتصف القرن الـ20 معاقل للديمقراطيين المحافظين، مقابل تراجع حضور الجمهوريين في ولايات نيوإنغلاند، وكذلك في ولايات نيويورك وكاليفورنيا وإيلينوي.
وحقاً، كانت ولايات إنجلاند بين أقدم ولايات الاتحاد الأميركي وأعرقها وأقدمها هجرة. وكانت مدينة بوسطن «العاصمة» غير الرسمية لنيوإنغلاند، والعاصمة الرسمية لماساتشوستس، كبرى ولايات الإقليم وما زالت تعدّ مهد الثقافة الأميركية ومعقل الأسر الأرستقراطية الراقية والثرية التي لعبت دوراً مباشرا في بناء أميركا. وكان الجمهوريون حتى نصف قرن من الزمن يشكلون القوة السياسية الرئيسة في بوسطن، قبل أن تغدو بوسطن وماساتشوستس من أهم معاقل الديمقراطيين الليبراليين.
موقف سوزان كولينز، في واقع الأمر يعبّر تماماً عن مفاهيم الحزب الجمهوري كما كان وليس كما أصبح. يعبّرون عمّا كان عليه «حزب أبراهام لنكولن» في اعتداله وإطلالاته على عموم البلاد... وليس عن الحزب المتشدّد ضد الأجانب والذي يعتمد على أصوات غلاة الإنجيليين البيض في ولايات الجنوب والوسط.
وحتى بضع سنوات خلت ما كانت كولينز الوجه الجمهوري الوحيد الذي أرسله ناخبو نيوإنغلاند إلى مجلس الشيوخ في واشنطن. فإبان رئاسة الرئيس بيل كلينتون كان في المجلس عدد من الشيوخ الجمهوريين الذين وقفوا معه ومع الديمقراطيين ضد حزبهم فحالوا دون إدانته بتهم الكذب للتستر على فضيحة مسلكية، وذلك من منطلق اعتبارهم أن سلوكيات الرئيس مسألة حرية شخصية لا تمسّ أمن البلاد، ولا تؤثر على إدارته شؤونها. وكان بين هولاء، إلى جانب كولينز، زميلتها من ولاية مين السيناتورة أوليمبيا سنو، والسيناتور جيمس جيفوردز من ولاية فيرمونت، والسيناتور جون تشايفي من ولاية رود أيلاند. وبعد ذلك استقال جيفوردز من الحزب الجمهوري وصار مستقلاً يصوت مع الديمقراطيين. أما تشايفي فقد خلفه أبنه لنكولن، الذي لم يكتف بمغادرة الحزب، بل انضم لاحقاً إلى الحزب الديمقراطي وخاض الانتخابات التمهيدية الرئاسية مرشحا ديمقراطيا.
بطاقة هوية
ولدت سوزان مارغريت كولينز يوم 7 ديسمبر (كانون الأول) 1952 في بلدة كاريبو الواقعة بأقصى شمال شرقي ولاية مين والولايات المتحدة، قرب خط الحدود مع كندا. ونشأت بين 6 أشقاء وشقيقات في أسرة ميسورة تتعاطى الشأن السياسي بجانب تجارة الخشب؛ إذ كان أبوها عمدة للبلدة كما كان عضواً في المجلسين التشريعين (الشيوخ والنواب) للولاية، كذلك كان عمها قاضياً بارزاً وأيضاً عضواً في مجلس شيوخ الولاية. وهي متزوجة منذ صيف العام 2012 من توماس دافرون، الرئيس التنفيذي لمجموعة استشارية.
ومنذ أيام المدرسة في بلدتها الصغيرة، برز اهتمام سوزان بالشأن العام والنشاط الاجتماعي والطالبي، فانتخبت رئيسة لمجلس الطلبة. وشاركت في سنتها الثانوية الأخيرة في برنامج الشباب الخاص بمجلس الشيوخ الأميركي؛ ما أتاح لها زيارة واشنطن لأول مرة. وهناك اجتمعت لمدة ساعتين بالسيناتورة الجمهورية المخضرمة مارغريت تشيز سميث، إحدى أشهر الشخصيات السياسية في تاريخ ولاية مين. ومن المفارقات أن كولينز كانت أول مندوب للبرنامج يُنتخب لعضوية مجلس الشيوخ الأميركي، بل ولقد احتلت بالذات المقعد الذي احتلته لسنين تشيز سميث.
وبعد الدراسة الثانوية، التحقت سوزان كولينز بجامعة سانت لورانس في شمال ولاية نيويورك، حيث درست العلوم السياسية وتخرّجت بتفوق عالٍ في هذه الجامعة الخاصة الراقية بشهادة بكالوريوس آداب. ومن ثم، بدأت العمل عام 1975 مساعدة تشريعية في فريق النائب فالسيناتور الجمهوري المعتدل ويليام كوهين (وزير الدفاع الأميركي لاحقاً إبان رئاسة بيل كلينتون) واستمرت في هذا المنصب حتى 1987. وبجانب عملها هذا، عيّنت عام 1981 مديرة للجنة الفرعية للرقابة على الإدارة الحكومية في مجال الأمن الوطني، وتولت المهمة أيضاً حتى 1987.
في العام 1987 عيّنها جون ماكيرنان، حاكم مين، مفوضة لإدارة الضبط والتنظيم المهني والمالي في الولاية. وبعد خمس سنوات، عام 1992. عيّنها الرئيس جورج بوش الأب مدير المكتب الإقليمي لإدارة الأعمال التجارية الصغرى، وكان مقرها في بوسطن.
وفي العام التالي، اختيرت كولينز وهي لا تزال في بوسطن نائب أمين صندوق لولاية ماساتشوستس. غير أنها بعد سنة، عام 1994 عادت إلى مين حيث رُشّحت لمنصب حاكم الولاية عن الحزب الجمهوري وباتت أول امرأة يرشحها أحد الحزبين الأميركيين الكبيرين لمنصب الحاكم في مين على الرغم من وقوف محافظي الحزب ضدها. إلا أنها احتلت المرتبة الثالثة بين أربعة مرشحين، خلف المرشح الديمقراطي الفائز جوزيف برينان والمرشح المستقل آنغوس كينغ (السيناتور الحالي). وبعد هذه المحطة السياسية المبكّرة أسست كولينز وأدارت مركز الأعمال التجارية العائلية في جامعة هاسون في الولاية.
في مجلس الشيوخ
العام 1996 كان بداية الصعود الحقيقي لسوزان كولينز، ففيه فازت بانتخابات الكونغرس ودخلت لأول مرة مجلس الشيوخ الأميركي محتلة مقعد «راعيها» السابق ويليام كوهين – الذي استقال كي يتولى منصب وزير الدفاع –، ولقد احتفظت فيما بعد بمقعدها في انتخابات أعوام 2002 و2006 و2014 بغالبية كبيرة، بل ومتزايدة. وهي راهناً – كما سبقت الإشارة – السيناتور الجمهوري الوحيد من ولايات نيوإنغلاند الست، وذلك بعد هزيمة السيناتورة كيلي آيلوت أمام منافستها الديمقراطية ماغي حسن في ولاية نيوهامبشير مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي.
منذ دخول كولينز مجلس الشيوخ تمكنت في إثبات نفسها، وبفضل قوة شخصيتها ومرونتها واعتدالها العاقل وقدرتها على المحاورة والمساومة مع الخصوم، نجحت في معظم المهام التي تولتها. ومنذ دخولها المجلس فإنها باتت أحد الأعضاء الأنشط والأكثر تصويتاً على مشاريع القرارات المرفوعة إلى المجلس، بما فيها تصويتها تأييداً على شن الحرب على العراق عام 2002، وبحلول سبتمبر (أيلول) 2015 كانت قد صوّتت ستة آلاف مرة – وهو ثاني أعلى رقم مسجل في تاريخ المجلس –، وفي هذا دليل على شدة التزامها وحضورها الدائم (لم تتغيب ولو مرة واحدة عن التصويت) ونشاطها الدؤوب.
وعلى صعيد علاقاتها بحزبها، فإنها تعدّ كولينز السيناتور الجمهوري الأقرب إلى التوافق الحزبي داخل مجلس الشيوخ، ولقد عزّزت سمعتها المعتدلة لسنوات طويلة تقاسمت خلالها تمثيل ولاية مين في المجلس مع زميلتها أوليمبيا سنو (ذات الأصل اليوناني). ونشطت عبر السنين في الكثير من التنظيمات التي تتبنى القضايا الليبرالية داخل الحزب الجمهوري ومنها التنظيمات المهتمة بنظافة البيئة وحرية الإجهاض وحقوق الإنسان، بل إنها كانت بين ستة مرشحين جمهوريين فقط أيدتهم «حملة حقوق الإنسان» عام 2008.
أكثر من هذا، اختارت مجلة «إل» في مارس (آذار) 2014 سيناتورة مين بين «أقوى عشر نساء في واشنطن». وفي استطلاع مسحي أعلنت نتيجته يوم 24 نوفمبر 2015 حصلت كولينز على نسبة قبول وتأييد تبلغ 78 في المائة، وهي الأعلى لسيناتور جمهوري وثاني أعلى نسبة قبول لأي سيناتور بعد النسبة التي يتمتع بها زميلها اليساري المستقل بيرني ساندرز، الذي نافس هيلاري كلينتون على ترشح الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وهو من ولاية فيرمونت الصغيرة القريبة من مين.
رفضها إدانة كلينتون
ولعل من أشهر المواقف التي أعطت سوزان كولينز سمعة واسعة على المستوى الوطني، موقفها إبان حملة الجمهوريين لإدانة الرئيس الديمقراطي بيل كلينتون خلال عقد التسعينات من القرن الماضي. فيومذاك اقترحت كولينز وزميلتها سنو مشروع قرار يصوّت بموجبه مجلس الشيوخ بصورة منفصلة أولا على التهم الموجهة، وثانياً على التدابير المناسبة رداً عليها. ولكن بعد سقوط الاقتراح، صوّتت كولينز وسنو ومعهما زميلاهما في نيوإنغلاند الجمهوريان السيناتوران جون تشايفي وجيمس جيفوردز، وكذلك السيناتور الجمهوري آرلن سبكتر (من ولاية بنسلفانيا) مع الديمقراطيين لصالح براءة كلينتون من منطلق أنه على الرغم من أن كلينتون تقدم بإفادة كاذبة تحت القسم حول علاقاته الشخصية فإن ما يفعله لا يسوّغ عزله من منصب الرئاسة. وهكذا، خسر الجمهوريون المحافظون معركتهم لإطاحة الرئيس.
وخلال صيف العام الماضي، تحديداً يوم 8 أغسطس (آب) أعلنت كولينز أنها لن تصوّت لدونالد ترمب خلال المنافسات الترشيحية للحزب الجمهوري قبل انتخابات نوفمبر 2016. وبرّرت موقفها يومذاك بأنها لا ترى أنه «صالح للمنصب»، وأوضحت أن قرارها «يستند إلى قلة اكتراثه بمبدأ معاملة الآخرين باحترام، وهي فكرة تتجاوز السياسة». ومع أنها بعد ذلك وقفت معه، ثم أيدت قراره عزل جيمس كومي، مدير «مكتب التحقيقات الفيدرالي» (الإف بي آي)، فإنها يوم 28 يناير (كانون الثاني) الماضي كانت بين ستة جمهوريين عارضوا الحظر المؤقت الذي فرضه الرئيس ترمب على سفر أو هجرة المولودين في سبعة أقطار مسلمة. وانتقدت الشق الديني الذي يشمله مبدأ الحظر قائلة: «كما سبق لي القول خلال الصيف الماضي، لا يرتجى أي نفع ولا تخدم أي غاية الاختبارات الدينية في موضوع الهجرة، بل إنها تناقض قيمنا الأميركية».