«داعش» في غرب أفريقيا... الواقع والتحديات

القارة السمراء مهددة بأن تغدو تربة خصبة للتنظيم المتطرف

«داعش» في غرب أفريقيا... الواقع والتحديات
TT

«داعش» في غرب أفريقيا... الواقع والتحديات

«داعش» في غرب أفريقيا... الواقع والتحديات

يتساءل بعض المراقبين حول ما إذا كانت هزيمة تنظيم داعش الإرهابي المتطرف في العراق وسوريا ستكون منطلقاً لحقبة جديد من انتشار هذا التنظيم، في مواقع ومواضع أخرى حول العالم. وكان عدد من المتابعين والخبراء قد توقعوا أن يسعى «داعش» ليجد له موطئ قدم في آسيا، وبالذات في دول جنوب شرقيها، وتحديداً في الفلبين وإندونيسيا وماليزيا. ومعلوم أن البلدين الأخيرين اللذين يشكل المسلمون غالبية كبيرة من سكانهما، يمثلان خزاناً بشرياً يمكن استقطاب عناصر جديدة منه لإعادة إحياء الفكر والتنظيم المتطرفين معاً.
غير أن الأحداث وتواليها تشير إلى أن «الدواعش» قد يذهبون في طريقين: آسيا أحدهما، أما الطريق الآخر فهو أفريقيا. والمعنى أن يكون التحرك على جبهتين، ما يعطي زخماً وفاعلية لمريديه، ويعقّد في الوقت ذاته إمكانية القضاء المبرم عليه مرة واحدة. وثمة من يرصد أوضاع أفريقيا بالنسبة لتنامي الحركات المتطرفة، ويدرس إمكانيات إيجاد أرضية أصولية تساعد «داعش» على الانتشار التمدد في قلب القارة السمراء.
ليس سرّاً أنه قبل أن يظهر تنظيم داعش الإرهابي المتطرف على سطح الأحداث في سوريا والعراق، كانت هناك جماعات ذات طابع إرهابي تنشط في مناطق شمال غربي أفريقيا، وإقليم الساحل، بصورة خاصة. وكانت غالبية هذه الجماعات قد وُلِدَت من رحم الجماعات التي ترفع ألوية إسلامية متشددة، لا سيما تلك القائمة والناشطة في دول المغرب العربي وبالأخص الجزائر، مثل «الجماعة الإسلامية الجزائرية».
وفيما بعد، بنتيجة الضغوط الأمنية المشددة عليها، فضلت الانتقال إلى إقليم الساحل وتخوم الصحراء الكبرى، ولقد غيّرت اسمها لاحقاً لتصبح «تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي».
وعطفاً على هذا التيار، يبقى تنظيم «بوكو حرام»، في نيجيريا وجوارها، أحد أهم وأخطر وأعنف الحواضن الإرهابية المتطرفة التي تنشط في قارة أفريقيا من جهة الغرب. وهو مسؤول عن كثير من العمليات الإرهابية كخطف السياح، وقطع الطرق، والاعتداءات المسلحة على غير المسلمين. ثم أن تنظيم «بوكو حرام» معروف بعلاقاته مع بقية مجموعات الشباب النيجيري خاصة، والأفريقي عامة، التي تمضي في المنهج الراديكالي المغالي في محافظته.
ومن ناحية أخرى، يرى متابعون أنه مما لا شك فيه أن سقوط نظام معمر القذافي في ليبيا أدى إلى تزخيم وتدعيم الكثير من الجماعات الإرهابية التي ترفع ألوية وشعارات إسلامية في أفريقيا، وتستفيد من تدفق السلاح من وإلى ليبيا. وتستفيد كذلك من تلاشي ملامح الدولة عبر الحدود المفتوحة، والانفلات الأمني، بل إن القذافي - لفترة ما من حكمه الطويل الذي استمر بين خريف 1969 وخريف 2011 - نفسه كان من أسباب انتشار الإرهاب في أفريقيا، وذلك عبر تسليحه وحمايته وتوجيهه المجموعات المتمردة والانفصالية في بعض الدول، وبالذات مالي، التي كان الزعيم الليبي السابق الراحل يستخدمها خنجراً في خاصرة دول غرب أفريقيا الشمالية.

أرضية أفريقية ممهدة
لقد وجد «داعش» بالفعل أرضية فكرية ولوجيستية مهيأة لحضوره في القارة السمراء، خصوصاً أن الطرح الرئيسي له أي قيام «دولة الخلافة الإسلامية»، هو عينه الذي تسعى وراءه الجماعات الأصولية الأفريقية المتطرفة، سواء كانت العربية الأصل، كما في الجزائر والمغرب وتونس وليبيا، أو الأفريقية الصرف مثل «بوكو حرام».
وفي هذا الإطار، لم يكن غريباً أو مثيراً أن تبايع جماعة «بوكو حرام» في شهر مارس (آذار) الماضي «داعش»، وتعلن الولاء الكامل والتام لقائده (أبو بكر البغدادي)، إذ في خطوة مفاجئة قال أبو بكر شيكاو زعيم «بوكو حرام» في بيان له: «نعلن مبايعتنا للخليفة، وسنسمع له ونطيعه في أوقات العسر واليسر». ولقد لفت هذا الأمر انتباه كثرة من المتخصصين في دراسة ومتابعة الحركات الإسلامية في أفريقيا، ذلك أن هذه المبايعة قد تخالف التقارب الشديد بين «بوكو حرام» و«تنظيم القاعدة». لكن يبدو أن ظهور داعش، الأكثر دموية، وتراجع «القاعدة» وعملياتها النوعية والكمية، أدى بجماعة «بوكو حرام»، إلى اتباع الجماعة التي تتماشى وأهدافها المحلية، وفي مقدمتها إنشاء «دولة الخلافة» المزعومة في شمال نيجيريا.

الاستخبارات الأجنبية تراقب «داعش»
في واقع الأمر، لم تكن تحركات «داعش» في أفريقيا بعيدة عن أعين بقية الدول الأفريقية، وكذلك أجهزة الاستخبارية الغربية، وهو ما دعا صحيفة «لو فيغارو» الفرنسية في منتصف شهر أبريل (نيسان) الماضي، لأن تقدم ملفاً كاملاً عن «داعش في أفريقيا». وتضمن الملف تحليلاً شافياً ووافياً لقلق أجهزة استخبارات البلدان المجاورة، وعلى رأسها تشاد والنيجر وساحل العاج. ذلك أنه اجتمع مسؤولو الاستخبارات في هذه البلدان بنظرائهم الإقليميين، أخيراً في العاصمة النيجيرية أبوجا، بغرض التداول في مجابهة هذا الخطر الإرهابي الصاعد.
وفي هذا السياق، كتب الصحافي الاستقصائي الفرنسي جورج مالبرونو - الذي كان رهينة سابقة عند بعض من تلك الجماعات الأصولية - عن تحركات «داعش» في أفريقيا، مشيراً إلى أن «تنظيم داعش قبل الهزائم الأخيرة التي تعرض لها (في سوريا والعراق)، كان قد أرسل نحو 15 مدرباً عراقياً إلى نيجيريا»، وفقاً لمصادر عسكرية واستخباراتية فرنسية، وتحديداً إلى منطقة «أدامامو في شمال نيجيريا. وهناك - وفق مالبرونو - أقاموا لمدة ستة أشهر خصصت لتدريب عناصر (بوكو حرام) على تقنيات القتال والتعامل مع المتفجرات، وتصنيع أسلحة يدوية بما في ذلك قاذفات الصواريخ.

صراع «داعش» و«القاعدة»
في هذا الإطار، هل باتت المواجهة بين «داعش» و«القاعدة» في القارة الأفريقية مسالة حتمية؟
الشاهد أن التناحر والتنافس «القاعدي - الداعشي» على أفريقيا تبين بوضوح في التصريح الذي أطلقة «أبو محمد العدناني» الناطق الرسمي باسم «داعش»، والذي أشار فيه إلى أن «شرعية جميع الإمارات والجماعات والولايات والتنظيمات في المناطق التي يمتد إليها سلطان الخلافة، تعتبر باطلة»، وذلك في إشارة إلى المجموعات التي أعلنت ومنذ فترة ولائها لـ«القاعدة».
ولعل ما يزيد المشهد إثارة ويؤجج الصراع أكثر بين أكبر تنظيمين متطرفين في المنطقة الأفريقية الآن، هو أن «القاعدة» لا تزال تنظر إلى نفسها بوصفها «الأصل»، بينما ترى أن «داعش» مجرد فرع، أو فصيل انشق عنها. وعليه فإن «خلافة البغدادي» لا شرعية لها ولا ولاء ينبغي أن يعطي من قبل أي جماعة لزعامتها، وبالتالي، باتت «الولايات» تتوزّع بين «القاعدة» ويتبعها جماعات مثل «المرابطون» بزعامة مختار بالمختار، و«القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي»، ويترأسها عبد المالك درو كال، و«أنصار الدين» بقيادة إياد أغ غالي، ثم «جبهة تحرير ماسينا» بقيادة أمادو كوفا. وأخيراً هناك «كتيبة خالد بن الوليد - أنصار الدين الجنوب» التي يشرف عليها سليمان كيتا، ولقد ضم عشرات من المقاتلين الماليين وبعض البوركينابيين والإيفورايين.
في المقابل، فإن حضور «داعش» يبقى في الأساس متركزاً في ليبيا... وهو «المفرخة» أو «الحاضنة» التي تصدر لأفريقيا العناصر الهاربة من نيران سوريا والعراق، ثم هناك جماعة «بوكو حرام» في نيجيريا وبعض الدول المجاورة. كذلك تعد جماعة «أنصار بيت المقدس» التي تزعم وجودها في شبه جزيرة سيناء أكثر المجموعات الأفريقية ولاءً لـ«داعش»، وهذا على الرغم من الضربات الأمنية الموجعة التي تتلقاها من قوات الجيش المصري والشرطة المصرية على حد سواء.
لا ريب أنه مما يستدعي التفكير الجدي الأسباب الممكنة أو المحتملة التي تجعل من «القاعدة» و«داعش» تنظيمين جاذبين للإرهابيين من أفريقيا. وهناك ينبغي التساؤل حول ما إذا كانت المسألة برمتها لا تعدو كونها قناعات دوغماتية وآيديولوجية أم أن هناك أسباباً أخرى تجعل هؤلاء وأولئك قادرين على استقطاب شباب أفريقيا وقيادتهم إلى التهلكة كما نرى.

أموال وأوهام
أدرك القائمون على تنظيم داعش، منذ البداية، أن الرهانات الفكرية ربما لا تنطلي إلا على العدد القليل جدا من الأتباع، لا سيما أن هناك تنافساً شرساً في إطار التنظيمات الراديكالية، وأن بعضها أوفر قوة وأقوى حجة بل ويتمتع رؤية سياسة وحجة فقهية أوسع وأعمق وأكثر فاعلية من الدموية الداعشية. ولهذا عمد التنظيم الداعشي منذ البدايات على شراء الولاءات بالأموال. ولقد كانت الاتصالات تجري بين العناصر المكلفة بعملية التجنيد وبين الشباب المرشح، وفحواها إغراءات مالية عالية القيمة، يصعب صدها أو ردها بحال من الأحوال.
في هذا الإطار سعى تنظيم «الدولة الإسلامية في أفريقيا» إلى الدول ذات الكثافة السكانية العالية، وفي مقدمها جمهورية غانا، الدولة الساحلية التي كانت بين الأسبق إلى نيل الاستقلال في مناطق أفريقيا السوداء جنوبَ الصحراء، التي يشكل المسلمون نحو 60 في المسلمين من سكانها، بينما تبلغ نسبة البطالة فيها 11.5 في المائة. في غانا مشكلات اقتصادية، تجعل من شبابها صيدا سهلاً لأصحاب الأموال الوفيرة.
ولعل هذا الواقع يعيدنا بالذاكرة إلى نشاط الدواعش المريب في كل من العراق وسوريا، حيث عملوا جاهدين على تأمين مصادر مالية طائلة عبر تهريب النفط والاتجار غير المشروع بالآثار، وما إلى ذلك من طرق غير شرعية لاكتساب المزيد من الأموال.
ربما المسألة هنا تتجاوز وجود الأموال فقط. ذلك أن من الأهمية بمكان أيضاً وجود طريق الاتصال، وفي هذا يبرع أعضاء «داعش» المؤهلين علمياً في استخدام وسائط الاتصال الاجتماعي الحديثة لا سيما «فيسبوك».
وفي رواية لمؤسسة الأنباء والتلفزيون الألمانية الشهيرة «دويتشه فيلله» DW يقول شاب غاني: «انتهت دراستي الثانوية وأنا أبلغ من العمر 21 سنة، وما كنت أملك مالاً كافياً لدخول الجامعة، أو بدء نشاط حياتي لكسب العيش. ولكن اتصل بي عبر (فيسبوك) أحد الغرباء ووعدني بمليون دولار أميركي إن عملت لصالحه»... وتساءل الشاب: «كيف لي أن أرفض هذا الطلب؟».
هذا المثال، بلا شك، يعد حالة أو نموذجاً لملايين الشباب الأفارقة الذين عمل «داعش»، وما زال يعمل، على استقطابهم مستغلاً الفقر المدقع الذي يعيشونه، تمهيداً لضمهم إلى صفوف مقاتليه، ومن ثم صبغ أفريقيا بالإرهاب بشكل كامل.

ليبيا... مربط الفرس
يتصل نجاح «داعش» في قارة أفريقيا مستقبلاً، والقضاء عليه مرة واحدة، أو انتشار التنظيم في أفريقيا والإخفاق في السيطرة عليه على مصير الأوضاع في ليبيا. هذه الأوضاع كبدت أفريقيا جنوباً وغرباً، وشمالاً وشرقاً، تكاليف عالية، بعد الفوضى والارتباك اللذين سادا المشهد الليبي طوال ست سنوات، وبعد انهيار النظام السابق فيها.
لقد تحولت ليبيا إلى مركز جاذب للإرهاب والإرهابيين من كل بقاع وأصقاع العالم، ولا نوفر هنا أدوار دول لعبت وتلعب في زخم الإرهاب هناك، وفي المقدمة منها قطر، تلك التي صدّرت قيادات «القاعدة» لتسيّد المشهد في ليبيا، في أعقاب سقوط القذافي، بالإضافة إلى الإمداد بالدعم المالي واللوجيستي، وبالأسلحة والعناصر البشرية.
في هذا الإطار أيضاً أضحت ليبيا هي «بوابة الإرهاب إلى القارة الأفريقية»، ومركز عمليات لتنظيم داعش في شمال أفريقيا. والمؤكد هنا أنه في حال استمرار فشل القيادات والأطراف السياسية في ليبيا بالتوحد حول مشروع سياسي قابل للحياة لليبيا، فإنهم سيقدمون لـ«داعش» فرصة ذهبية لتكرار نموذجي العراق وسوريا... ومن بعد ذلك الانتقال الكثيف إلى قلب أفريقيا، وفي جميع الاتجاهات الجغرافية داخل القارة.
ولعل الناظر إلى التحليلات الدولية - والاستخباراتية خاصة - بشأن حضور «داعش» في أفريقيا، يرصد تحركات دولية سريعة ومكثفة عبر أكثر من محور.
بدايةً، تتسارع حالياً الجهود السياسية من أجل إنقاذ ليبيا. ولقد كانت الوساطة الفرنسية الأخيرة ناجحة إلى حد كبير، لا سيما إذا خلُصت الإرادات لجهة توحيد الجهود السياسية والعسكرية، ومن ثم السيطرة على البلاد والقضاء على التيارات المتطرفة التي ترفع السلاح، وإدماج المقاتلين غير الملوثة أياديهم بالدماء في صفوف القوات المسلحة الليبية.
وعلى جانب آخر، يلاحظ وجود اهتمام أممي جدي، هذه الأيام، بإقامة قواعد عسكرية في قلب أفريقيا، وعلى أطرافها من قبل الأقطاب الدولية. وكانت آخر هذه القواعد القاعدة الصينية في جيبوتي، حيث توجد في القارة السمراء اليوم أيضاً قواعد للولايات المتحدة وفرنسا وروسيا وبريطانيا، وكلها تتحسب للساعة التي ستغدو فيها أفريقيا مركزاً للإرهاب العالمي. وغني عن القول هنا إن الحضور الأميركي في أفريقيا، والقيادة الأميركية (أفريكوم)، على أتم الاستعداد لكل هذه السيناريوهات... ولكن مع ذلك تبقى مسألة مواجهة وحصار «القاعدة» أو «داعش» في أفريقيا مسألة صعبة ومعقدة.

إشكالية أفريقية مصدر الصعوبة والتعقيد نبحثه فيما يلي...
في أوائل شهر يونيو (حزيران) الماضي، تعهد الاتحاد الأوروبي بدفع مبلغ 50 مليون يورو لمساعدة دول منطقة الساحل في غرب أفريقيا على تشكيل قوة متعددة الجنسيات لمحاربة الجماعات المتطرفة.
يومذاك قال الاتحاد الأوروبي في بيان له على لسان مسؤولته للسياسة الخارجية فيدريكا موغيريني، إن دعم الاتحاد «سيساعد مجموعة الخمس لدول الساحل وهي تشاد والنيجر وبوركينا فاسو ومالي وموريتانيا على إنشاء قوة إقليمية».
بطبيعة الحال، لا تفعل أوروبا ذلك مجانًا، على الإطلاق. فأوروبا باتت تدرك أن المنطقة الشاسعة التي تشملها الدول الخمس السابقة الذكر، وكلها على تماس مع الصحراء الكبرى، أضحت تربة خصبة للجماعات المتطرفة التي ترتبط بـ«داعش» و«القاعدة»، التي تخشي أوروبا من تهديداتها إذا ما تُركت تتحرك بحرية. ومعروف أن فرنسا كانت قد تدخلت بالفعل في عام 2013 لطرد متطرفين كانوا قد سيطروا على شمال مالي قبل ذلك بسنة واحدة.
على أن الأمر ليس في غالبه مقاومة أو مكافحة عسكرية. ثم إنه ليس رصد أموال لتجهيزات عسكرية فقط... فالأوضاع البنيوية في أفريقيا مهيأة إلى الدرجة التي تسمح لـ«داعش» أو غيره بإحداث اختراقات. ذلك أن الأنسجة الاجتماعية منقسمة بل ومتشظية عرقياً ودينياً. والصراعات الحدودية بينها لا تزال تمثل «براميل بارود» قابلة للانفجار في أي لحظة. وعطفاً على ذلك فإن أفريقيا ودولها أصبحت أدوات للقوى الإمبراطورية الفاعلة عالمياً في «لعبة أمم» جديدة، وبذا تصبح أفريقيا قارة ملتهبة ومشتعلة، ما يسهل ومن جديد قبول أي وافد يمتلك آيديولوجيا أو عقيدة، فضلاً عن الأموال.
ختاماً، لا تبدو أزمة «داعش» في أفريقيا بعدُ واضحةَ المعالم، لا سيما أن الملفات المتصلة بالتنظيم في العراق وسوريا وليبيا ما زالت مفتوحة. أما المؤكد فقط فهو أن القرن الحادي والعشرين هو قرن القلاقل الناجمة عن الإرهاب، وليس قرن الحروب العالمية كما عهدناها في القرن الماضي.



دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو
TT

دوما بوكو... رئيس بوتسوانا «العنيد» يواجه تحديات «البطالة والتمرد»

دوما بوكو
دوما بوكو

لا يختلف متابعو ملفات انتقال السلطة في أفريقيا، على أن العناد مفتاح سحري لشخصية المحامي والحقوقي اليساري دوما بوكو (54 سنة)، الذي أصبح رئيساً لبوتسوانا، إثر فوزه في الانتخابات الرئاسية بنهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. «عناد» الرئيس الجديد قاده، وعلى نحو مذهل، لإزاحة خصمه الرئيس السابق موكغويتسي ماسيسي ومن خلفه حزب قويّ هيمن على السلطة قرابة 6 عقود مرّت على استقلال بوتسوانا. ويبدو أن وعورة طريق بوكو إلى الانتصار لن تحجب حقيقة أن وديعة الفقر والفساد والبطالة و«تمرّد الاستخبارات»، التي خلفها سلفه ماسيسي، ستكون أخطر الألغام التي تعترض مهمة بوكو، الذي دشّن مع بلاده تداولاً غير مسبوق للسلطة، في بلد حبيسة جغرافياً، اقترن فيها الفقر مع إنتاج الماس.

إلى جانب «العناد في ساحة القتال» والتواضع المُقترن بالثقة في النفس، يبدو أن رهان الانتصار للفقراء والطبقات الدنيا هو المحرّك الرئيسي في المسارات المتوقعة للرئيس البوتسواني الجديد دوما بوكو. وبالفعل، لم يبالغ الرئيس المنتخب في أول تصريحاته لوسائل الإعلام عندما خاطب شعبه قائلاً: «أتعهد بأنني سأبذل قصارى جهدي وعندما أفشل وأخطئ، سأتطلع إليكم للحصول على التوجيه».

هذه الكلمات قوبلت باهتمام واسع من جانب مراقبين، بعد أداء بوكو (54 سنة) اليمين الدستورية أمام حشد من آلاف من الأشخاص في الاستاد الوطني بالعاصمة خابوروني، في مراسم حضرها قادة مدغشقر، وناميبيا، وزامبيا وزيمبابوي، وبدأت معها التساؤلات عن مستقبل بوتسوانا.

من هو دوما بوكو؟

وُلد دوما جديون بوكو عام 1969، في قرية ماهالابي الصغيرة التي تبعد 200 كلم عن العاصمة خابوروني، وترعرع وسط أسرة متواضعة، لكن اللافت أنه كان «يتمتع بثقة عالية في النفس واحترام أهله وذويه في طفولته وصباه»، وفق كلام لأقاربه لوسائل إعلام محلية. وهذه الصفات الإيجابية المبكرة، اقترنت لدى الرئيس الجديد بـ«إيمان عميق بالعدالة»، وفق عمته، وربما أكسبته هذه الصفات ثقة زملاء الدراسة الذين انتخبوه رئيساً لاتحاد الطلاب في المدرسة الثانوية.

أكاديمياً، درس بوكو القانون في جامعة بوتسوانا، لكنه - بعكس أقرانه اليساريين في العالم - كان منفتحاً على إكمال دراسته القانونية في الولايات المتحدة، وبالذات في كلية الحقوق بجامعة هارفارد العريقة، حيث تشربت ميوله اليسارية بـ«أفكار ديمقراطية» انعكست على مستقبله السياسي. أما عن المشوار المهني، فقد ذاع صيت بوكو بوصفه أحد ألمع محامين بوتسوانا.

مشوار التغيير

نقطة التحول في رحلة الرئيس الجديد باتجاه القصر الرئاسي، بدأت بتوليه زعامة حزب «جبهة بوتسوانا الوطنية» عام 2010.

يومذاك، كانت «الجبهة» تتمسك بأفكار شيوعية تلاشت مع أفول شمس الإمبراطورية السوفياتية، إلا أن بوكو بحنكته وواقعيته، مال بها نحو اشتراكية «يسار الوسط». ولم يتوقف طموح بوكو عند هذه النقطة، بل خطا خطوة غير مسبوقة بتشكيله ائتلاف «مظلة التغيير الديمقراطي» عام 2012، وهو تحالف من الأحزاب المعارضة للحكومة بينها «الجبهة». وأطلق بهذا الائتلاف عملياً «شرارة» التغيير بعد إحباط طويل من هزائم المعارضة أمام الحزب الديمقراطي البوتسواني، المحافظ،، الذي حكم البلاد منذ استقلالها عن بريطانيا عام 1966.

طوال 12 سنة، لعب المحامي اليساري الديمقراطي بوكو دوراً حاسماً في قيادة الائتلاف، ولم ييأس أو يستسلم أو يقدم تنازلات على الرغم من الهزائم التي لحقت بالائتلاف.

وفي غمار حملة الدعاية بانتخابات الرئاسة البوتسوانية الأخيرة، كان المحللون ووسائل الإعلام منشغلين بانعكاسات خلاف قديم بين الرئيس (السابق) ماسيسي وسلفه الرئيس الأسبق إيان خاما، في حين ركّز بوكو طوال حملته على استقطاب شرائح من الطبقات الدُّنيا في بلد يفترسه الفقر والبطالة، وشدّدت تعهدات حملته الانتخابية عن دفاع قوي عن الطبقات الاقتصادية الدنيا في المجتمع وتعاطف بالغ معها.

ووفق كلام الصحافي إنوسنت سيلاتلهوا لـ«هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) كان بوكو «يناشد أنصاره الاقتراب من الناس والاستماع إلى شكاواهم». وبجانب أن أسلوب الرئيس الجديد - الذي استبعد الترشح لعضوية البرلمان) - كان «جذاباً وودوداً دائماً» مع الفقراء وطبقات الشباب، حسب سيلاتلهوا، فإن عاملاً آخر رجَّح كفّته وأوصله إلى سدة السلطة هو عودة الرئيس الأسبق خاما إلى بوتسوانا خلال سبتمبر (أيلول) الماضي من منفاه في جنوب أفريقيا، ليقود حملة إزاحة غريمه ماسيسي عبر صناديق الاقتراع.

انتصار مفاجئ

مع انقشاع غبار الحملات الانتخابية، لم يتوقع أكثر المتفائلين فوز ائتلاف بوكو اليساري «مظلة التغيير الديمقراطي» بالغالبية المطلقة في صناديق الاقتراع، وحصوله على 36 مقعداً برلماناً في انتخابات 30 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، مقارنة بأربعة مقاعد فقط للحزب الديمقراطي. وبالتالي، وفق دستور بوتسوانا، يحق للحزب الذي يسيطر على البرلمان اختيار الرئيس وتشكيل حكومة جديدة. ولقد خاضت 6 أحزاب الانتخابات، وتقدم أربعة منها بمرشحين لرئاسة الجمهورية، في حين سعى ماسيسي لإعادة انتخابه لولاية ثانية رئيساً للدولة.

تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة

مستويات عالية جداً من البطالة نسبتها 27.6 % فضلاً

عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 %

وبقدر ما كانت هذه الهزيمة صادمة للحزب الديمقراطي والرئيس السابق ماسيسي - الذي سارع بالاعتراف بالهزيمة في حفل التنصيب - فإنها فاجأت أيضاً بوكو نفسه، الذي اعترف بأنه فوجئ بالأرقام.

تعزيز العدالة الاجتماعية

لعل بين «أسرار» نجاح بوكو، التي رصدها ديفيد سيبودوبودو، المحلل السياسي والأستاذ في جامعة بوتسوانا، «بروزه زعيماً حريصة على تعزيز العدالة الاجتماعية». وفي مسار موازٍ رفعت أسهمه خبرته الحقوقية وخاصة حقوق قبيلة الباساروا (السان)، وهم السكان الأصليون في بوتسوانا، وفق موقع «أول أفريكا». هذا الأسبوع، دخلت وعود الرئيس الجديد محك التجربة في مواجهة مرحلة بلد يعاني مرحلة «شكوك اقتصادية»؛ إذ تكابد بوتسوانا التي يبلغ عدد سكانها 2.6 مليون نسمة، مستويات عالية جداً من البطالة تبلغ 27.6 في المائة، فضلاً عن معدلات فقر تقترب نسبتها من 38 في المائة، وفق أرقام رسمية واستطلاعات رأي. وخلص استطلاع حديث أجرته مؤسسة «أفروباروميتر» إلى أن البطالة هي مصدر القلق «الأكثر إلحاحاً» للمواطنين مقارنة بالقضايا الأخرى.

الأرقام السابقة تصطدم بوعود أعلنها بوكو برفع الراتب الأساسي وعلاوات الطلاب ومعاشات الشيخوخة، والاهتمام بشريحة الشباب، علماً بأن نحو 70 في المائة من سكان البلاد دون سن الـ35 سنة. ويتمثل التحدي الأكبر بتعهد الرئيس بـ«تنويع الاقتصاد» الذي يعتمد في 90 في المائة من صادراته على الماس. لذا؛ قال الباحث سيبودوبودو لموقع «أول أفريكا» شارحاً: «حكومة بوكو في حاجة إلى تحويل الاقتصاد بحيث يخلق فرص العمل، وهذا أمر صعب في خضم ركود سوق الماس، أكبر مصدر للدخل في البلاد». في المقابل، يرى المحلل السياسي ليسولي ماتشاشا أن الرئيس بوكو «شغوف بالمعرفة والتعليم، ولديه دائماً فهم جيد للشؤون والقضايا الداخلية الجارية في بوتسوانا... وكذلك فهو جاد في إصلاح البلاد».

... الدافع الحقوقي

وفي موازاة الهاجس الاقتصادي، يبدو أن الدافع الحقوقي سيشكل عنصراً مهماً في أجندة بوكو الرئاسية؛ إذ عبر في مقابلة مع «بي بي سي» عن عزمه منح إقامة مؤقَّتة وتصاريح عمل لآلاف المهاجرين الذين وصلوا خلال السنوات الأخيرة بشكل غير نظامي إلى البلاد من الجارة زيمبابوي. وفي معرض تبريره هذا القرار، أوضح بوكو: «إن المهاجرين يأتون من دون وثائق؛ ولذا فإنَّ حصولهم على الخدمات محدود، وما يفعلونه بعد ذلك هو العيش خارج القانون وارتكاب الجرائم». ثم تابع مستدركاً: «ما يجب علينا فعله هو تسوية أوضاعهم».

ترويض مديرية الاستخبارات

لكن، ربما تكون المهمة الأصعب للرئيس الجديد هي ترويض «مديرية الاستخبارات والأمن»، التي يرى البعض أنها تتعامل وكأنها «فوق القانون أو هي قانون في حد ذاتها».

وهنا يشير الباحث سيبودوبودو إلى تقارير تفيد بأن الاستخبارات عرقلت التحقيقات التي تجريها «مديرية مكافحة الفساد والجرائم الاقتصادية» في قضايا فساد، تتمثل في تربّح بعض أقارب الرئيس السابق من المناقصات الحكومية، وأنباء عن انخراط الجهاز الاستخباراتي في أدوار خارج نطاق صلاحياته، وتضارب عمله مع الشرطة ومديرية الفساد. «وبناءً على ذلك قد تبدو مهمة بوكو صعبة في إعادة ترتيب مؤسسات الدولية السيادية، علماً بأن (مديرية الاستخبارات والأمن) كانت مركز تناحر بين الرئيس السابق وسلفه إيان خاما، كما أن المؤسسات التي كان من المفترض أن توفر المساءلة، مثل (مديرية مكافحة الفساد) والسلطة القضائية، جرى إضعافها أو تعريضها للخطر في ظل صمت الرئيس السابق».أخيراً، من غير المستبعد أن يفرض سؤال محاكمات النظام السابق نفسه على أجندة أولويات الرئيس الجديد، وفق متابعين جيدي الاطلاع، مع الرئيس السابق الذي لم يتردد في الإقرار بهزيمته. بل، وأعلن، أثناء تسليم السلطة، مجدداً أن على حزبه «التعلم الآن كيف يكون أقلية معارضة».