مقاهي القاهرة... سهر وسمر وقوة محركة للتاريخ منذ قديم الزمن

أبدع الراحل صلاح جاهين مؤلف «أوبريت الليلة الكبيرة» في مصر، شاعر ورسام كاريكاتير وممثل مصري، في وصف أجواء المقاهي المصرية الشعبية، ونقتطف من نداءاته «واحد مضبوط واتنين مصري»... القهوجي «ع النار حاضر جاي لك دغري»... «هات شاي يا دقدق»... القهوجي «عيني وراسي».
يدخل الرّيس حنتيرة مغني القهوة الصعيدي... الجميع «سمّعنا يا ريس حنتيرة للصبح معاك السهيرة»... المعلم «وقّف يا ريس حنتيرة، فيه ناس قاعدة كتيرة ولا حد قال هات تعميره ولا واحد شاي....آه إللى حيطلب يقعد ولا ما يطلبش يبعد».
ولا يزال دقدق وغيره من القهوجية يجيئون ويذهبون لتلبية طلبات الزبائن ممن يسهرون في مقاهي القاهرة حتى طلوع الفجر، وحسب قول جاهين فالزبون لا بدّ أن يطلب، وفي معظم المقاهي، لو كان الزبون سائحا فإنه يدفع مضاعفا أو سعرا استثماريا، وهناك فرصة للمفاصلة في الأسعار، خصوصا في غياب قائمة طلبات مسعرة.
مشهد رسمه جاهين، بدقّة صوّر فيه حال المقاهي المصرية والحركة الدائمة، يجسّد ما كانت عليه المقاهي المصرية منذ زمن، وكيف استمرت على هذا النحو حتى اليوم، مكان تعلو فيه أصوات الزبائن بالطلبات ويؤمه كثيرون للسهر والتسلية، حركة لا تتوقف.
هذا الصيف، يعتبر السائح مصدر رزق واسع، فالدولار أوشك على بلوغ الـ20 جنيها مصريا، أما اليورو فقد تعدى الـ20، والسياح في مقدمة الساهرين، وأمسيات القاهرة حيث يصفو الطقس ويلطف، قوة جذب لا تقاوم.
وكما تفيض القاهرة بالأسواق العتيقة ومراكز التسوق الحديثة المغلقة، والبرامج الثقافية والدينية والمكتبات، فهي تتميّز أيضا بالمقاهي التقليدية العريقة بتاريخها، إلى جانب أخرى حديثة تفتح أبوابها لجميع الشباب والعائلات ولساعات متأخرة.
وحسب ما يحكي أهل القاهرة، فإن المقاهي الشعبية بدأت قبل قرون بتقديم «مشاريب» القرفة والزنجبيل والكركديه، لتتبعها القهوة والبن بنكهاته، أو البهارات التي تضاف لإكساب فنجان القهوة نكهة مميزة.
تنوعت طلبات القهوة، فهناك قهوة «ع الريحة»، وتقدم بنصف ملعقة قهوة مع سكر خفيف، لا يزيد على نصف ملعقة، يضاف للماء أولا. وقهوة «مظبوطة»، أي ملعقة مليئة بالسكر مقابل أخرى من البن. وقهوة «مانو» بين الاثنتين السابقتين، وهناك من يطلب قهوة «سكر زيادة» أو «ماهياتي»، بالإضافة إلى طلبات أخرى حسب الكيف والمزاج.
يشهد التاريخ المصري للمقاهي مكانة ليست اجتماعية أو ترفيهية فحسب، بل سياسية محسوسة، ولا سيما تلك المقاهي العريقة وأخرى حديثة لعبت أدوارا وأهمية لا تُنكر جعلتها بمثابة قوة محركة للتاريخ منذ قديم الزمن.
وفي هذا السياق كتب الأديب أحمد بهاء الدين في مؤلفه «أيام لها تاريخ»، أن جمال الدين الأفغان، كان في المقهى يوزع بيمينه السعوط وبيساره الثورة.
إبان التغيرات السياسية والثورات التي شهدتها مصر، شكّلت بعض المقاهي ملاجئ آمنة، سواء لمناضلين ضد الاستعمار أو ضد حكام طغاة، وذلك على الرغم من الرقابة الخفية التي فرضها السلطات أجنبية كانت أم وطنية، لإيمانها بأن المقهى ليس مجرد مكان لارتشاف فنجان قهوة أو كأس شاي، وإنما بوتقة لقياس الرأي العام، تعكس نقاشاتها وآراءها عما كان يفكر فيه الشارع المصري، وبالطبع للاستخبارات ملفات تختص بالمقاهي؛ كونها أوسع أماكن التجمعات لمختلف الطبقات.
مما يجدر ذكره، أن المقاهي المصرية الشعبية أكثر ما تقدم الشاي بالنعناع المحلي، باعتباره عشقا مصريا خالصا يسبق شرب القهوة.
وللشاي في المقاهي أكثر من اسم ولون ولقب، وهناك على سبيل المثال، شاي كشري وشاي طيارة وشاي صعيدي وشاي على المياه البيضاء وشاي سكر برا. وترجع المسميات في الأغلب لكمية السكر المضاف للماء أو «التلقيمة» مقارنة بكمية الشاي ودرجة غليانه، وبالتالي لونه وثقل طعمه.
بعيدا عن المقاهي العريقة مصرية النكهة والأجواء والديكور والمشاريب، يلحظ زائر القاهرة الكمّ الهائل لمقاهٍ غربية الطابع مشيّدة في دور حديثة البنيان والأجواء والإضاءة، وبالطبع المعروضات وما يتبع ذلك من خدمات وطرق إدارة أبعد ما تكون عن المعلم والصبي وأصوات الزبائن والضجة.
تفيض المقاهي الحديثة بأنواع من الشاي الأسود والأخضر وحتى خاطف ألوان يقدّم في طقم صيني أو أكواب كبيرة الحجم، كما تقدم أنواع من القهوة إيطالية الأصل مثل الكابتشينو والاسبريسو والكفلاتا والقهوة الأميركية، وغالبا ما يطلب الزبون شيئا من الحلويات الأجنبية معها، كالـ«تشيز كيك» و«الكرواسان» و«الدونات»، وغيرها من المخبوزات التي شاعت مع العوملة.
وحسب ما قالته سيدات من سكان القاهرة التقتهن «الشرق الأوسط»، فإن المقاهي الجديدة بما توفره من أجواء مريحة وبما تقدمه من أطعمة ووجبات، أضحت أكثر جذبا حتى للأزواج ممن أمسوا يفضلونها على البقاء في المنازل بصحبة الزوجة والأطفال ويتوجهون إليها من مقار عملهم مباشرة ويظلّون بها حتى ساعات متأخرة. في حين يجد شباب وشابات أن هذه المقاهي تعتبر بما توفره من أطعمة ومشروبات، بالإضافة إلى التكييف وخدمة الـ«واي فاي» مجانا، حلا أمثل وعمليا لاكتظاظ الأحياء السكنية والبيوت؛ مما يساعد على تنظيم لقاءات عمل، ناهيك عن جلسات حميمية تجمع الأحباء والأصدقاء والمعارف.
أيا كان الرأي، تظل المقاهي بمثابة مسرح مفتوح، يعكس الكثير من معالم الحياة اليومية المصرية. ومن أشهرها ذلك المقهى الذي يتوسع ليلا ويتمدّد في الفسحة ما بين جامع الأزهر وجامع الحسين حيث يكتظ الزوار من أهل البلد ومن السياح، وتعلو فيه الأصوات متداخلة مع حركة الباعة المتجولين الذين يعرضون مختلف البضائع الخفيفة كالسبح ومراوح اليد، بل وحتى بضائع ثقيلة، ومنها سجاجيد ومرايا وكتب.
وعلى الرغم من أن المكان يموج ضجيجا لدرجة الإحساس بالإزعاج، فإن الزائر بعد فترة يحس بالراحة، مستمتعا بما يدور من حوله، بل وقد يطلب مغنيا من المغنيين الجوالة ليجلس قبالته ويغني له أغاني شعبية مرحة، ليكمل بعدها سهرته بجولة داخل أزقة خان الخليلي، ثم شارع المعز مع وقفة بمقهى أم كلثوم، حيث لا تزال «الست» تصدح بأروع أغانيها عبر شاشة ضخمة، بالقرب منها تمثالان لها وهي ممسكة بمنديلها الشهير لالتقاط «سيلفي» لا يعوض.