«دم التفاح» شعر امرأة ترتكب الحرية

مجموعة أولى للشاعرة التونسية رفيقة المرواني

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة
TT

«دم التفاح» شعر امرأة ترتكب الحرية

غلاف المجموعة
غلاف المجموعة

حزينة بلا حزن صريح، وعاشقة من دون صراخ، إذ ثمة الإشارات أصوات والأصوات إشارات، وحيدة عند احتشاد العالم المشغول بنومه وأرباحه.
قصيدة التونسية رفيقة المرواني ابتهالات خائبة فهي تنصب الفخاخ لقارئها ليشاركها الخيبة، أو تجليات الخسارة حتى البكاء، فخواتيم قصائدها انتقال غير متوقع بعد أن أسرفت في المضي إلى طريق متوقع سرعان ما ينتهي إلى اللامتوقع، وهذا ما يجذبنا في تجربتها الشعرية المبكرة «دم التفاح». (دار «فضاءات للنشر والتوزيع» 2017).
«أمزج الطين بماء القصيد/ أغوص في عمق العتمة/ أبتلع محار الضوء/ أصير عروساً/ تهم بقميص التراب/ وتبكي».
في المقطع أعلاه زخارف بلاغية تدخل في عمارة النص، لكن هذه العمارة سرعان ما تنهار، بقصد تقني، ليقع قارئها في هاوية الحفرة/ الكلمة الأخيرة: «وتبكي»، ذلك أن التمهيدات الأولية تشي باتجاه آخر: مزج الطين بالتراب والغوص في عمق العتمة لتبتلع محار الضوء فتصير عروساً (هنا ثمة وثبة خارج الصدد ستتبعها أخرى للفت انتباه القارئ إلى جانب الطريق): «تهم بقميص التراب» عبر استعارة لغوية هي الأخرى خارج نسيج النص حتى الختام المباشر للحزن بأشد تعابيره صلابة ومباشرة: «وتبكي».
تأتي قصيدة المرواني على شكل اعتراف في تحوّلها من عاشقة «ساذجة» إلى «ذئبة»، لكأنها تستقطب كل ما يمت إلى الدفاع عن «العشق» وهو هنا خائب أيضاً، فالبداية هو «عطركَ» الذي تسبب في هذه الوحشية كلها، وكان يمكن أن يمضي الغزل على خطى الشاعرات الرومانسيات، ليكتفي بعرض الأشواق قبيل الغروب ويستمر حتى القمر فوق ذوبان شمعة، مثلاً، كما ديدن كثير من الشعراء القدامى والشباب اليوم، لكن المرواني «تعترف» بحبها الفروسي وتوهجها الوحشي المتعطش للدماء بسبب «عطركَ»:
«عطرك/ يوقد عطشي للدماء/ ينبت لي مخالب وأنياباً/ أغرسها في عنقك (...) أنا المشوهة بكل هذا القبح/ الوحش/ الذي قتل أناي الساذجة/ جعلني ذئبة».
إذا افترضنا أن الشعر شكل من أشكال ردة الفعل، فقيمة كل قصيدة تتأتى من طريقة النظر إلى ما يحدث من حولنا (الفعل)، ثم تنبثق لحظة القصيدة كموقف شعري من العالم (ردة الفعل)، وما اختلاف ردات الفعل إلا ما يميز بين الشعراء حسب حساسية كل منهم وخياره اللغوي (وسائر أدواته الشخصية) عند التعبير عما يحدث.
هي نوبة توحش ذئبي بسبب «عطرك» الذي جعلته الشاعرة ذريعة مقنعة بما هو غير مقنع، لكن من يمتلك القدرة على اكتشاف (المقنع وغير المقنع) في اللعبة الشعرية الغامضة، غير المسلية.
في قصيدتها القصيرة (عشر كلمات) نجد أن تلك «الذئبة» قد تحولت إلى «دمية». أقول تحولت وأعني انتقلت، فالتحول ما يحدث من حال إلى حال. هي الآن حال أخرى، فالتنوع يأتي هنا في نص آخر، مختلف، وهذا أمر طبيعي، إذ إن الشاعر فكرة ليست نمطية تسير على سكة قطار، بل هو مجموع تحولاته وتنوعاته حتى داخل النص الواحد.
«بعضهم يظل/ في الذاكرة/ كندبة غائرة/ صالحة لدفن دمية مكسورة».
حرية داخلية
القصائد القصار جداً غالباً ما تكون أصعب من الطوال عند الشعراء، فالقصيدة القصيرة (لا أتفق مع توصيفها بالومضة الشعرية، كما تجري العادة هذه الأيام) تشترط ذكاءً فنياً خاصاً، وقدرة على المحو والشطب والاختزال، وهذه وحدها تتطلب جهداً فنياً مضاعفاً، على خلاف القصيدة الطويلة، المنفتحة على الإطناب، حيث تكون احتمالات التمدد كاحتمالات التقلص، كلها واردة، فهي تقول: «لا أقوى على الركض. ترهقني النصوص الطويلة، أتعثر في حبل الحكاية».
قصيدة النثر أصبحت «محرجة»، لأنها صارت نصاً يصعب الإمساك به وتحديد خطوطه وتذوق لذته التي «تومض» في ومضة شعرية سرعان ما تتلاشى، في كثير من نصوص الشبان، من الجنسين، ونادراً ما نعثر على تلك القصيدة التي تتكثف، عميقاً، وتغور مثل جرح، حيث الجراح الغائرة أكثر وجعاً من تلك «الخدوش» مهما انتشرت على جلد الورقة.
لكن قصيدة المرواني تتيح أكثر من سبب لتجعل قارئها شريكاً بالوحدة التي هي مسافة تأمل.
الحب، لدى صاحبة «دم التفاح» أسلوب لممارسة حريتها الداخلية بجرأة أنثى صادقة، تتخطى الألغام والمفارز الحارسة للأخلاق المزيفة، فثمة «إيروتيكا» ضمن بنية الحالة الشعورية داخل القصيدة، ليست مقصودة بذاتها، ولا لذاتها، إنما هي من بين عناصر النص المتعددة أثناء الكتابة، كضرورة من ضرورات البناء العاطفي واللغوي، حيث الرجل شريكاً، مخاطباً أو غائباً، حتى النساء، شريكات في البلوى: «في الرعشة القصوى/ كلهن غريقات يردن الخلاص/ يجدفن نحو عطش أعلى/ مما تطاله شهقاتهن»، أو: «النسوة اللاتي ينزلن في أواخر الليل/ ليتحلقن حول بئر قديمة/ لا يبحثن عن الماء/ بل يحاولن استرجاع/ ألسنتهن الصفراء/ المدفونة هناك/ ألسنة خائفة/ تخشى فضح سر الهاوية/ فلا تنطق سوى بالبلل».
قصيدة المرواني حزينة حتى لو لم تقل إنها «حزينة» ومجال شخصي لارتكاب الحرية، وصوت عشق خافت، مهما علا الضجيج، يجبر القارئ على الإنصات.



أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
TT

أسود منمنمة من موقع الدُّور في أمّ القيوين

أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان
أسود عاجية ونحاسية من موقع الدُّوْر في إمارة أم القيوين، يقابلها أسد برونزي من موقع سمهرم في سلطنة عُمان

خرجت من موقع الدُّور في إمارة أم القيوين مجموعة كبيرة من اللقى الأثرية المتنوّعة، تعود إلى حقبة تمتد من القرن الأول ما قبل الميلاد إلى القرن الثاني للميلاد. كشفت أعمال التصنيف العلمي الخاصة بهذه اللقى عن مجموعة من القطع العاجية المزينة بنقوش تصويرية، منها عدد كبير على شكل أسود تحضر في قالب واحد جامع. كذلك، كشفت هذه الأعمال عن مجموعة من القطع المعدنية النحاسية المتعدّدة الأحجام والأنساق، منها 4 قطع على شكل أسود منمنمة، تحضر كذلك في قالب ثابت.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية، وتنقسم حسب نقوشها التصويرية إلى 3 مجموعات، فمنها ما يمثّل قامات أنثوية، ومنها ما يمثّل قامات آدمية مجرّدة يصعب تحديد هويتها الجندرية، ومنها ما يمثّل بهائم من الفصيلة السنورية. تزين هذه البهائم قطع يتراوح حجمها بين 3 و4.5 سنتيمترات عرضاً، حيث تحضر في تأليف تشكيلي ثابت، مع اختلاف بسيط في التفاصيل الجزئية الثانوية، ويوحي هذا التأليف بشكل لا لبس فيه بأنه يمثّل أسداً يحضر في وضعية جانبية، طوراً في اتجاه اليمين، وطوراً في اتجاه اليسار. يغلب على هذا الأسد الطابع التحويري الهندسي في تصوير سائر خصائصه الجسدية، من الجسم العضلي، إلى الرأس الكبير، إلى الأرجل الصغيرة. نراه فاتحاً شدقيه، رافعاً قائمتيه الأماميتين، وكأنه يستعدّ للقفز، ويظهر ذيله من خلفه وهو يلتف ويمتد إلى أعلى ظهره.

ملامح الوجه ثابتة لا تتغيّر. العين دائرة كبيرة محدّدة بنقش غائر، يتوسّطها ثقب يمثّل البؤبؤ. الأذنان كتلتان مرتفعتان عموديتان، والأنف كتلة دائرية موازية. فكّا الفم مفتوحان، ويكشفان في بعض القطع عن أسنان حادة مرصوفة بشكل هندسي. تحدّ الرأس سلسلة من النقوش العمودية المتوازية تمثل اللبدة، وهي كتلة الشعر الكثيف الذي يغطي الرقبة. يتكون الصدر من كتلة واحدة مجرّدة، تعلوها سلسلة من النقوش الغائرة تمثل الفراء. يتبنى تصوير القائمتين الخلفيتين نسقين متباينين؛ حيث يظهر الأسد جاثياً على هاتين القائمتين في بعض القطع، ومنتصباً عليها في البعض الآخر. في المقابل، تظهر القائمتان الأماميتان ممدّدتين أفقياً بشكل ثابت. أرجل هذه القوائم محدّدة، وهي على شكل كف مبسوطة تعلوها سلسلة من الأصابع المرصوفة. الذيل عريض للغاية، وتعلو طرفه خصلة شعر كثيفة تماثل في تكوينها تكوين أرجله.

عُثر على سائر هذه القطع العاجية في قبور حوت مجموعة كبيرة من اللقى شكّلت في الأصل أثاثها الجنائزي. للأسف، تبعثر هذا الأثاث، وبات من الصعب تحديد موقعه الأصلي. كانت القطع العاجية مثبّتة في أركان محدّدة، كما تؤكد الثقوب التي تخترقها، غير أن تحديد وظيفتها يبدو مستحيلاً في غياب السند الأدبي الذي من شأنه أن يكشف عن هذه الوظيفة الغامضة. تحضر الأسود إلى جانب القامات الآدمية، والأرجح أنها تشكّل معاً علامات طوطمية خاصة بهذه المدافن المحلية.

تمثّل القطع العاجية تقليداً فنياً شاع كما يبدو في شمال شرقي شبه الجزيرة العربية

إلى جانب هذه القطع العاجية، يحضر الأسد في 4 قطع معدنية عُثر عليها كذلك ضمن أثاث جنائزي مبعثر. تعتمد هذه القطع بشكل أساسي على النحاس، وهي قطع منمنمة، تبدو أشبه بالقطع الخاصة بالحلى، واللافت أنها متشابهة بشكل كبير، ويمكن القول إنها متماثلة. حافظت قطعتان منها على ملامحها بشكل جلي، وتظهر دراسة هذه الملامح أنها تعتمد نسقاً مميزاً يختلف عن النسق المعتمد في القطع العاجية، بالرغم من التشابه الظاهر في التكوين الخارجي العام. يحضر هذا الأسد في كتلة ناتئة تبدو أشبه بالقطع المنحوتة، لا المنقوشة، ويظهر في وضعية جانبية، جاثياً على قوائمه الـ4، رافعاً رأسه إلى الأمام، ويبدو ذيله العريض في أعلى طرف مؤخرته، ملتفاً نحو الأعلى بشكل حلزوني. العين كتلة دائرية ناتئة، والأذن كتلة بيضاوية مشابهة. الفكان مفتوحان، ممّا يوحي بأن صاحبهما يزأر في سكون موقعه. اللبدة كثيفة، وتتكون من 3 عقود متلاصقة، تحوي كل منها سلسلة من الكتل الدائرية المرصوفة. مثل الأسود العاجية، تتبنى هذه الأسود المعدنية طابعاً تحويرياً يعتمد التجريد والاختزال، غير أنها تبدو أقرب من المثال الواقعي في تفاصيلها.

يظهر هذا المثال الواقعي في قطعة معدنية من البرونز، مصدرها موقع سمهرم، التابع لمحافظة ظفار، جنوب سلطنة عُمان. عُثر على هذه القطعة في ضريح صغير يعود إلى القرن الأول قبل الميلاد، واللافت أنها وصلت بشكلها الكامل، وتتميز بأسلوب يوناني كلاسيكي يتجلّى في تجسيم كتلة الجسم وسائر أعضائها. يظهر الأسد واقفاً على قوائمه الـ4، مع حركة بسيطة تتمثل في تقدم قائمة من القائمتين الأماميتين، وقائمة من القائمتين الخلفيتين، وفقاً للتقليد الكلاسيكي المكرّس. يحاكي النحات في منحوتته المثال الواقعي، وتتجلّى هذه المحاكاة في تجسيم مفاصل البدن، كما في تجسيم ملامح الرأس، وتبرز بشكل خاص في تصوير خصلات اللبدة الكثيفة التي تعلو كتفيه.

يبدو هذا الأسد تقليدياً في تكوينه الكلاسيكي، غير أنه يمثّل حالة استثنائية في محيطه، تعكس وصول هذا التقليد في حالات نادرة إلى عمق شمال شرقي شبه الجزيرة العربية.