تركيا: محاكمة صحافيي «جمهوريت» تثير موجة جديدة من القلق

انطلقت في إسطنبول، أمس، محاكمة 17 من الصحافيين والمسؤولين في صحيفة «جمهوريت» التركية، والذين وجه إليهم الادعاء العام تهم دعم والترويج لمنظمة إرهابية دون أن يكونوا أعضاء فيها، لتضاف هذه المحاكمة إلى الكثير من القضايا تتعلق بحرية الصحافة والتعبير التي تواجه الحكومة التركية بسببها انتقادات داخلية وخارجية واسعة.
وتجمع مئات من نواب حزبي الشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي المعارضين والناشطين الحقوقيين والمواطنين من قراء الصحيفة، التي تعد أحد الأصوات القليلة المعارضة في تركيا، أمام القصر العدلي في منطقة تشاغليان في إسطنبول وأمام مقر الصحيفة نفسها في حي بيشكتاش للاحتجاج على محاكمة الصحافيين والمسؤولين بها، مرددين أن «الصحافة ليست جريمة».
ويطالب الادعاء بعقوبات تتراوح بين السجن 7 سنوات ونصف السنة، و43 سنة للعاملين في الصحيفة، وبينهم عدد من أشهر الصحافيين في تركيا، اتهموا باستهداف الرئيس رجب طيب إردوغان «بوسائل حرب غير متكافئة».
ومن الأسماء المعروفة في الأوساط الإعلامية والسياسية والشعبية في تركيا، من بين الخاضعين للمحاكمة الكاتب قدري غورسال، ورئيس التحرير مراد صابونجو، إضافة إلى رسام الكاريكاتير موسى كارت، والكاتب الصحافي الاستقصائي أحمد شيك، المعروف خصوصا بكتابه الذي نشر عام 2011 تحت عنوان «جيش الإمام» الذي كشف فيه مدى قوة القبضة التي كانت لدى حركة الخدمة التابعة لفتح الله غولن، المتهم بتدبير محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا العام الماضي، على الدولة التركية.
ومن بين المتهمين السبعة عشر، يحاكم 11 منهم وهم رهن الحبس الاحتياطي، بمن فيهم غورسال وصابونجو وكارت وشيك، بينما الستة الآخرون خارج السجن لكنهم يخضعون للإشراف القضائي.
وبالإضافة إلى ذلك، يحاكم غيابيا رئيس تحرير الصحيفة السابق جان دوندار الذي فر إلى ألمانيا، حيث حكم عليه بالسجن لمدة خمسة أعوام وعشرة أشهر على خلفية تقرير في الصفحة الأولى اتهم فيه الحكومة التركية بإرسال أسلحة إلى سوريا في القضية المعروفة باسم «شاحنات المخابرات». وحكم في هذه القضية بالسجن المؤبد في 14 يونيو (حزيران) الماضي على نائب حزب الشعب الجمهوري أنيس بربر أوغلو، بتهمة إفشاء أسرار الدولة بغرض التجسس السياسي أو العسكري، بعد أن سلّم الصحيفة نفسها مقاطع فيديو تظهر عمليات نقل أسلحة إلى تنظيم داعش في سوريا من خلال 3 شاحنات ترافقها عناصر من المخابرات التركية، أوقفت في أضنة جنوب تركيا في 19 يناير (كانون الثاني) عام 2014. وقالت الحكومة آنذاك إنها كانت تنقل مساعدات طبية إلى التركمان في شمال سوريا، وإن حركة غولن دبرت عملية التوقيف بهدف إحداث اضطراب في البلاد والإطاحة بالحكومة التي كان يترأسها إردوغان في ذلك الوقت، ونشرت الصحيفة هذه المقاطع في مايو (أيار) 2015.
وقضى المحبوسون من صحافيي وإداريي صحيفة «جمهوريت» 267 يوما في السجن، باستثناء أحمد شيك الموقوف منذ 206 أيام، وظلت الصحيفة منذ اعتقالهم تخصص مساحات بيضاء في مكان أعمدتهم.
وجاء في لائحة الاتهام الواقعة في 324 صفحة أن جماعة غولن، المقيم في بنسلفانيا بالولايات المتحدة منذ عام 1999، سيطرت بشكل فعال على صحيفة «جمهوريت»، وتم استغلالها «للتغطية على أعمال الجماعات الإرهابية». ووصفت الصحيفة التهم بأنها «اتهامات وهمية وتشهير».
وتشكل التدوينات على تطبيقات التواصل الاجتماعي الجزء الأكبر من الأدلة التي استندت إليها لائحة الاتهام، إضافة إلى مزاعم بأن المتهمين كانوا على اتصال بمستخدمي تطبيق «بايلوك» للرسائل المشفرة، الذي تقول الحكومة إن أتباع غولن كانوا يستخدمونه للتواصل فيما بينهم.
وتتضمن لائحة الاتهامات أيضا بدعم حزب العمال الكردستاني، وحزب جبهة التحرير الشعبي الثوري، وحركة غولن التي تسميها الحكومة «منظمة فتح الله غولن الإرهابية».
وقد عرفت الصحيفة، التي تأسست عام 1924، بعد عام واحد من تأسيس الجمهورية التركية، بهجومها وانتقاداتها للمجموعات الثلاث.
وتشير لائحة الاتهامات إلى أن «جمهوريت» أطلقت عملية تهدف إلى بدء «حرب غير متكافئة» ضد إردوغان وكتابة أخبار تخدم «المناورة الانفصالية». وخلال جلسة أمس، طالب رئيس تحرير «جمهوريت» بتأجيله حتى 25 يوليو (تموز)، مشيرا إلى أنه تمت مصادرة بعض وثائقه وتقارير صحفته، ثم قبلت المحكمة طلبه.
وفي الوقت نفسه، قال غورسال إن الادعاءات المتعلقة بعلاقته مع حركة غولن، لا أساس لها، وإنه لم يرد على أي مكالمات أو رسائل من المنظمة.
ووصف المدير التنفيذي للصحيفة أكن أتالاي التحقيق في الصحيفة بأنه «جريمة قتل قانونية كاملة»، مشيرا إلى أن الهدف كان إما إسكات الصحيفة أو الاستيلاء عليها، مشيرا إلى أن الصحيفة ليست لها علاقة بأي تنظيمات أو جماعات تغلغلت في مؤسسات الدولة، وتعهد بمواصلة نضالها من أجل القيام بالصحافة حتى النهاية.
وتخشى المعارضة التركية من استغلال السلطات حالة الطوارئ المفروضة عقب محاولة الانقلاب الفاشلة لملاحقة كل من يتحدى إردوغان. وقالت فيليز كيريتجي أوغلو، النائبة بالبرلمان عن حزب الشعوب الديمقراطي المعارض، والتي وجدت أمام المحكمة: «وفقا للحكومة كل من في المعارضة إرهابي... هم فقط (الحكومة) ليسوا إرهابيين».
وينتقد حلفاء تركيا في الغرب تدهور وضع حقوق الإنسان والحريات في تركيا، بعد أن تم حبس أكثر من 50 ألفا وفصل أكثر من 155 ألفا من أعمالهم في مختلف أجهزة ومؤسسات الدولة منذ محاولة الانقلاب.
وقالت نقابة الصحافيين الأتراك إن السلطات أغلقت نحو 150 وسيلة إعلامية، وسجنت نحو 160 صحافيا ضمن هذه الحملة التي تسببت في توتر العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي، إلا أن رد فعل الاتحاد كان محدودا نظرا لاعتماده على أنقرة في كبح تدفق المهاجرين واللاجئين إلى أوروبا.
وتتزامن محاكمة صحافيي ومسؤولي صحيفة «جمهوريت» مع تصاعد أزمة جديدة بين تركيا وألمانيا بسبب اعتقال 10 حقوقيين، بينهم ألماني في 5 يوليو الجاري اتهمهم إردوغان بالتخطيط لمحاولة انقلاب جديدة ووجه لهم الادعاء العام تهم دعم الإرهاب.
وعززت ألمانيا ضغوطها في الأيام الأخيرة، وهددت بإجراءات تعطل الاستثمار الألماني في تركيا وبمراجعة طلبات أنقرة المتعلقة بصفقات السلاح.
وينظر إلى المحاكمة على أنها اختبار لحرية الصحافة في تركيا، التي حلّت في المرتبة 155 في آخر مؤشر لمنظمة «مراسلون بلا حدود» المتعلق بحرية الصحافة في العالم، أي بعد بيلاروسيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
وتقول مجموعة «بي24» لحرية الصحافة، إن هناك 166 صحافيا يقبعون في السجون التركية، اعتقل معظمهم في ظل حالة الطوارئ. إلا أن إردوغان يقول إن هناك «صحافيين حقيقيين اثنين فقط» خلف القضبان في تركيا، والباقون متورطون في الإرهاب.
ويرى قراء صحيفة «جمهوريت» أن الاتهامات الموجهة ضد العاملين فيها تهدف فقط إلى تكميم أفواههم وتضييق الخناق على صحيفتهم. واعتبر أمين عام منظمة «مراسلون بلا حدود»، كريستوف دلوار، أن «الصحافة التركية بأسرها وليست فقط (جمهوريت) هي التي تحاكم» قائلا إن «الصحافيين يعاملون مجددا كإرهابيين لقيامهم بوظيفتهم».
وقالت مجموعة العمل حول الاعتقال التعسفي التابعة للأمم المتحدة الشهر الماضي إن اعتقال العاملين في «جمهوريت» كان تعسفيا، داعية إلى الإفراج الفوري عنهم ومنحهم حق الحصول على تعويض لأن سجنهم «ناتج عن ممارستهم لحقوقهم وحرياتهم»، معربة عن قلقها بشأن «ضبابية» الاتهامات الموجهة إليهم المتعلقة بدعم مجموعات إرهابية
من جانبه، قال هارلم ديسير ممثل منظمة الأمن والتعاون في أوروبا، المعني بحرية الإعلام، إن بدء المحاكمة ضد الصحافيين وأعضاء مجلس إدارة صحيفة «جمهوريت» يسلط الضوء على الحاجة الملحة لحماية الصحافة وتحسين حرية الإعلام في تركيا. وأضاف في بيان: «سوف أتابع عن كثب الإجراءات التي بدأت صباح اليوم (أمس) في إسطنبول ضد 17 صحافيا، ومحررا وأعضاء في مجلس إدارة جمهوريت، بمن فيهم جان دوندار وقدري غورسال ومراد صابونجو وأحمد شيك.. الصحافة تلعب دورا أساسيا في النهوض بالديمقراطية. ولذلك، فإنني أدعو تركيا إلى إسقاط التهم والإفراج عن جميع الصحافيين الذين سجنوا بسبب عملهم وبدء الإصلاحات السياسية التي تشتد الحاجة إليها لحماية حرية الإعلام في البلاد».