«2020»... رؤية استشرافية للإرهاب

عودة الدواعش في حسابات الاستخبارات الكندية والأوروبية

عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)
عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)
TT

«2020»... رؤية استشرافية للإرهاب

عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)
عبد القادر مشاريبوف منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول أثار الرعب في جميع أنحاء أوروبا («الشرق الأوسط»)

قبل أيام معدودات كانت القيادة العراقية تعلن تحرير مدينة الموصل تماماً من سيطرة «داعش»، إذ لم يبقَ أي حي يسيطر عليه التنظيم، ولم يعد أمام مسلحيه أي خيار سوى الاستسلام. ومع النجاح الكبير لتحرير الموصل، تتبقى معركة الرقة التي يتهيأ لها العالم برمته ومع ذلك تبقى علامة الاستفهام... هل هذا يعني القضاء على «داعش» نهائياً؟
ويرى كبير الباحثين في معهد الاستشراق الروسي فلاديمير سوفتيكوف، أن «تحرير الموصل نجاح كبير نعم، لكن (داعش) احتفظ بمفارز قتالية انتشرت وتفرقت بعد حصار الموصل، وهذه المفارز تنتقل إلى سوريا وتنتقل بعد تحرير الرقة إلى مناطق أخرى». من بين الأماكن المهددة من جراء فلول «داعش» ومريديه، تبقى القارة العجوز «أوروبا» التي يخشى الأوروبيون من أنها ستكون هدفاً قريباً للدواعش، لا سيما بعد خيبات الأمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وخصوصاً ليبيا.
في منتصف شهر يونيو (حزيران) الماضي كانت وكالة تطبيق القانون الأوروبية (يوروبول) تصدر تقريراً حذرت من خلاله من تغير استراتيجية تنظيم «داعش» في مهاجمة الدول الأوروبية وسلطت الوكالة الأوروبية الضوء على بدء اعتماد «داعش» على تجنيد أشخاص أصغر سناً وفتيات، وإمكانية استخدام الطائرات اللاسلكية في تنفيذ هجمات إرهابية.
تقرير «يوروبول» يشير إلى أن «داعش» حالياً يستهدف الشباب الذين تقل أعمارهم عن 25 عاماً والفتيات، بشكل أكبر، من أي وقت مضى، وحذرت وكالة تطبيق القانون الأوروبي في تقريرها من الأسوأ الذي لم يأتِ بعد، ويمكن أن يصل إلى استخدام «داعش» مواد مشعة نووياً، وأسلحة كيماوية وبيولوجية.
بيانات التقرير لم تتأتَ من فراغ وإنما تم التوصل إليها، وخصوصاً ما يتعلق بالطائرات من دون طيار، من خلال متابعة الدواعش ومعاركهم في العراق وسوريا، حيث نجح البعض منهم في تركيب المتفجرات في طائرات دون طيار.
أما الذي يدعو للقلق نووياً فيتعلق بسرقة التنظيم ما يقرب من 90 رطلاً (نحو 40 كجم) من اليورانيوم منخفض التخصيب من معاهد علمية في جامعة الموصل في العراق، ونتيجة لسميتها المحدودة، يمكن استخدام هذه المادة مجدداً لنشر الرعب وليس لإلحاق إصابات بدنية خطيرة، إلا أن هذا لا يعني أن الأمر لا يحمل خطورة ما.
في الأيام الأولى من يوليو (تموز) الحالي، كان «داعش» وبصورة قاطعة يؤكد للأوروبيين مخاوفهم، فقد أصدر تسجيلاً مرئياً «فيديو» حمل اسم «قضّوا مضاجعهم»، لا تتجاوز مدته الزمنية ربع الساعة، اعتمد خلاله على تصدير صورة جديدة للأعداد الكبيرة من الأطفال الذين وصفهم بأنهم الأكثر قوة مقارنة برجال الدولة، الذين تدربوا على أعمال الذبح والقتال في ميادين «داعش» عبر سوريا والعراق.
التسجيل المصور لم يفته أن يعرض العمليات التي قام بها خلال الشهور الماضية، والتي راح ضحيتها العشرات من الأوروبيين، بل واصل تهديداته بهؤلاء الأطفال، معتبراً إياهم الأبطال الجدد لتنظيم الدولة الإسلامية، والمثير إلى حد القلق والهلع، أنهم من جنسيات مختلفة؛ روس وأتراك، عراقيين وبريطانيين، وصفهم بأنهم «قادمون.. قادمون».
«هل هذه التسجيلات لها حظ من التنفيذ أم أنها ضمن الحرب الإعلامية والنفسية التي يمارسها التنظيم ضد أوروبا ودولها الكبرى؟».
يمكن الجزم بأن أوروبا باتت خلفية لعناصر «داعش» المتسللين إليها من الشرق الأوسط، حيث ينحدر ويندحر كل يوم، وهو الأمر الذي تؤكده تقارير استخباراتية إيطالية، أشارت إليها صحيفة الغارديان البريطانية في أوائل مايو (أيار) الماضي، إذ نشرت تقريراً لها تحت عنوان «مخاوف إيطالية من تسلل عناصر (داعش) إلى أوروبا متنكرين ضمن جرحى ليبيين»، وتقول الصحيفة البريطانية الشهيرة إنها اطلعت على وثيقة استخباراتية إيطالية، تكشف وجود شبكة معقدة قام فيها أفراد من «داعش» وآخرون إرهابيون منذ عام 2015، بالتسلل إلى أوروبا بعد تظاهرهم بأنهم جرحى من الجنود الليبيين تقدموا للمستشفيات بجوازات سفر ووثائق مزورة، لتقوم المستشفيات والمراكز الطبية التي تشرف عليها حكومة الوفاق الوطني بإرسالهم للخارج للعلاج. بداية التحرك من ليبيا تجاه تركيا، ورومانيا، وصربيا، والبوسنة، ولاحقاً إلى تلك الأهداف الجغرافية لتنفيذ عملياتهم الإرهابية.
القصة لا يمكن أن تنتهي بالدخول إلى عمق الدول الأوروبية الغربية، التي يرى فيها «داعش» عواصم للكفر وأعداء لله ورسوله، ذلك أن فاعليتهم مرتهنة بأمرين أساسيين لا غنى عنهما؛ الاتصالات والتواصل، والتمويل والإنفاق، فمن أين لهم الأموال اللازمة للإنفاق وكيف يتواصلون؟
أوائل الشهر الماضي، كان نائب مدير قسم التحديات والتهديدات في وزارة الخارجية الروسية ديمتري فيوكيتسوف، يعلن أن لدى روسيا معلومات عن محاولات لتنظيم داعش للاستثمار في مشاريع في أوروبا من خلال بعض البنوك في الشرق الأوسط.
المسؤول الروسي أكد أنهم أبلغوا الأميركيين بأسماء محددة لبنوك من الشرق الأوسط تستثمر في بلدين أوروبيين وأن مسلحي تنظيم داعش يحاولون تعويض خسائرهم من خلال التجارة في المعادن القيمة، حيث استولوا على منجم لاستخراج الفوسفات ومصنع لإنتاج حامض الفوسفوريك في العراق، أما في سوريا فقد استولوا على كثير من مصانع الإسمنت وبعض الشركات الأخرى.
بل إلى أبعد من هذا، فإن الخارجية الروسية كانت لديها معلومات مسبقة حول محاولات تنظيم داعش للاستثمار في أسواق العقارات في نيويورك وتركيا.
هل هذه التصريحات تعزز ما ذهبت إليه الشرطة الأوروبية من أن «داعش» وشركاءه أقرب ما يكونون لإحداث كابوس خطير في حياة الأوروبيين عبر إنشائهم لما يمكن أن يسمى «فيسبوك داعش»؟
المؤكد أن الشرطة الأوروبية تحقق في الأمر بالفعل، أي أن يكون تنظيم داعش وبالشراكة مع تنظيمات إرهابية أخرى، قد يكون «القاعدة» واحداً منها، في مراحل إنشاء شبكة تواصل اجتماعية خاصة بهم.
أما عن هدف وغاية الدواعش والإرهابيين من تلك الشبكة، فهو استخدامها المزدوج من جهة في أغراض الدعاية لهم ومن ناحية ثانية للتمويل بعيداً عن عمليات التفتيش الأمنية.
المتحدث باسم الشرطة الأوروبية جان أوب جين أورث، يصرح لوكالة الصحافة الفرنسية بالقول: «ما زلنا نسعى للتعرف على كل تفاصيل الحساب، بما في ذلك من أنشأه ولأي هدف»، لافتاً إلى أن المؤشرات الأولية يبدو أنها تظهر روابط بين تنظيم داعش ومجموعات إرهابية أخرى.
هل يرتب تنظيم الدولة لهدف ما يتحقق عام 2020 باستخدام شبكة المعلومات التي يكثر الحديث عنها أخيراً عطفاً على التمويل المشبوه؟
يجدر بنا أن نذكر أن أوروبا وفي الأشهر الأولى لتعزيز «داعش» حضوره في العراق وسوريا، أصدر بياناً أشار فيه إلى أن قادة التنظيم يخططون لغزو أوروبا قبل انتهاء عام 2020، وأن هذا الغزو يعتبر نوعاً من أنواع الثأر التاريخي لما قام به الأوروبيون في العالم العربي وعرف باتفاق «سايكس - بيكو»، وقد رأى التنظيم أن هذه الاتفاقية كانت محاولة من الغرب الكافر لتقسيم المسلمين ومنع إقامة خلافة إسلامية جديدة.
والشاهد أن تغير الأوضاع وتبدل الطباع قد قصر كثيراً جداً بأحلام الدواعش، لكنها لم تنتهِ، وأضعف الإيمان أن أرقام الدواعش العائدين إلى أوروبا سواء من أبنائها الأصليين أو من المهاجرين واللاجئين إليها تثير الذعر لدى الاطلاع عليها.
إحدى أهم الدراسات في هذا السياق هي دراسة «معهد إلكانو» الإسباني، التي تفصل أرقام المتطرفين العائدين إلى 12 دولة أوروبية، بعضهم عاد بالفعل والبعض الآخر في طريق العودة وأعدادهم تقدر بالمئات في كل دولة، وببضعة آلاف في أوروبا مجتمعين.
عودة الدواعش إلى أوروبا في واقع الحال مسألة كارثية لا محالة، تذكر بالعائدين من أفغانستان في أوائل تسعينات القرن العشرين، فالذين قاتلوا ضد السوفيات حتى انسحابهم من كابل وما حولها، قد عاثوا فساداً وإرهاباً في العالم العربي لسنوات طويلة، قبل أن يتم التعامل معهم أمنياً وفكرياً.
في هذا السياق التاريخي، يصف أحد رجالات الأمن العرب وثيق ولصيق الصلة بحركات الإرهاب الإسلاموي، المشهد بأنه «إن كان العائدون من أفغانستان قد تخرجوا في مدرسة للعنف، فإن الدواعش العائدين قد درسوا وتدربوا في أكاديمية للعنف والإرهاب، مما يجعل التعاطي معهم مسألة كارثية».
الرأي المتقدم تؤكده حالة وحركة المتابعات الأمنية والاستخباراتية الأوروبية للعائدين من مناطق القتال في الشرق الأوسط، حيث يجدون صعوبة بالغة في متابعة ومراقبة هؤلاء أمنياً ومكانياً، والحوادث الإرهابية الأخيرة في أوروبا التي ثبت فيها تورط بعضهم، ألقت الضوء على عدم نجاح الأجهزة الأمنية في توقع حدوث هذه الهجمات.
ويبدو أن هناك إشكاليات تتصل بحقوق الإنسان والحريات وبين تتبع هؤلاء، إذ تواجه حكومات تلك الدول انتقادات لعدم قدرتها على اعتقال هؤلاء العائدين، بسبب قيود قانونية تخص عدم وجود أدلة دافعة بشأن إثبات مشاركتهم في أعمال عنيفة بالشرق الأوسط، وهو ما يضعهم فقط تحت المراقبة التي لا تكون ناجحة أحياناً في إحباط أي هجوم محتمل.
في أواخر مايو الماضي، نشر جهاز المخابرات السرية الكندية بالتعاون مع نظيره الفرنسي، تقريراً مفصلاً تحدث فيه عن حملة تنظيم داعش ضد أوروبا، التي بدأت بعد أكثر من سنة بقليل من إعلان التنظيم سيطرته على مدينة الرقة السورية وإعلانها عاصمة للخلافة بعد دحره لجماعات الثوار الذين كانوا قد طردوا القوات الموالية للنظام السوري قبل شهر من ذلك.
يشير التقرير عالي ورفيع المستوى إلى أن العمليات التي هزت مدن باريس، وبروكسل، ونيس، وبرلين، لا تعد بمثابة «انتقام» للمتطرفين على خلفية عمليات غربية، بل تمثل نتاج حملة مدروسة ومتعمدة عجز التحالف عن عرقلتها بالكامل. وعلى الرغم من أن قدرة تنظيم الدولة على الأخذ بزمام الأمور قد تدهورت بشكل كبير، فإنها لا تزال في غاية الخطورة.
يطرح تقرير الاستخبارات الكندية والفرنسية علامة استفهام رئيسية في هذا السياق... ما الذي يسعى تنظيم «داعش» إلى تحقيقه في أوروبا؟
بحسب واضعيه يبدو أن هناك هدفين أساسيين:
• يتمثل الأول في إثبات أن التعايش مع «الخونة» أمر مستحيل، وقد وقع استهداف فرنسا وألمانيا بشكل خاص نظراً لاستقبال الأولى أكبر الجاليات المسلمة واليهودية في أوروبا، والثانية بسبب سياستها السخية تجاه اللاجئين.
• فيما الهدف الثاني يتصل بتشجيع «الصعود الجهادي» انطلاقاً من أوروبا، وبغض النظر عن تأثيرهم غير المتوقع على مستوى الدعاية، يعتبر المجندون الأوروبيون ذات قيمة استثنائية بالنسبة لتنظيم الدولة.
يفتح التقرير الذي نحن بصدده أعين الأوروبيين على مسألة «شبكات الدعم الداعشي العابرة لأوروبا»، وعند كتابه أنه يجب عدم التقليل من أهمية التطورات المثيرة للقلق التي كشفتها الهجمات الثلاثة الأخيرة، والجدير بالذكر أن القاتل المسؤول عن عملية سوق الميلاد في برلين أنيس العمري، كان قد تمكن في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2016 من عبور ألمانيا وهولندا وفرنسا قبل أن يتم القضاء عليه في إيطاليا، الأمر الذي يطرح تساؤلاً جوهرياً حول شبكات الدعم العابرة لأوروبا.
أما عبد القادر مشاريبوف، وهو منفذ الهجوم على الملهى الليلي «لاسريفا» في ليلة رأس السنة الجديدة 2017 في إسطنبول، فقد نجح في الفرار لأسبوعين كاملين من تعقب قوات الأمن التركية.
والثابت أن أوروبا تواجه معضلة «مثلث الإرهاب»، أي مواجهة 3 أضلاع لدول وأفراد، فعلى سبيل المثال فإن مشاريبوف دخل إلى تركيا عبر إيران، بعد خضوعه للتدريب في أفغانستان، وعلى هذا الأساس تواجه دول القارة العجوز مثلثاً ما بين أفغانستان وتركيا وسوريا، وهو ما ستترتب عليه تهديدات خطيرة في المدى المتوسط.
مؤكد أن ذلك لن يحدث لسببين؛ الأول يتصل بالخلايا «الداعشية» النائمة في أوروبا، والثاني بالقدرة على التجنيد عن بعد وعبر مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن أضحت المعركة مع «داعش» معركة أفكار ووجود، لا دول وحدود.
الهدف الرئيسي لتنظيم الدولة في أوروبا ليس عسكرياً، ولكنه سياسي، وإعلامي، ورمزي، ومن هذا المنطلق، تخدم أسطورة الذئب المنفرد، التي تجعل من تنظيم الدولة ذا تهديد حاضر باستمرار وتبرز جميع التصعيدات العميقة التي يقوم بها، ديناميكية التنظيم بشكل مثالي، بالإضافة إلى ذلك يسلط المزيج بين التوجيه عن بعد والخلايا النائمة، علاوة على تجزئة الأنشطة الإرهابية المترتبة عنه، الضوء على الوهم القائل إن الإرهابيين منتشرون في كل مكان.



«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
TT

«داعش» يُعيد اختبار قدراته في غرب أفريقيا

مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)
مقاتلو تحالف أهل أزواد أثناء قيامهم بدوريات في المنطقة القريبة من الحدود بين مالي وموريتانيا لحماية السكان المحليين من انعدام الأمن بسبب وجود عناصر «داعش» (أ.ف.ب)

في مؤشر رمزي لـ«اختبار قدراته»، عقب هزائمه في سوريا والعراق وعدد من الدول، دفع تنظيم داعش الإرهابي عناصره وخلاياه لتنفيذ عمليات في غرب أفريقيا، أملاً في «إثبات الوجود» وتأكيد استمرار مشروع التنظيم. ضربات التنظيم «الخاطفة» التي شهدتها بوركينا فاسو ومالي والنيجر، ونيجيريا أخيراً، دفعت لتساؤلات تتعلق بأهداف توجه «داعش» نحو غرب أفريقيا الآن، وخطة نشاطه خلال الفترة المقبلة.
خبراء ومتخصصون في الحركات الأصولية أكدوا أن «التنظيم يهدف من نشاطه في غرب القارة السمراء إلى تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، وتأكيد الوجود في المشهد، والحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق».
وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط» إن «التنظيم الإرهابي عانى من الانحسار الجغرافي خلال الأشهر الماضية، وتأثر بمقتل زعيمه السابق أبي بكر البغدادي، وهو يسعى لتدوير قدراته القتالية في مناطق جديدة». لكن الخبراء قللوا في هذا الصدد من تأثير عمليات «داعش» في هذه الدول، لكونها للترويج الإعلامي.

خلايا فرعية
يشار إلى أن «ولاية غرب أفريقيا» في «داعش» انشقت عن جماعة «بوكو حرام» في عام 2016، وأصبحت الجماعة المتشددة المهيمنة في تلك المنطقة. وأبدى «داعش» اهتماماً ملحوظاً خلال الأشهر الماضية بتوسيع نطاق نشاطه في القارة الأفريقية، حيث تعاني بعض الدول من مشكلات أمنية واقتصادية واجتماعية، مما ساعده في تحقيق أهدافه.
وقال أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، إن «النقطة المركزية في حركة التنظيمات الجهادية، وتحديداً (المعولمة) الموجودة بين أكثر من دولة، وأكثر من نشاط، تحت رعاية مشروع آيديولوجي (جهادي) محدد، مثل (داعش) ومن قبله (القاعدة)، أنه في كثير من الأحيان يكون التمركز في منطقة معينة، وتكون هي مركز الثقل، مع وجود فروع أو جيوب أخرى يتم التحرك من خلالها في بعض الأحيان، فضلاً عن أن هناك قواعد جهادية قتالية بلا عمل، فيكون التكتيك الذي يتبعه التنظيم في هذه السياقات ضرورة العمل في مناطق أخرى، أو توزيع جهوده على نطاقات جغرافية أخرى، بهدف تفريغ القدرات القتالية لعناصره، والحفاظ على رأس ماله الرمزي، بصفته (أي داعش) جماعة مقاومة -على حد زعم التنظيم- فضلاً عن تأكيد عبارات مثل: (موجودون) و(مستمرون في القتال) و(مستمرون في إقامة مشروعنا)».
في حين أرجع عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية، محاولات «داعش» للتمدد في غرب أفريقيا إلى «إعادة التموضع واتخاذ مرتكزات أخرى، بعد الضربات التي مُني بها التنظيم أخيراً، خاصة بعد مقتل البغدادي والمهاجر. لذلك لجأ التنظيم إلى أفريقيا الساحل ونيجيريا وبوركينا فاسو والنيجر ومالي، وغيرها من الدول، لأن بعض هذه الدول تعاني من مشكلات في الوجود الأمني، سواء داخلياً أو على الحدود. لذا لجأ التنظيم لعدة عمليات للحفاظ على حجم البيعات الصغيرة التي حصل عليها في السابق، مع وجود منافس شرس هناك مثل تنظيم (القاعدة) الموجود بصور مختلفة في السنوات القليلة الماضية على أراضي بعض الدول الأفريقية».
وفي غضون ذلك، فسر الأكاديمي الدكتور أيمن بريك، أستاذ الإعلام المساعد في جامعتي الأزهر والإمام محمد بن سعود الإسلامية، تمدد «داعش» في غرب أفريقيا بأنه «محاولة لـ(لملمة شتات) عناصره، بعد الهزائم المتتالية في العراق وسوريا، حيث دفع بكثير من أعضائه الفارين إلى أفريقيا، في محاولة لتأكيد البقاء».

ضربات موجعة
الكلام السابق تطابق مع دراسة لمرصد دار الإفتاء في مصر، أكدت أنه «رغم الضربات الموجعة التي تعرض لها (داعش)، سواء بإخراجه من آخر معاقله في الباغوز بسوريا، واستعادة كافة الأراضي التي سيطر عليها خلال عام 2014، أو بالقضاء على غالبية قياداته ورموزه، وعلى رأسهم أبو بكر البغدادي زعيم التنظيم السابق، فإنه ظل قادراً على تنفيذ عمليات في مناطق عدة، بعد فتح جبهات جديدة لعناصره في غرب أفريقيا التي تُعد ساحة مرشحة لعمليات متزايدة متضاعفة للتنظيم».
هذا وقد قتل البغدادي بعد غارة عسكرية أميركية في سوريا، بينما قتل المتحدث باسم التنظيم السابق أبو الحسن المهاجر في عملية عسكرية منفصلة في الأسبوع نفسه تقريباً، نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي.
وأكد زغلول أن «التنظيم الإرهابي عانى من أزمات في مناطق انتشاره الأساسية، وهناك استراتيجيات أمنية على المستوى المحلي والدولي ضده، فضلاً عن انحسار جغرافي في سوريا والعراق، وهناك قيادة جديدة تولت التنظيم... كل هذه التحديات تدفعه إلى إثبات وجود، وإعادة تدوير قدراته القتالية في مناطق أخرى واختبارها، لذا يبدو طبيعياً أن يتمدد في غرب أفريقيا، أو في أي منطقة أخرى، ما دام أن هناك موارد وسياقات محلية تدعم هذا التوجه، والأمر لا يتوقف فقط على التنظيم الرئيسي (أي القيادة المركزية لداعش وقراراتها)، لكنه مرتبط بجانب آخر بوجود سياقات مناسبة؛ بمعنى أن الأوضاع الداخلية في دولة ما قد تكون مناسبة لنشاط التنظيم خلال فترة ما، وقد تكون هذه الأوضاع غير مناسبة للتنظيم في دولة أخرى».
ودعا البغدادي في وقت سابق ما سماها «ولايات دولة الخلافة المزعومة» في أفغانستان والقوقاز وإندونيسيا، وأيضاً غرب ووسط أفريقيا، للقيام بعمليات إرهابية.

مشهد جديد
وعن دلالة توجه «داعش» لغرب أفريقيا الآن، قال عبد المنعم: «هي محاولة لبلورة مشهد جهادي جديد في هذه الدول. وقد هذا ظهر بشكل كبير بعد أيام من مقتل البغدادي، وبيعة أبو إبراهيم الهاشمي القرشي زعيم (داعش) الجديد، ليؤكد التنظيم أنه عازم على استكمال مسيرة مشروعه، لذا خرج بشعار جديد في أحد إصداراته الأخيرة بعنوان (سوف نمضي)».
ومن جهته، أكد أحمد زغلول أن «التضييقات السياسية والأمنية على التنظيم في نقاطه المركزية دفعته إلى الكمون خلال الأشهر الماضية، وتضييق نشاطه، وتقليل حجم عملياته، بهدف البقاء، أو كنوع من المناورة مع السياسات الأمنية التي يتعرض لها من وقت لآخر، وهذا جعل التنظيم لديه أزمات داخلية؛ بمعنى أن هناك مشروعاً جهادياً لا بد من تحقيقه، وهناك قواعد له في دول أخرى ترى أن التنظيم نموذجاً وتدعمه بشكل أو بآخر بمختلف أوجه الدعم، لذا يؤكد دائماً على البقاء والثبات».
وكثف «داعش» من هجماته الإرهابية في دول غرب أفريقيا أخيراً. ففي نهاية ديسمبر (كانون الأول) الماضي، تبنى «داعش» هجوماً على قاعدة أربيندا العسكرية في بوركينا فاسو، قُتل خلاله 7 عسكريين. وفي الشهر ذاته، نشر التنظيم شريطاً مصوراً مدته دقيقة واحدة، أظهر فيه مشاهد إعدام 11 مسيحياً في شمال شرقي نيجيريا. وسبق ذلك إعلان «داعش»، في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، مسؤوليته عن هجوم استهدف قاعدة عسكرية شمال شرقي مالي، وأسفر عن مقتل 53 جندياً. كما تبنى التنظيم هجوماً أوقع أكثر من 70 قتيلاً في معسكر لجيش النيجر في ايناتيس قرب مالي.
وأشارت تقديرات سابقة لمراكز بحثية غربية إلى أن «عدد الذين انضموا لـ(داعش) من أفريقيا منذ عام 2014 في سوريا والعراق يزيد على 6 آلاف مقاتل». وقال مراقبون إن «عودة هؤلاء، أو من تبقى منهم، إلى أفريقيا بعد هزائم سوريا والعراق كانت إشكالية كبيرة على أمن القارة، خصوصاً أن كثيرين منهم شباب صغير السن، وليس لهم روابط إرهابية سابقة، وأغلبهم تم استقطابه عبر الإنترنت».

عمليات نوعية
وحول نشاط «داعش» المستقبلي في غرب أفريقيا، قال عمرو عبد المنعم إن «نشاط (داعش) بدأ يظهر في غرب أفريقيا من خلال عمليات نوعية، سواء ضد المسيحيين أو جيوش الدول أو العناصر الغربية الموجودة في هذه المناطق»، لافتاً إلى أن «الاستهداف حتى الآن عشوائي، وبعض هذه العمليات لم يحدث تأثيراً بالقدر الكبير، كمثل العمليات التي حدثت في أوروبا، وأحدثت دوياً من قبل، وحتى الآن هي مجرد عمليات للترويج الإعلامي وإثبات الوجود، لأن بعض ولايات وأذرع (داعش) بأفريقيا التي بايعت البغدادي في وقت سابق ما زالت لم يسمع لها صوتاً، بالمقارنة بحجم وتأثير العمليات التي شهدتها أوروبا في وقت سابق».
أما الدكتور أيمن بريك، فقد تحدث عن احتمالية «حدوث تحالف بين (داعش) و(القاعدة) ‏في القارة الأفريقية، كـ(تحالف تكتيكي) في ظل حالة الضعف والتردي التي ‏يعاني منها التنظيمين»، لكنه في الوقت نفسه دعا إلى «ضرورة التصدي لـمحاولات تمدد (داعش) وغيره من التنظيمات الإرهابية في ‏القارة الأفريقية، وذلك قبل أن ينجح بقايا الدواعش في إعادة بناء تنظيم، ربما يكون أكثر عنفاً وتشدداً وإجراماً مما فعله التنظيم الأم (أي داعش) خلال أعوامه السابقة».