كرت غردل.. المنطقي الذي قتلته فكرة

قال عنه ستيفن هوكينغ إنه أعظم المنطقيين الرياضيين على مر العصور وأكثرهم جنونا

كرت غردل
كرت غردل
TT

كرت غردل.. المنطقي الذي قتلته فكرة

كرت غردل
كرت غردل

يروى عن أينشتاين أنه فقد حماسه لكثير من أعماله في آخر عمره، وأنه كان يذهب يوميا لمكتبه لـ«يحظى بمتعة الحديث مع المنطقي النمساوي - الأميركي غردل في طريق العودة للمنزل».
تعرفت على أفكار غردل لأول مرة خلال دراستي للمنطق الرياضي من خلال أطروحته في مبرهنة اللااكتمال، التي برهن فيها على أن أي مجموعة من المبادئ للحساب لا يمكن أن تكون مكتملة، بمعنى أنها لا يمكن أن تبرهن على صحة كل الجمل الحسابية داخل هذه المجموعة. هذا يعني أنه ستكون دائما هناك عبارات نعرف أنها صحيحة لكن مجموعة المبادئ الأساسية لا تبرهنها. هذه المبرهنة أفسدت حلما طالما حلم به رياضيو القرن العشرين، مثل فريغه وراسل ووايتهد، بالبرهنة على كل الرياضيات.
يقول الفيزيائي الشهير ستيفن هوكنغ عن غردل إنه «أعظم المنطقيين الرياضيين على مر العصور وأكثرهم جنونا». ولد غردل في أبريل (نيسان) 1906، أي بعد سنة من نشر أينشتاين لنظريته في النسبية الخاصة التي ستغير الفيزياء لاحقا للأبد، ليغيّر غردل نفسه المنطق الرياضي للأبد في 1931. ظهر غردل في عصر كان حلم الرياضيين فيه يكمن في تأسيس الرياضيات على أساس منطقي يبرهن على كل البناء الرياضي. كان فريغه يعمل جاهدا على تحقيق حلم الرياضيين بتأسيس منطق رياضي متكامل، والذي أصبح يعرف ببرنامج هلبرت نسبة للرياضي الألماني ديفيد هلبرت (1862 - 1943). وفي حين كان فريغه يستعد لنشر الجزء الثاني من هذا المشروع «Grundgesetze der Arithmetik» سنة 1903، إذا ببرتراند راسل، الفيلسوف والرياضي البريطاني، يكتب له موضحا أن نظامه يمكن أن يؤدي إلى تناقض.
من المهم الإشارة هنا إلى أن هذه ضربة قاضية لأي نظام منطقي يعوّل عليه أن يكون مرجعا للحكم باعتبار أنه إذا كان النظام يؤدي للنتيجة وعكسها فإنه لا يعطي أي معلومة يمكن أن يعوّل عليها. يمكن أن نتخيل حالة مشابهة في المجال الطبي حيال جهاز لفحص الدم يفترض أن يعطينا نتائج دقيقة عن كون هذا الشخص مصابا بهذا المرض أم لا. ماذا لو كان الجهاز يعطينا في الوقت ذاته أن الشخص المفحوص مصاب بهذا المرض وغير مصاب به في آن؟ هذا الجهاز غير صالح للعمل. ما فعله راسل مع نظام فريغه هو شيء مشابه. مفارقة راسل يمكن الحديث عنها بعدة طرق، منها أنه لو أخذنا المجموعة «أ» والتي تحوي «كل المجموعات التي ليست جزءا من نفسها»، فلو كانت «أ» ليست جزءا من نفسها فهي بحسب التعريف جزء من نفسها. وإذا كانت أ جزءا من نفسها فهي بحسب التعريف ليست جزءا من نفسها باعتبارها مناقضة للتعريف. أحيانا يستخدم مثال الحلاق لتوضيح هذه المعضلة. لنتخيل حلاقا في قرية يحلق فقط للناس «الذين لا يحلقون لأنفسهم». يكون السؤال هنا: من يحلق للحلاق؟ في النهاية لدينا مجموعتان: مجموعة الذين يحلقون لأنفسهم، ومجموعة الذين يحلق لهم الحلاق. يستحيل أن يكون الحلاق ضمن المجموعة الأولى لأنه بالتعريف لا يحلق إلا لمن لا يحلقون لأنفسهم، كما يستحيل أن يكون ضمن المجموعة الثانية لأن الحلاق بالتعريف لا يحلق لمن يحلق لنفسه.
راسل في المقابل سيكون أيضا ضحية لكرت غردل. عمل راسل ووايتهد على تأسيس الرياضيات في كتابهما الشهير «أصول الرياضيات». كان الحلم أن تتم البرهنة على الرياضيات منذ البداية ليكون عندنا نظام مكتمل من خلاله يمكننا الحكم على كل عبارة رياضية بأنها صحيحة أو خاطئة. المبرهنة التي قدمها غردل تتكون من نتيجتين، الأولى أنه أي مجموعة من المبادئ للحساب لا يمكن أن تكون مكتملة. النتيجة الثانية تقول إن اتساق الحساب لا يمكن إثباته داخل مبادئ الحساب نفسه. هذه المبرهنة أصبحت مقبولة عند الرياضيين بشكل عام، وقضت بشكل كبير على إنتاج نظام رياضي مغلق مكتمل. بمعنى أنه لا يمكن وضع الرياضيات في برنامج كومبيوتر قادر على حل كل سؤال رياضي.
بين الحربين العالميتين، كان غردل يقوم بزيارات متعاقبة للولايات المتحدة للتواصل مع علماء الرياضيات والمنطق هناك. في تلك الفترة ظهرت عليه علامات المرض النفسي، فقد كان مؤمنا بأن هناك من يريد تسميمه والتخلص منه (فكرة غير غريبة على من عاش تحت النظام النازي). بعد غزو هتلر لبلده وقبيل بدء الحرب العالمية الثانية، هاجر غردل مع زوجته بشكل نهائي للولايات المتحدة ليعمل في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون بجوار الشهير أينشتاين. مهمة الناس في هذا المعهد هي التفكير بشكل مستقل وحر في مشاريعهم الفكرية والعملية. خلال الفترة اللاحقة أظهر غردل اهتماما بالفيزياء خصوصا أعمال أينشتاين في النسبية الخاصة والعامة. مع تقدم العمر كان غردل يعاني أكثر من نظرية الشك التي سيطرت عليه، لدرجة أنه لم يعد يأكل إلا ما تعده زوجته له. في أواخر 1977 أدخلت زوجته للمستشفى لظروف صحية ليبقى هو وحيدا عاجزا عن أكل أي طعام لا تشرف هي عليه. في يناير (كانون الثاني) 1978 توفي غردل بسبب سوء التغذية في مستشفى جامعة برنستون.
نهاية غردل محزنة فعلا كنافذة على الإنسان القوي جدا والضعيف جدا في الوقت ذاته. هي قصة الإنسان القوي جدا لدرجة قدرته على إحداث تغييرات جذرية في علم المنطق وعلم الرياضيات والوصول بتفكيره إلى نتائج مهمة لها علاقة بالزمن والواقع والكون. وفي الوقت ذاته الإنسان الضعيف جدا لدرجة عجزه عن التخلص من فكرة واحدة فقط. العجز الذي أدى به في النهاية للموت. لكن من المهم أن نتذكر أن الفكرة التي قتلت غردل لم تكن فكرة بسيطة أو هامشية، فقد كانت باختصار عن موقعه بين الناس وشعوره بالأمان داخلهم. هذه الفكرة لا تقل أهمية بأي شكل من الأشكال عن أفكارنا عن الكون والمنطق والرياضيات.



طعم الجبل

طعم الجبل
TT

طعم الجبل

طعم الجبل

تفتّش في القاموس عن فحوى كلمة «جليل»، وتظهر لك المعاني: «العظيم، الخطير، المهمّ...».. ويمكن أيضاً أن يكون «المخيف، الخارق، البالغ»، كما أنّه «ما جاوز الحدّ من نواحي الفنّ والأخلاق والفكر». أستطيعُ أن أدلي هنا بدلوي وأقول إنّ «الجليل» هو ما يلزمنا الحديث عنه أوّلاً بلغة الشّعر، أي الخيال. فعندما نتحدّث عن «البحر» أو «الخير الأسمى» أو «الشّيطان» بكلام عاديّ، فإنّ صفة الجلالة تنتفي، ويتولّد لدينا شعور باللاّمبالاة.

«لو مرّت يوميّاً خلال ألف سنة ريشة طاووس على جبل غرانيتيّ، فإنّ هذا الجبل سيُحتّ، ويختفي». وإن كان قائلُ هذا الكلام بوذا، إلّا أنّ التأمّل في معناه يُزيح عن الجبل صفة الجلالة، حتماً. هناك فجوات مظلمة فيما هو جليل في كوننا، حتّى إنّه يمكن أن نعيش فقط لكشفها، ويكون عندها لحياتنا مغزى تنتقل إليه سِمة الجلالة. يقول نيتشه: «على مَن ابتكر أمراً عظيماً أن يحياه».

جاء في يوميّات شاعر يابانيّ: «يرتجي الغرب غزو الجبل. يرتجي الشّرق تأمّل الجبل، وأنا أرتجي طعمَ الجبل». وهذا عنوان كتاب للشّاعر، والأمر ليس غريباً تماماً عن الطبيعة البشريّة، فنحن نتعرّف في سنين الطّفولة على الكون بواسطة اللّسان. أي شيء تصل إليه يد الطّفل يضعه مباشرة في فمه، وهذه الخطوة تؤدّي إلى اتّصاله بالشّيء بواسطة جسده كلّه. اختار الطّفل هذا العضو وهذه الحاسّة لأنّها الأقرب إليه والأسهل، مثلما يفعل العشّاق الذين يبدأون الحبّ بالتقبيل بشغف لا يشبهه شغف، ثمّ يصبح بعد ذلك كلّ فعل وحديث بين الاثنين مبقّعاً بهذا الفعل، الذي يعني المعرفة الحميمة والعميقة لكلا الجسدَين والقلبَين.

ورغم أنّ الجبل يُعدّ من الجماد، فإن نسغَ الحياة فيه قوي، وهو يشمخ على صفحة السّماء. هل جرّبتَ الشّعور بالسّكينة والسّعادة وأنت تتجوّل على سفح الجبل قاصداً القمّة، عند السَّحر؟ ما إن يطلع عليك ضوء الفجر الأزرق حتّى تجدَ أن بصرك صار حديداً. حدث هذا الأمر معي كحُلُم غريب؛ كنت أنظر من خلال عدستين طبيتين أثناء صعودي السّفح، وأخذت رعشة بيضاء تهزّ قلبي عندما اكتشفتُ، في بريق الشّمس الطّالعة، أن لا حاجة لي بهما، وأنّه بإمكاني متابعة النّسر الحائم في السّماء البعيدة. كان الفجر ينشر سناه، وراح الطّائر يتأرجح، ثم حلّق في دائرة كبيرة وصعد بعد ذلك عالياً موغلاً في السّماء القصيّة. ها هي صورة تعجز عن إيفائها حقّها من الوصف حتّى في ألف عام، العبارة لشاعر ألمانيا غوته، وفيها تعريف ثانٍ للجليل. في خاصرة جبل «زاوا»؛ حيث كنتُ أتجوّل، ثمة مرتفع صخري شاهق، وفي الأسفل ترتمي مدينة دهوك، مبانيها تبدو متآكلة محتوتة بفعل الرّياح والشّمس، والنّاس في الشّوارع كنقاط من النّمل. أخذ الطّريق يصعد وينحدر، وهبط النّسر في طيران هادئ راسماً بجناحيه دائرة واسعة، ثم حطّ على صخرة قريبة واسعة رماديّة اللّون، وبرق قلبي وأحسستُ أنّي أعيش حياة حارّة في حضرة كائن حي مبجّل، وتوهمتُ النّسرَ في سكونه المقدّس جبلاً، يتقاطع ظلّه المجنون مع ظلّ الصّخرة.

ورد ذكر «الجبل» بجوار «الطّير» في الكتاب المنزّل في ثلاث سور: «ص»: «إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ. وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً ۖ كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ»، و(الأنبياء): «وسخّرنا مع داود الجبال يسبّحْنَ وَالطَّيرَ وكُنَّا فاعلين»، و(سبأ): «ولقد آتينا داود منّا فضلاً يا جبال أوّبي معه والطّيرَ وألَنّا لهُ الحديد». من يقرأ هذه الآيات أو يسمع تلاوتها، فإنّه يشكّ في أنّ حياته مجرّد حلم يخطف مثل طائر على قاع أو سفح أو قمّة الجبل، طالت سنينُه أم قصُرت.

تشبيه آخر يكون الجبلُ فيه حاضراً، والمقصود به حياتنا الفانية:

«ظِلّ الجبلِ جبلٌ أقلُّ/ أخفُّ/ أسهلُ/ في لحظة/ يُفردُ جناحيهِ/ يطيرُ».

الاستعارة هنا قريبة، فظلّ الجبل هو الطّائر الذي يحلّق سريعاً عند انقضاء النّهار، كناية عن الأجل. لكنّ أنهار الشّعر تجري في كلّ مكان، وليس بالضرورة أنها تصبّ في بعضها بعضاً. للشّاعر ليف أنينيسكي قصيدة تردُ فيها هذه الصّورة: «الطّريق مضاءة بليلها وجبالها»، صار الجبل مصدراً للضّياء، والعلاقة باتت أكثر تطوّراً وتعقيداً، وكلّما بعدت الاستعارة ازدادت كفاءة الشّاعر. من المعروف أن أنينيسكي هو شاعر روسي عاش في الحقبة السّوفياتيّة، وثمّة رمزيّة دينيّة مسيحيّة تظهر في هذا البيت مصوّرة، ومختزلة بشبح الجبل في الظّلام. لا توجد أشجار ولا يوجد نبات يعيش على السّفح، البعيد تماماً عمّا يُسمّى بحرائق الألوان، فما مصدر الضّوء، والدّنيا ظلام لأنّ اللّيل أدلهمّ، اللّيل الذي لا يُريد أن ينتهي؟ لكنّه انجلى على يد غورباتشوف، وعاد الإيمان لدى الرّوس بقوّة. عندما قرأتُ شعر أنينيسكي، كان الوقتُ ليلاً، وبقيتُ أتأمّل المشهد في السّرير وانعكاس الجبل في الظّلمة الدّاكنة راح يهدهدني، ثم غرقتُ في النّوم، وكان رُقادي عذباً إلى درجة أن صدى قهقهاتي في أثناء حلمي السّعيد لا يزال محفوراً في ذاكرتي. حتّى الآن لا أعرف لماذا كنتُ متنعّماً في نومي إلى هذه الدّرجة، وهذه فائدة ثانية نحصل عليها من رفقة الجبل، وإن كانت بواسطة كتاب.

في مدينة دهوك، في كردستان العراق؛ حيث تكثر الجبال وتكون قريبة، لم أعثر على دوّارة واحدة للحمام الدّاجن فوق سطوح المباني في المدينة. دامت زيارتي خمسة أيّام، لم أرَ فيها غير أسراب الطيور تدور حول قمّة الجبل، تشقّ بأجنحتها الفضاء السّاكن، وتنتزع نفسها من الهواء إلى هواء أعلى، وتبدو كأنّها تصطبغ بالأزرق في السّماء الصّافية. هناك جرعة من حاجة الإنسان إلى الطّير يشغلها الجبل، وكأنّ هناك لوحة في صدور محترفي تربية الطّيور خُطّ عليها: «إذا كانت في مدينتك جبال، فلا حاجة إلى أن يعيش الطّير في بيتك». لا شكّ في أنّ الغد في دهوك سيكون حتماً كاليوم، اليوم الذي يشبه الأمس، ويشبه كلّ الأيّام. سربٌ من الحمائم يدور حول الجبل في النّهار، ولمّا يجنّ اللّيل تبدو قمّته مهدّدة في الظلام، وتبقى أشباح الطيور دائرة حولها، تحرسها من الفناء. جاء في سورة الإسراء - آية 13: « وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ». يحرس الطّيرُ الجبالَ العالية، ويحرس الإنسان أيضاً من الموت؛ الجبل هو انعكاس للإنسان، ونقيض له أيضاً؛ فهو لم يكن يوماً ضعيفاً وعاطفيّاً، ولا تهزّه مشاعر السرور والألم.

بالإضافة إلى حدّ البصر والنوم الرغيد، تمنحنا رفقة الطّور إحساساً عميقاً بإرادة الحياة وقوّة الأمل، مع شعور بشدّة الشّكيمة، لأنه مكتمل ولا تشوبه شائبة، كما أنه عظيم إلى درجة أن أضخم مخلوقات البرّ والبحر، أي الديناصور والحوت، تبدو بالمقارنة تافهة الحجم والصورة. المنفعة الرابعة التي تحصل عليها بعد زيارتك شعفة الجبل، أنك تشعر بالطّهارة من الإثم، كما لو أنّك أدّيتَ طقساً دينيّاً. ثم يهبط المرء على السفح شديد الانحدار، شاعراً بضالته تحت الثقل السابغ والمدوّخ لواجهة الجبل السوداء، ويكون عندها بحالة من الطّفو في تلك المنطقة بين السير على الأرض والتحليق في الهواء. عندما تحطّ قدم المرء على الأرض، يكون ممتلئاً تيهاً، لأنه صار يشعر بنفسه بريئة من كلّ وزر، ومنيعة وأكثر أبديّة من الجبل ذاته.

ولكن أين تذهب الطيور الميّتة؟ نادراً ما يعثر أحدنا في الطريق على عصفور أو حمامة ميّتة. إنها تولد بالآلاف كلّ يوم، وتقضي بالآلاف أيضاً. فما مصيرها؟ سألتُ نفسي هذا السؤال، وبحثتُ في المصادر والمراجع، وليس هناك جواب. البعض يقول يأكلها النّمل أو القطط والقوارض، وهذا جواب غير مقنع البتّة. هل تدّخر عظامَ مختلف أنواع الطير قاعدة الجبل، لتمنحه القوّة والقدرة على التحليق، شاهقاً في أعالي السماء؟

المنفعة الخامسة للجبل شعريّة خالصة ولا يتمكّن منها إلا من كان ذا حظّ عظيم، ويمتلك عيناً ترى كلّ شيء. بعد هيام طويل بجبال الجزائر سوف يجد سعدي يوسف نفسه يفتّش عن النساء العاشقات، وهو ينظر من خلال الجبل:

«في الصّيف تبقى المدينة، ظُهرا، بلا عاشقاتْ/ كان ينظرُ عَبرَ الشّجرْ/ وغصونِ الشجرْ/ والسنابلْ/ كان ينظرُ عبرَ الجبال».

القصيدة هي «تسجيل» من ديوان «نهايات الشّمال الأفريقي»، ومكان الجبال في نهاية المقطع لا تبرّره دوافع منطقيّة، وإنما بواعث شعريّة. هناك إسقاطات أو تمثّلات لما ورد في الكتاب عن تشبيه الجبال بالسحاب والسراب: سورة النمل: «وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ»، والنبأ: «وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا». إن جوهر الهويّة الشعرية تشكّله قدرة الشاعر على استعمال الكلمات كطلاسم وحقائق على حدّ سواء. الجبل الذي يُحيلهُ البارئ إلى سحاب وسراب بات في نظر الشاعر حصناً (أو مدفناً!) للنساء العاشقات، ملاذاً لهنّ مِن «شقق نصف مفروشة»، ومِن «تبغ أسود في ضفاف النّبيذ»، في أيام «العطل غير مدفوعة الأجر».

في الصفحات الأخيرة من رواية «مائة عام من العزلة»، يقوم العاشقان أورليانو بوينيديا وآمارانتا أورسولا، في ساعة شبق ملعونة، بدهن جسديهما بمربّى المشمش، ثم يروحان «يلتهمان» أحدهما الآخر «معرفيّاً» بواسطة اللسان. عنوان المجموعة الشّعرية «طعم الجبل» دليل يؤكد فيه الشاعر الياباني على جلالة الطّور، لأنه ليس هناك مخلوق يستطيع التعرف على الجبل بواسطة طعمه، وهذا تعريف ثالث لما هو جليل في كوننا.