في الذكرى الـ37 لرشدي أباظة... تطور صورة الفتى الأول في السينما المصرية

تستطيع أن ترصد السينما وتطورها بأكثر من مقياس، ومن خلال زاوية الرؤية التي تُطل عليها تتمكن من تحديد أهم معالمها.
ومن المعالم هؤلاء الذين يتصدرون الشاشة، أقصد النجوم، الذين تُعقد في العادة الصفقات السينمائية من أجلهم، ويسوّق الفيلم داخلياً وخارجياً بأسمائهم.
في كل مرحلة زمنية يتم الدفع باسم نجم يصبح هو المعبر عن حال تلك السينما، والأهم أن ملامحه تتحول إلى أيقونة في الشارع. وتستطيع أن ترى في رشدي أباظة مفتاحاً صحياً وصحيحاً لقراءة تاريخ السينما المصرية؛ فلقد كان هو منذ تألقه نهاية الخمسينات حتى رحيله عام 1980، المعادل الموضوعي لتلك الأيقونة.
رشدي أباظة لا يزال يشكل اسمه في خيال الجمهور ملامح الفتى الأول، ما يطلق عليه اسم «الجان». سبقه الكثير من النجوم في تلك المكانة، وبعد رحيله تابعنا صعود عشرات من النجوم الموهوبين لها. وفي مثل هذه الأيام قبل 37 عاماً رحل عن عالمنا بعد أن احتل مكانة خاصة واستثنائية في مقدمة «الكادر»، ولا يزال، فهو أول اسم يصعد للمقدمة عندما نعيد «كوتشينة» النجوم في تاريخ السينما العربية وعلى إطلاقها.
عاش رشدي الحياة بالطول والعرض، فهو نموذج للفنان البوهيمي الذي يحركه إحساسه فقط، لم يكن يخطط ليومه، ولم يضع في حساباته أن يدخل في صراع مع أحد من النجوم، إلا أن اسمه كان دائماً ما يفرض حضوره سابقاً الجميع على «التترات»، ولا يزال رغم تعاقب الأجيال واختلاف الأذواق، وتغير الأمزجة، فتى أحلام البنات.
باشا وابن باشا... هذا ما تقوله ملامحه... وبزاوية أخرى تجد فيه ابن البلد والفهلوي... الصعلوك والدونجوان، إنه فنان قابل للتشكيل في أي موقف، ليُصبح معبراً عن الشخصية، ولا تملك سوى أن تصدقه في كل دور يؤديه، لا تستطيع أن تضع قيداً عليه... إنه يتمرد على كل تنميط وعلى كل تصنيف. أجاد خمس لغات، هي الإنجليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية والألمانية، كانت من الممكن أن تُصبح جسراً له لكي يعبر إلى شاطئ العالمية، مثل ابن جيله عمر الشريف، إلا أن تلك الخطوة لم تكن تعنيه، فطموحه لم يتجاوز حدود الناطقين بالعربية.
ينتمي إلى عائلة: «الأباظية»، وهي إحدى العائلات العريقة في محافظة الشرقية، وهي عائلة لها طقوسها الخاصة في كل شيء، الأفراح والأتراح، المشروبات والمأكولات، ولهم أطباق شهيرة أخفوا سر صنعتها مثل طبق «العدس الأباظي». وفي كل المجالات تجد أن هناك «أباظياً» يحتل موقعاً مرموقاً في الجيش أو الشرطة أو السياسة والأدب والصحافة والشعر، إلا مجالاً واحداً فقط لم ترض الأسرة على أي من أفرادها اقتحامه وهو التمثيل. ويوم وضع رشدي أباظة قدمه على عتبة السينما في نهاية الأربعينات من القرن الماضي، وتحديدا عام 1948 بفيلم «المليونيرة الصغيرة» بطولة فاتن حمامة، كان يوماً مشهوداً في تاريخ هذه الأسرة، فقد قاطعه والده لواء الشرطة في ذلك الحين.
لم تكن تستهويه حكاية الفتى الأول، فكان يسخر منها قائلاً: «الفتى الأول هو أتفه شيء في السينما، فأي ممثل ثانٍ أو ثالث يستطيع أن يمسح بأستيكة الفتى الأول، إذا لم تكن للفتى الأول شخصية فنية ذات ملامح درامية واضحة». واعترف رشدي أنه في البداية كان يريد التعرف على السينما وامتلاك مفاتيحها، وشارك في الكثير من الأفلام بأداء دور الفتى الوسيم فقط، واستغرق هذا الأمر قدراً من الزمن، وعدداً لا بأس به من الأفلام بداية بفيلم «المليونيرة الصغيرة» للمخرج كمال بركات أمام فاتن حمامة، واستمر على هذه الحال قرابة 10 سنوات.
كان المخرج الكبير الراحل عز الدين ذو الفقار هو أحد أهم المخرجين الذي استشعروا ما يحمله رشدي أباظة من موهبة؛ ولهذا منحه في البداية أدوار البطل الثاني في أفلام مثل «إني راحلة»: «طريق الأمل»: «رد قلبي»... حتى جاءت القفزة في فيلم «امرأة في الطريق» وبعد ذلك «الرجل الثاني»، وبعدها صار هو الورقة الأولى سينمائياً.
حلقة وصل مبدعة... هذا هو رشدي أباظة الذي كان يقف في المقدمة مع ممثلين من جيله أمثال فريد شوقي وكمال الشناوي وشكري سرحان وغيرهم، وعندما يمر الزمن ويرسم مرور السنوات بصمة على نضارة الوجوه يستمر عطاؤه ولا يتضاءل أبداً البريق.
وهكذا وقف رشدي مع نجوم الأجيال اللاحقة عليه عزت العلايلي، محمود يس، نور الشريف، حسين فهمي، محمود عبد العزيز، أحمد زكي.
كان رشدي مدركاً أن الزمن قد بدأ في التغيير في حقبة السبعينات، وهكذا مثلاً مع صعود نجومية جيل محمود يس، كان لا يجد غضاضة في أن يطلب بنفسه أن يسبقه في التترات اسم محمود يس، طلب ذلك صراحة من المخرج عاطف سالم في فيلم «أين عقلي»، رغم اعتراض محمود، واستقر رأي المخرج عاطف سالم أن يكتب اسم سعاد حسني يليه رشدي أباظة، على أن تسبق اسم محمود يس كلمة بطولة.
كان يحرص أن تظل عينه على الحياة بكل أطيافها؛ ولهذا لم تغادره أجندة يحملها في يده، يكتب فيها تفاصيل الشخصيات التي يلتقيها في الحياة، وعندما تأتي اللحظة المناسبة ويعرض عليه شخصية درامية يعود للأجندة ليحصل منها على ملمح سبق له تدوينه.
تعددت الأجيال التي تعبر عن «الجان»، وعاصر رشدي الجيل السابق وآخرهم أحمد زكي.
تواصلت الأجيال حتى بزغ جيل من «الجانات»، مثل أحمد السقا وكريم عبد العزيز وأحمد عز، وهم الجيل المحسوب على الألفية الثلاثة، حتى وصلنا إلى محمد رمضان، الذي بزغت نجوميته في السنوات الخمس الأخيرة. طبعاً اختلفت أدوات التعبير باختلاف الزمن، وبينما كان درس رشدي الأثير هو أن ينتقل من دور إلى آخر بمغامرة فنية جديدة، فتراه مثلاً الغجري في «تمر جنة»، ثم زعيم العصابة في «الرجل الثاني» أو الطبيب في «أين عقلي».
محمد رمضان آخر العنقود في خانة «الفتى الأول» السينما المصرية، وقرر أيضاً أن يقتحم تلك النمطية، في محاولة للقفز فوق الأسوار، التي يصنعها عادة نجاح الدور الواحد فيقرر المنتجون والمخرجون حصار النجم في نفس الدور؛ وهو ما يجعل الجمهور طرفاً من دون أن يقصد في تنميط الفنان داخل قالب واحد، لكن هناك المسيرة التي تركها رشدي أباظة والتي أكدت أن الممثل يسبق النجم مهما كان حضور النجم طاغياً على الشاشة، فإن من يعيش ويمنح الدور ألق ومصداقية، بل ووهجاً هو الممثل، وهذا هو درس نجم النجوم جان السينما العربية رشدي أباظة، فهل يتعلم نجومنا الدرس؟