السودانيون في «الجنوب الجديد»... وثمن «لعنة الجغرافيا»

نائب رئيس الوزراء لـ «الشرق الأوسط»: سنفاوض الحركة الشعبية بشقيها

السودانيون في «الجنوب الجديد»... وثمن «لعنة الجغرافيا»
TT

السودانيون في «الجنوب الجديد»... وثمن «لعنة الجغرافيا»

السودانيون في «الجنوب الجديد»... وثمن «لعنة الجغرافيا»

اشتق ساسة سودانيون مصطلح «الجنوب الجديد» باعتباره «مكان حرب» جديدة في البلاد، وذلك عقب نهاية الحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه، التي انتهت بعد قرابة 40 سنة من القتال إلى انفصال «الجنوب القديم»، وولادة دولة جديدة من رحم السودان في التاسع من يوليو (تموز) 2011، ويشير مصطلح «الجنوب الجديد إلى اندلاع حرب جديدة في المنطقة الجنوبية من دولة السودان، بعد تغيّر ديموغرافيتها، وسكوت البنادق المتقاتلة المتقاطعة بتوقيع اتفاقية السلام السودانية الشامل المعروفة بـ«اتفاقية نيفاشا» يوم 9 يناير (كانون الثاني) 2005، وكانت الاتفاقية قد أقرت إجراء استفتاء في الجزء الجنوبي من البلاد، ولدت عنه دولتان متجاورتان ونشأ معه واقع جغرافي جديد. وبعدما كانت دولة «السودان» القديمة محادة لدولتي كينيا وأوغندا جنوباً، أصبحت حدودها الجنوبية تقف عند كردفان الجنوبية والنيل الأزرق وجنوب دارفور.
خلق مصطلح «الجنوب الجديد» في الآونة الأخيرة التباساً «جيو - سياسي» بين السودان وجمهورية «جنوب السودان»، وما عاد بمقدور أهل السودان الشمالي أن يصفوا جنوب بلادهم بـ«جنوب السودان»، لأن «جنوب السودان» غدت دولة تتمتع بعضوية الأمم المتحدة، ومع أنها انفصلت عن البلد الأم، لكنها احتفظت بالاسم «جنوب السودان».
ولا يقف الارتباك هنا في حدود كونه جغرافياً، بل يتضمن أبعاداً سياسية وأمنية وإثنية، ويختزن سيرة «الحرب الأهلية» السودانية التي انتهت بانفلاق البلد إلى بلدين يحمل كل منهما اسم «السودان». إذ في السادس من يونيو (حزيران) أو قبل إعلان استقلال «الجنوب القديم» بوقت قصير، اندلعت الحرب مرة أخرى بين القوات الحكومية وقوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان - قطاع الشمال»، في «الجنوب الجديد»، تحديداً في ولاية جنوب كردفان. ودوّت المدافع والبنادق وحلق الطيران الحربي في سماء مدينة كادوقلي، حاضرة ولاية جنوب كردفان، وردّت قوات «الحركة الشعبية» النار بالنار، وذلك فور إعلان نتيجة الانتخابات التكميلية لاختيار حاكم الولاية، التي أجريت في أجواء ملتهبة.
ووفقاً لما دوّنته الناشطة المدنية زينب بلندية في صفحتها على موقع «فيسبوك» للتواصل الاجتماعي، بصفتها شاهد عيان، فإن الانتخابات جرت في أجواء مشحونة بين الحزبين المتنافسين «المؤتمر الوطني» الحاكم في السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان». وتقول بلندية إن حملة مرشح الحزب الحاكم أحمد هرون الدعائية أطلقت جملة «فوز هرون أو القيامة تقوم»، وردت عليها حملة «الحركة الشعبية» بجملة: «النجمة أو الهجمة»، والنجمة هي رمز علمها.

اتهامات بتزوير الانتخابات
ووفق بلندية، تسببت اتهامات بتزوير الانتخابات وتصعيد عسكري وتعبوي في إطلاق شرارة الحرب بجنوب كردفان بمجرد إعلان فوز مرشح الحزب الحاكم بمقعد الوالي في الولاية الجنوبية. وترجع الخرطوم تجدد القتال إلى أن قوات تابعة لـ«الجيش الشعبي» هاجمت مركز شرطة واستولت على أسلحة، فيما يرجعه «الجيش الشعبي» إلى أن الخرطوم تحاول نزع سلاحه بالقوة. لكن الحرب كانت قد اشتعلت هناك منذ ذلك التاريخ ولم تتوقف بعد.
من جهة أخرى، في ولاية النيل الأزرق، اندلعت المعارك في آخر مطلع سبتمبر (أيلول) 2011 بعد أكثر من شهر من اندلاعها في جنوب كردفان، وهنا استطاعت القوات الحكومية طرد قوات «الجيش الشعبي» الموالية لحاكم الولاية مالك عقار من مدينة الدمازين، حاضرة الولاية، كما أصدر الرئيس عمر البشير مرسوماً أعفاه بموجبه من منصبه، لتلتحق قوات «الجيش الشعبي» برصيفتها في جنوب كردفان في الحرب المستمرة منذ ذلك الوقت.

تركيبة الجيش الشعبي
تتكوّن قوات «الجيش الشعبي لتحرير السودان» من جنود من مجموعات سودانية اختارت الانحياز لجنوب السودان أثناء الحرب الأهلية، وثقلها الأساسي في ولايات جنوب كردفان والنيل الأزرق. ولقد تم تنظيمها فيما اصطلح عليه بالفرقتين التاسعة والعاشرة التابعتين لـ«الجيش الشعبي لتحرير السودان» الأم، وعند الانفصال لم تقطع علاقتها التنظيمية والعسكرية به، حسب وجهة النظر الرسمية في الخرطوم.
هذا، وأعطت اتفاقية السلام السودانية المنطقتين وضعاً خاصاً عُرف بـ«بروتوكول المنطقتين» الذي أقر ما اصطلح عليه بـ«المشورة الشعبية»، لتحديد وجهة نظر شعب الولايتين بشأن اتفاقية السلام، ومدى تحقيقها لتطلعاته، وتسوية النزاع السياسي وإرساء السلام، ووضع ترتيبات دستورية وسياسية وإدارية واقتصادية بخصوص الولايتين. لكن عدم إنفاذ بروتوكول المنطقتين ساهم بشكل كبير في اندلاع النزاع، واعتبره كثيرون امتداداً لسيرة «نقض العهود والمواثيق» التي اتسمت بها الحكومات السودانية تجاه ما تبرمه من اتفاقيات مع مواطنيها.
وكانت المعارك قد تفجرت في دارفور قبيل توقيع اتفاقية السلام السودانية. ودارفور إقليم يحاد دولة «جنوب السودان»، وبالتالي يمكن إدراجه ضمن «الجنوب الجديد»، على الرغم من أنه لم يكن داخلاً ضمن الترتيبات التي أدت إلى انفصال دولة «جنوب السودان». ولاحقاً اتفق المقاتلون في دارفور والمنطقتين، وكونوا آلية عسكرية مشتركة أطلقوا عليها «الجبهة الثورية» أتاحت مشاركة قوات دارفورية في الحرب في جبال النوبا، بعد تراجع عملياتها العسكرية في دارفور. بيد أن «الجبهة الثورية» نفسها تشظت إلى جبهتين، واحدة دارفورية وأخرى تسيطر عليها «الحركة الشعبية - الشمال».
ورسمت الحروب في دارفور وفي جنوب كردفان وفي النيل الأزرق «حزاماً ناسفاً» حال دون استقرار الولايات الجنوبية للسودان، وبالتالي الولايات الشمالية لجنوب السودان، بعدما كان السودانيون يأملون أن يؤدي وقف الحرب وتحقيق مطلب «جنوب السودان» بالاستقلال، إلى سلام مستدام وتنمية سياسية واجتماعية واقتصادية في البلد الذي أنهكته الحروب، وهكذا ولد للسودان «جنوب جديد» مشتعل.

انشقاق الحركة الشعبية
بعد ذلك، شهد الوضع تطوراً جديداً منذ مارس (آذار) الماضي بانشقاق «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال» التي تقود الحرب في «الجنوب الجديد» فعلياً إلى حركتين، على الرغم من احتفاظهما معاً بالاسم والشعارات «السودان الجديد»، ويقود واحدة منها نائب رئيس الحركة الأسبق عبد العزيز آدم الحلو، ويقود الأخرى ثنائياً رئيس الحركة السابق مالك عقار وأمينها العام ياسر عرمان.
وأفضت الأوضاع على الأرض بحكم القوة المقاتلة إلى أن تسيطر المجموعة التي يقودها الحلو على «معظم الأرض» وكثير المقاتلين في المنطقتين «جنوب كردفان والنيل الأزرق». أما مجموعة عقار وعرمان فخلا رصيدها السياسي والتفاوضي إلاّ من «بعض جيوب مقاتلة» في منطقة النيل الأزرق فأصبحت تملك قوة حقيقية على الأرض هناك. ولقد أدى الواقع الجديد إلى «تمايز» في الشعارات التي يرفعها كل من الطرفين للتفاوض مع الحكومة في الخرطوم، فبينما رفع الحلو سقف تفاوضه إلى المطالبة بـ«حق تقرير المصير» للمنطقتين، فإن عقار وعرمان أعلنا عن عزمهما على «تجديد الحركة» وقصر التفاوض مع الخرطوم على القضايا الإنسانية.
الخرطوم، رأت في هذا التشظي إضعافاً للحركة التي كانت تشكل لها «صداعاً» مستمراً. ويرى نائب رئيس الوزراء وزير الإعلام أحمد بلال عثمان في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن تشظي الحركات المسلحة وانقساماتها يخلق مشكلة تفاوضيه تصعب الوصول معها لاتفاق، ولكنه يتابع: «نحن نعرف موازين القوى المسيطرة على الأرض بعد أن انقسمت الحركة إلى حركتين». ويعلن بلال عثمان استعداد حكومته - رغم تشظي الحركة - للتفاوض مع كل منهما على حدة، قائلا: «إذا جاء عقار أو الحلو سنفاوضهما، بل وإذا جاء شخص واحد يريد التفاوض فسنفاوضه، لأن الحركة لم تعد جسماً واحداً». وبعدما اعتبر الانقسام «تلاشياً سالباً للحركة، وزهداً في المقاومة المسلحة»، تابع: «كان عليهم الاتعاظ بهذه الرسالة، التي سبقتهم إليها حركات دارفور المسلحة».
وعلى ما يترتب على الانقسام من صعوبات تفاوضيه، فإن بلال عثمان يجزم بأن حكومته راغبة في السلام لو أن الطرفين راغبين في السلام، لكنها أي الحكومة «لن تتفاوض على الجانب الإنساني فقط»، وهو المطلب الذي تقدمت به مجموعة عقار للوساطة، وهذا يعني رفض الخرطوم لفكرة «الجنوب الجديد برمتها».

حدود «الجنوب الجديد»
ويحدد موقع وزارة الخارجية السودانية على الإنترنت طول الحدود بين السودان ودولة «جنوب السودان» بـ2.175 كيلومترا، تمتد من حدود الدولتين مع أفريقيا الوسطى غرباً، وحدودهما مع إثيوبيا شرقاً. وتقع على الحدود المشتركة بين البلدين 11 منطقة إدارية، 6 منها سودانية وخمس جنوبية، وتدور الحرب في أربع منها، هي جنوب وشرق دارفور، وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
ووفقاً للخارجية، فإن دولتي السودان و«جنوب السودان»تتنازعان على عدد من المناطق الحدودية، ذات الأهمية الخاصة، الممثلة في عدد السكان على طرفي الحدود البالغ عشرة ملايين نسمة، وتوافر عدد من الموارد الطبيعية بها، إضافة إلى ثراءها بالمياه والثروات الحيوانية. وهي خمس مناطق رئيسية أكبرها منطقة أبيي الغنية بالنفط، ودبة الفخار بولاية النيل الأبيض، وجبل المقينص على الحدود المشتركة بين النيل الأبيض وجنوب كردفان و«جنوب السودان»، ومنطقة كافيا كنجي الشهيرة بحفرة النحاس مع جنوب دارفور، وكاكا التجارية مع جنوب كردفان.
الدكتور الواثق كمير، وهو أكاديمي انتمى لـ«الحركة الشعبية لتحرير السودان» على عهد مؤسسها الراحل الدكتور جون قرنق، يقول إنه «من الطبيعي أن يكون هناك جنوب جغرافي للسودان بعد انفصال الجنوب وإنشاء دولته، كما له شمال وشرق وغرب جغرافي». ويتابع في حديث لـ«الشرق الأوسط» شارحاً «بهذا المعني، فالجنوب الجديد يضم: جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وغرب كردفان وجنوب دارفور... لكن مفهوم أو تعبير الجنوب الجديد، الذي شاع بعد انفصال الجنوب، خاصة من بعض قيادات الحركة الشعبية شمال، ينطوي على حمولة سياسية وجيو سياسية إذ إن المنطقتين، جنوب كردفان والنيل الأزرق، كانتا تابعتين تنظيمياً إلى قطاع الجنوب».
ويضيف كمير أن مفهوم «الجنوب الجديد» يواجه ثلاث مشاكل منهجية تحيط به، موضحاً «أن الأولى هي حمل السلاح من أجل التغيير وإزالة التهميش هو القاسم المشترك في تعريف هذا الجنوب الجديد. والثانية إنه تعبير يستحدث الآخر في مواجهة المجموعات في المناطق الأخرى من السودان، بما يعيد إنتاج التصور القديم للشمال عن الجنوبيين من منطلقات عرقية وثقافية... ويحمل في طياته قدراً كبيراً من الآيديولوجيا والإيحاءات العنصرية. أما ثالث المشاكل فهي أنه يضع عبء ومسؤولية التحول والتغيير في شمال السودان على عاتق أهل الجنوب الجديد، ما يصعّب ويعقّد مهمة قوى السودان الجديد في تعبئة وحشد قطاعات مختلفة من السودانيين بغض النظر عن انتماءاتهم من ناحية العرق والإثنية والدين والجنس (الجندر)». ويقطع كمير بأهمية تجاوز المفهوم الآيديولوجي الذي يستدعيه مصطلح «الجنوب الجديد»، ويرى أنه شكل من أشكال إعادة إنتاج الأزمة مجدداً.

الواقع الملتهب
ورغم «آيديولوجيا المفهوم» التي أشار إليها كمير، فإن «الجنوب الجديد» واقع جغرافي لا يمكن تجاهله، فضلاً عن كونه واقعا «ملتهبا» ما زال النزاع حول وضع علاماته الحدودية مع الدولة الوليدة لم يكتمل بعد. وما زال البلدان يتصارعان لتحديد حدودهما بدقة.
الحكومة السودانية تتهم حكومة «جنوب السودان» بدعم وتشوين وتمويل وإيواء قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال»، باعتبارها كانت جزءاً من جيشها، وتكونان الفرقة التاسعة والعاشرة، لكن سلطات جوبا دأبت على النفي، والرد بأن الخرطوم هي الأخرى تدعم متمردين ضد حكومتها، آخرهم دعمها تمرد نائب الرئيس السابق رياك مشار. وينسب إلى وزير الدفاع السوداني الأسبق عبد الرحيم محمد حسين قوله، إن قوات «الحركة الشعبية» تتمركز في منطقة يابوس بولاية النيل الأزرق، وفي مناطق كاودا وهيبان بولاية جنوب كردفان، وتسميها «المناطق المحرّرة»، كما تملك مراكز تدريب في يابوس وسمري، وكتائب أخرى في أورا ودقيس، ووحدات صغيرة في مناطق أخرى.
ويعترف الزعيم المعارض البارز ورئيس الوزراء الأسبق الصادق المهدي في إفادة لـ«الشرق الأوسط»، بوجود مشاكل في المنطقة التي سميت مناطق المشورة الشعبية في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، ويرى أن سببها أن تنفيذ اتفاقية السلام الشامل تجاهل ربط التنفيذ بقضية المنطقتين لتحسما دفعة واحدة.
ويوضح المهدي أن الإبقاء على قوات من «الجيش الشعبي» في جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق، فتح المجال لنشوب الحرب، بل ولم تنفذ الاتفاقية الإطارية بين الحكومة السودانية و«الحركة الشعبية» - تعرف باتفاقية نافع عقار – ويضيف: «لو أنها نفذت لأغنتنا عن هذه التعقيدات التي حدثت، بل أجهضها النظام الذي وقعها ما خلق أجواء أدت لتصعيد المطالب».
ويرى المهدي أن المنطقتين - في «الجنوب الجديد» - تختلفان عن جنوب السودان «القديم»، ولا يمكن أن تسيرا في طريق حق تقرير المصير. وأن فكرة تقرير المصير، أصبحت تعني ما يحدق في جنوب السودان بنتائجه العكسية والفاشلة التي جعلت حتى جنوبيين يرغبون في مراجعته.
ويجزم المهدي باستمرار الحرب طالما لا يوجد حل سياسي للمشكلة، ويتابع: «للأسف الحكومة السودانية غير مستعدة لدفع استحقاقات الحل السياسي. وطالما هذا مستمر، فحتى إذا تمزّقت الحركات المسلحة إلى أكثر من فصيل ستظل هناك حالة حربية»، ويستطرد «ما دام لا يوجد اتفاق سياسي فإن أي عدد لديه مظلمة وسلاح وناس مدربين سيواصل التحدي للأمن، ولن تنتهي مسألة المخاطر الأمنية إلاّ بموجب اتفاق سياسي حتى لو تمزقت القوى المسلحة المسيسة».
وحقاً، أدت الحروب في «الجنوب القديم» إلى مقتل أكثر من مليونين وأعداد من الجرحى والمعاقين، وإلى نزوح الملايين، وهجرة أعداد كبيرة للدول المجاورة. وكبّدت الاقتصاد السوداني مليوني دولار يومياً، ما أدى إلى خلق اختلالات جوهرية في اقتصاد البلاد، أدت لخفض الناتج القومي، وتزايد نسب التضخم، وارتفاع معدلات البطالة، وسوء الخدمات.
وكان مأمولاً حدوث تطور سريع في معالجات الاختلالات الاقتصادية والاجتماعية التي صاحبت الحرب الأهلية، بعد توقيع اتفاقية السلام وانفصال – استقلال – جنوب السودان، لكن اشتعال الحرب في «الجنوب الجديد» أزهق أرواح أكثر ثلاثمائة ألف نسمة في دارفور وحدها حسب إحصاءات دولية – تعترف الحكومة بعشرة آلاف منهم – ونزوح ولجوء، وينسب إلى مدعي المحكمة الجنائية السابق لويس مورينو أوكامبو أنه قال إن الحرب تسببت في نزوح 2.5 مليون شخص داخلياً. وقالت منظمة الهجرة الدولية في تقرير صادر 2016 إن السودان يحتل المرتبة الرابعة في قائمة الدول المصدرة للاجئين بعد إريتريا والنيجر والصومال.
ولا توجد إحصائيات دقيقة تتعلق بأعداد القتلى والجرحى والنازحين واللاجئين بسبب الحرب بين الجيش الحكومة والجيش الشعبي، فإن آلاف الأشخاص لقوا حتفهم، فيما تشرد وهجر ونزح مئات الآلاف بسبب الحرب في المنطقتين.
لكن «المصطلح» بمدلوله الذي أطلقه به الأمين العام السابق للحركة الشعبية ياسر عرمان، يواجه منذ أشهر تحدّي الانقسام الرأسي الذي تشهده واسطة عقد «الجنوب الجديد» أي «الحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال»، الذي بلغ ذروته بإقالة رئيسها مالك عقار وأمينها العام، وتعيين نائب الرئيس السابق عبد العزيز آدم الحلو رئيس للحركة وقائداً لجيوشها.
ما حدث من تغيير دراماتيكي في قيادة الحركة يهدد آيديولوجيا «الجنوب الجديد» بشكل كامل، وهو ما يصفه المحللون بأنه ربما يصبح انكفاءة جهوية، تسوق المناطق التي تسيطر عليها الحركة باتجاه شبيه بما حدث للحركة الأم، التي حققت أغراضا جهوية «استقلال جنوب السودان» على حساب شعارها الذي خاضت حربها الطويلة تحته «السودان الجديد».
ويقول الصحافي والمحلل السياسي حسن بركية، إن قيادة الحركة الجديدة مواجهة بتحدي كبير لتصحيح الأوضاع، وإقامة بناء تنظيمي متماسك، ويتابع: «الحلو يجد الآن دعماً كبيراً، وهو صاحب خبرة يمكن أن يحقق نجاحات»، ويقطع بفشل الحديث عن انقسام في الحركة على أساس مناطقي – من منطقة – بقوله: «الحديث عن انقسام مناطقي، فشل الرهان عليه، بدليل أن المنطقتين اتفقتا على القرارات».



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.