السينما تحب سان فرانسيسكو والمدينة الساحرة تحبها

مهرجانها احتفاء نادر بالسينما الصامتة

كيم نوفاك تحت الجسر في «فرتيغو»
كيم نوفاك تحت الجسر في «فرتيغو»
TT

السينما تحب سان فرانسيسكو والمدينة الساحرة تحبها

كيم نوفاك تحت الجسر في «فرتيغو»
كيم نوفاك تحت الجسر في «فرتيغو»

ارتسم الرقم 22 على ملصق مهرجان «سان فرانسيسكو للفيلم الصامت». المناسبة السنوية شدت إليها في الشهر الماضي الجمهور الكبير ذاته الذي ما انفكت تجذبه منذ أن أقيمت للمرّة الأولى سنة 1985.
خلال هذه الفترة تم عرض مئات الأفلام القصيرة والطويلة. بعضها متوفر بعدما قامت المؤسسات المختلفة بحفظه وترميمه، والبعض الآخر كان وجوده إما اكتشافاً فعلياً أو استعادة لما غاب عن البال والعين منذ سنوات بعيدة.
هذه كانت حال دورة 1999 عندما تم تقديم مجموعة من أفلام الرسوم المتحركة التي أنتجت ما في أميركا وفي فرنسا بين 1917 و1928. أميركياً، لم يكن والت ديزني الأول ولا الوحيد في مجال هذا الفن، لكنه تبلور على أنه الأشهر.
في دورة 2014 تم عرض مجموعة رائعة من أفلام أفضل ثنائي كوميدي في تاريخ السينما: لوريل وهاردي. البعض يحيل ما قدّماه من أفلام إلى الترفيه المطلق، وهذا صحيح، لكنه كان ترفيهاً بعيداً عن التهريج.
في الدورة ذاتها تم تقديم عدد من أفلام تشارلي تشابلن للبحث في الجانب التقني في عمل ذلك المخرج - الممثل. وقبل عام من ذلك التاريخ أعاد المهرجان اكتشاف أفلام لنجمة بزغت قبل مائة سنة اسمها ألما روبنز وتقاضت، حينها، 3 آلاف دولار في الأسبوع الواحد لقاء أفلامها التي شملت عملين لديفيد وورك غريفيث هما «مولد أمّة» (1915) و«تحمّل» (1916).
* أقدم صالة سينما
هذا العام، ومن بين ما تم تقديمه خلال أيام المهرجان الأربعة (فقط) مجموعة من الأفلام تحت عنوان «1917: السنة التي غيّرت الأفلام» وفيلم ارنست لوبيتش عنوانه «الدمية» (مع أوسي أوسفالدا وهرمان تيمنغ. والفيلم البريطاني «المخبر» لآرثر روبيسون (1929) والفيلم الرائع الذي يمكن اعتباره المنبع الأول لسلسلة «جيروسيك بارك»، وهو «العالم المفقود» لهاري هويت (1925) كما تم اقتباسه حينها عن رواية لآرثر كونان دويل، ذلك الكاتب البريطاني الذي اشتهر بروايات شرلوك هولمز لكنه قرر بعد سنوات من سرد حكايات ذلك التحري التوجه إلى عمل فانتازي حول رحلة استكشاف لعالم ما قبل التاريخ.
جميل أن يقع هذا المهرجان في مدينة ما زالت تملك أقدم صالة سينما عاملة (أي ما زالت تعرض الأفلام طوال حياتها) في الولايات المتحدة، والثانية في العالم، وهي سينما روكسي التي تم إنشاؤها سنة 1909. كما لديها نحو خمس صالات قديمة أخرى تم تأسيسها في الفترة الصامتة ولم تتوقف عن العمل إلى اليوم.
المدينة ذاتها ارتسمت على الشاشة في عام 1905 عندما قام المصوّر هاري مايلز بنصب كاميرته في مقدمة «ترام» المدينة المتجهة إلى السوق ليصوّر كل ما يرد أمامه من حركة مشاة وسيارات وعربات تجرها الخيول وذلك في فيلم ما زال متوفراً على «يوتيوب» بعنوان A Trip Down Market Street Before the Fire. المعروف أن المدينة بعد أشهر من هذا الفيلم شهدت زلزالاً كبيراً نتج عنه حرائق كثيرة ونحو 3 آلاف ضحية، مما يجعل الفيلم مادة وثائقية مهمّة عن الحياة في المدينة.
بعده بأقل من عام واحد قام مجهول، لم يتوصل التاريخ لمعرفة من هو ولا اسمه ورد على الفيلم، بتحقيق فيلم عن زلزال سان فرانسيسكو بعنوان «سان فرانسيسكو: آثار الزلزال». ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم هناك أفلام كثيرة دارت رحاها في المدينة الجميلة التي ترتفع فوق تلالها المتوالية المشرفة على ذلك الخليج. للشمال يكمن جسرها الشهير وليس بعيداً عن شاطئها تقع جزيرة ألكاتراز الشهيرة. في قلب المدينة هناك ذلك الترام ذاته الذي ما زال يعمل في وسطها، و«قصر الفنون العظيمة» القابع قريباً من شاطئ البحر وسط حديقة جميلة. محل فلافل أسسه فلسطيني ومطعم همبرغر ما زال قائماً منذ افتتاحه قبل أكثر من أربعين سنة.
أبرز تلك الأفلام حفنة من نحو عشرين فيلماً روائياً بعضها أمّ مكان أحداثها المختار من الروايات التي تم اقتباسها، والبعض الآخر اختارها لأسباب تكمن في جماليات المدينة.
هل كان من الممكن مثلاً أن يتم تصوير «فرتيغو» لألفرد هيتشكوك (1958) في نيويورك؟ سان فرانسيسكو منحت الفيلم الميزة المكانية المرتبطة المضمومة إلى باقي الخصائص الدرامية والفنية المدفونة في هذا الفيلم الرائع.
ذلك المشهد المصوّر مباشرة تحت جسر «البوابة الذهبية» حيث تدعي كيم نوڤاك انتحارها أمام عيني جيمس ستيوارت الملتاعة ذعراً لا ينسى. كذلك مشهد البداية عندما نرى هذا التحري يقفز فوق أسطح المباني المشيدة فوق تلك الهضاب معرضاً نفسه للخطر.
أفلام تشويق بوليسي أخرى عدة تم تصويرها في سان فرانسيسكو ثلاثة منها تنتمي إلى الفترة الأربعيناتية - تم تصويرهما في هذه المدينة أيضاً هما «ميت عند الوصول» (أو D‪.‬O‪.‬A)، أفضل ما حققه المخرج رودولف ماتي (1950) و«السيدة من شنغهاي» لأورسن وَلز (1948) وقبلهما «الصقر المالطي» (The Maltese Falcon) الذي أخرجه جون هيوستون سنة 1941
* حكايات المدينة
إنها مدينة تصلح للمطاردات وفيلم بيتر ياتس «بوليت» مع ستيف ماكوين (1968) ما زال فيلما تحاول هوليوود تقليد مطارداته إلى اليوم. يكتشف التحري بوليت أن هناك سيارة تلاحقه ويريد أن يعرف لماذا. يقود سيارته (فورد موستانغ) بهدوء. موسيقى لالو شفرن ترصده بإيقاع مذهل. بعد قليل يكتشف المطارد (بالراء المكسورة) بأنه أصبح مطارَداً. ها هو ستيف ماكوين يبدو للسائق ورفيقه في المرآة الخلفية. يحاولان الفكاك. تبدأ المطاردة التي ما زالت الأقوى بين كل ما حققته هوليوود من أفلام مماثلة. هنا أيضاً لم يكن ثمة مدينة أخرى تستطيع توفير ما وفرته سان فرانسيسكو له من مزايا على أكثر من صعيد.
بعد ثلاث سنوات ظهر كلينت إيستوود في «ديرتي هاري» الذي تم اقتباسه عن أحداث حقيقية (عاد إليها ديفيد فلنشر في فيلمه «زودياك» سنة 2007) حول قاتل متسلسل. مع أن إيستوود ومخرجه دونالد سيغال حررا الفيلم من أصله إلا أنه كان عليهما تصوير الفيلم في هذه المدينة دون سواها.
إليها عاد سيغال وإيستوود بعد بضع سنوات لتصوير فيلم آخر هو «هروب من الكاتراز» (1979) أيضاً عن حكاية حقيقية. سنة 1996 دارت أحداث «الصخرة» لمايكل باي في تلك الجزيرة - السجن وقبلهما فيلم جون فرانكنهايمر «طائر ألكاتراز» الذي تقع أحداثه في ذلك السجن الذي قلما استطاع سجين الهرب منه إلى اليابسة.
«بوينت بلانك» لجون بورمان (1968) صوّر هناك بعض المشاهد لكن معظم أحداثه دارت في المدينة نفسها. وإذا أطلنا الفحص نجد أعمالاً كثيرة أخرى ليست جميعاً بوليسية (هناك على سبيل المثال «بلو جاسمين» العاطفي الخفيف لوودي ألن و«ميلك» الدراما الاجتماعية التي حققها غس فان سانت).
إذ تقود سيارتك فوق تلك الهضاب في طريقك إلى الساحل تود أن تقلّد ستيف ماكوين وهو يقود سيارته بالسرعة التي تجعلها تطير (فعلياً) كلما وصلت إلى قمة هضبة قبل أن تحط على الأرض ثانية. لكنك مقيد بالقانون وتخشى أن يفلت زمام الأمر وتنتهي في مياه الخليج. وتبقى على حال هادئ حتى الوصول إلى تلك الصالة التي تعرض أفلام الأمس الساحق في ذلك المهرجان المتلألئ بالاكتشافات المذهلة.
ذلك أن قيمة تلك العروض التاريخية ليست في الرحلة إلى الماضي التي تقوم بها بمصاحبة الأوركسترا فقط، بل فيما تكتشفه من كنوز في الإخراج والتصوير والتمثيل. أسماء تداولها التاريخ وأخرى نسيها. أحد هذه الأفلام المنسية (أو حتى التي لم يُعرف أنها ما زالت موجودة) فيلم بعنوان «رجل قوي» (1929) آت من غياهب تاريخ السينما البولندية وهو فيلم يجمع بين مخرج بولندي (هنريك شارو) وممثل روسي (غريغوري كمارا) ومدير تصوير إيطالي (جيوفاني فتروتي) حول كاتب قصصي فاشل، رغم موهبته، يسرق نص رواية وضعها كاتب ناجح مات قبل أن يبعث بها للنشر وينسبها إليه.
مزيج أوروبي آخر نجده في «المخبر» (1929 أيضاً). الإنتاج بريطاني. الإخراج للألماني آرثر روبيسون. البطولة الرجالية للسويدي لارس هانسون والنسائية للمجرية ليا د بوتي. وكل هذا في اقتباس لرواية الآيرلندي ليام أو فلاهرتي التي تدور حول رجل وشى بصديقه معتقداً أن صديقه ينافسه على حب امرأته.
* الرجل والمرأة
جون فورد حقق هذه الرواية لاحقاً (سنة 1935) من بطولة فيكتور ماغلاغلن الذي نال أوسكار أفضل ممثل رئيسي بينما نال المخرج أوسكار ثانياً وتوجه الأوسكار الثالث إلى كاتب السيناريو دادلي نيكولز والرابع إلى موسيقى ماكس شتاينر.
الفترة الصامتة كانت مشغولة، في عشرينات القرن الماضي، بمواضيع كثيرة حول المصائر البشرية على النطاق الفردي. إلى ما سبق من مصائر رجالية (يكتشف بطل «المخبر» بأن صديقه لم يكن على صلة بامرأته وينهار الكاتب الروائي في «رجل قوي» على عكس عنوان الفيلم) كانت هناك مآسي اجتماعية بطلها الرجل أيضاً وقد تمثلت أفضل تمثيل بفيلم للسويدي المبكر فيكتور سيوستروم «كان هناك رجل» (1917) المأخوذ عن أشعار لإبسن بذات العنوان حول بحار يحاول إطعام عائلته خلال حصار بريطاني فرضته البحرية على فنلندا. نتيجة ذلك يتم سجنه وتموت عائلته جوعاً.
والمرأة كانت تشارك الرجل في تلك الدراميات الاجتماعية الكبيرة. مخرجتان من الفترة ما زالتا تثيران الاهتمام لليوم هما لويس وَبر التي عرض لها المهرجان «فتاة بورتيشي الحمقاء» (1916) من بطولة الروسية آنا بافلوفا ودوروثي أزنر صاحبة فيلم «احصلي على رجلك» (1927) من بطولة وجه آخر ساحر من تلك الفترة وهي كلارا بو.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)