أميركا: محنة المسلم البريء مع اليمين المتطرف

حول انتقائية بعض الغرب وازدواجية معاييره

نفذ تيموثي ماكفاي في 1995 عملية إرهابية في مدينة أوكلاهوما راح ضحيتها نحو 168 شخصاً («الشرق الأوسط»)
نفذ تيموثي ماكفاي في 1995 عملية إرهابية في مدينة أوكلاهوما راح ضحيتها نحو 168 شخصاً («الشرق الأوسط»)
TT

أميركا: محنة المسلم البريء مع اليمين المتطرف

نفذ تيموثي ماكفاي في 1995 عملية إرهابية في مدينة أوكلاهوما راح ضحيتها نحو 168 شخصاً («الشرق الأوسط»)
نفذ تيموثي ماكفاي في 1995 عملية إرهابية في مدينة أوكلاهوما راح ضحيتها نحو 168 شخصاً («الشرق الأوسط»)

رويداً رويداً ينكشف زيف المعادلة غير الأخلاقية التي تحكم توجهات البعض في الغرب جهة الإسلام والمسلمين، ذلك أنها معادلة غير عادلة بالمطلق لا سيما، أنها تحمل بين طرفيها تناقضاً واضحاً وفاضحاً فكل اعتداء ينسب للمسلمين أو تعرض فيه الحياة البشرية أو الممتلكات الشخصية للخطر، مهما علا شأن الأمر والتهديد أو انخفض، وحتى لو لم يكن حقيقة، بل شبه حقيقية أو زعم باطل، هو بالضرورة والحتمية التاريخية ضرب من ضروب «الإرهاب الإسلامي».
وفي المقابل، فإن أي تهديد يتأتى من الرجل الأبيض لا يمكن تجاوز وصفه إلى حد أبعد من فكرة «العمل الجنائي الفردي»، الذي لا يهدد نمط الحياة الغربية أو يختصم من الأمن والسلم الدوليين.
نهار السبت الرابع والعشرين من يونيو (حزيران) الماضي كانت صحيفة «إندبندنت» البريطانية تنشر دراسة قام بها معهد الأمة الأميركي للأبحاث في واشنطن، تتصل بأحوال ومآل الإرهاب في الداخل الأميركي، وبالهجمات التي تعرضت لها البلاد بنوع خاص في الفترة التي تقع ما بين عام 2008 وعام 2016، ومن الذي يقف وراءها.
كان المقطوع به بداية لدى قارئ الدراسة في الغرب الأوروبي أو الأميركي القول إن المسلمين هم المسؤولون بالدرجة الأولى عن تلك الهجمات، وهو أمر يتسق مع موجات الإسلاموفوبيا الطاغية التي تعانيها البلاد في الآونة الأخيرة، وتحديداً في العقدين الماضيين.
لكن المفاجأة كانت خلف الباب، وذلك أن الدراسة أشارت إلى أن غالبية تلك الهجمات الإرهابية نفذتها جماعات متطرفة غير إسلامية، ولا علاقة لها بالإسلام من قريب أو من بعيد... على مَن تُلقي دراسة معهد الأمة الأميركي للأبحاث مسؤولية تلك العمليات الإرهابية؟
تشير الدراسة إلى مسؤولية المتطرفين اليمينيين البيض في الداخل الأميركي عن غالبيتها الكاسحة والساحقة؛ فخلال الفترة الزمنية محل البحث جرت المقادير بـ115 هجوماً، كان من بينها الحادث الذي وقع عام 2015، وأدى إلى مقتل ثلاثة في مركز لتنظيم الأسرة بولاية كولورادو، على يد الأميركي روبرت دير، والدراسة تقول إن الرجل الأبيض هو من قام بمجموع العمليات المتقدمة، وليس المسلمين في الداخل الأميركي.
أضف إلى ذلك، فقد أشارت الدراسة إلى جزئية أخرى ذات أهمية في مجال مكافحة الإرهاب أميركيّاً، وهي تتعلق بإجراءات الشرطة والتدابير الأمنية، فقد تم إحباط 76 في المائة من الحوادث ذات الدوافع الإسلامية، مقابل 35 في المائة من الحوادث المتطرفة لجهات يمينية أخرى وفق الدراسة ذاتها.
يعنّ لنا أن نتساءل: مَن الذي يروج لفكرة أن الإسلاميين هم البرابرة الجدد في الداخل الأميركي، وأن كل شرٍّ يقفون وراءه، وكل إرهاب يدعمونه ويقومون به في الحال والاستقبال؟
ربما يلزمنا الرجوع إلى شهود عدول، وشهادتهم غير مجروحة من عينة ديبا كومار، أستاذ الدراسات الإعلامية ودراسات الشرق الأوسط بجامعة روتغرز الأميركية، ومؤلفة الكتاب الشهير، «فوبيا الإسلام والسياسية الإمبريالية».
ترى كومار أن هناك «أوبرا ضخمة» تزيف الحقائق في الداخل، ليظل الرأي العام الأميركي أسير فكرة ووهم أن العاملين في مجال إنفاذ القانون «يبقون على أميركا آمنة من حشود (الإرهابيين الإسلاميين البرابرة)» ولكن حتى بمساعدة هذا الخداع الدقيق، ونظام عدالة بأكمله يلوي عنقه لخدمة احتياجات ما يسمى الحرب على الإرهاب، لم تتمكن الحكومة الأميركية إلا من إصدار 20 عريضة اتهام سنوياً، بشأن مخططات إرهابية عنيفة... هل من قراءات موثوقة عن هذا الشأن في الداخل الأميركي؟
خذ إليك على سبيل المثال لا الحصر البيانات الصادرة عن «المركز الثلاثي» الأميركي، المعني بـ«الإرهاب وأمن الوطن»، التي تبين الفجوة الضخمة بين التهديدات التي تصورها وسائل الإعلام، والكتاب الموسومين بوسم «الإسلاموفوبيا» وواقع الحال، ومن بين تلك البيانات على سبيل المثال ما يتفق مع أرقام وإحصائيات «معهد الأمة الأميركي» الأخيرة، فعلى سبيل المثال، قتل من الأميركيين في عام 2011 نحو أربعة عشر ألف شخص، لم تكن هناك حالة وفاة واحدة ناجمة عن «مخططات المسلمين الإرهابية» كما يتقولون.
مَن قتل 150 ألف أميركي؟
تبين إحدى دراسات «مركز الأمن الثلاثي» الشاملة عن المسلمين الأميركيين الذين خططوا لهجمات إما محلية أو دولية أو الذين انضموا إلى جماعات مدرَجَة على القائمة الحكومية للمنظمات الإرهابية خلال الفترة ما بين سبتمبر 2011 ومايو (أيار) 2011 ما مجموعه 172 شخصاً مشتبهاً في أنهم إرهابيون أو ارتكبوا أعمال إرهاب.
ومن أولئك، شن 11 شخصاً فقط بالفعل هجمات داخل الولايات المتحدة، وكانوا مسؤولين عن وفاة ثلاثة وثلاثين شخصاً آخرين خلال عقد من الزمان... والسؤال: ماذا عن البقية؟
من الحالات المذكورة في القائمة وعددها 172 حالة، كان تسعة وعشرون لا يزالون رهن المحاكمات وقت نشر الدراسة، وكانت ثلاث وستون حالة تنطوي على مخبر سري.
ويذكر التقرير أن الدفاع عن عملية الإيقاع بالمتهمين لم ينجح في هذه الحالات، وقد حضر أربعة وستون من الأشخاص الوارد ذكرهم في التقرير «معسكرات تدريب للإرهابيين في أفغانستان أو باكستان أو الصومال، وإن كان التقرير يوضح أن معظمهم لم يتلقوا تدريباً ميدانياً، ومن هؤلاء الأربعة والستين، عاد ثلاثون فقط إلى الولايات المتحدة».
وأخيراً يذكر التقرير أنه ما من أميركي مسلم صدرت ضده عريضة اتهام لمساعدته أو تحريضه عن علم على هجمات 11 سبتمبر، وإجمالاً قتل 11 شخصاً ترد أسماؤهم في هذه القائمة ثلاثة وثلاثين شخصاً خلال الفترة ما بين عام 2001، وعام 2011، ولكي ننظر إلى هذا من المنظور الصحيح، خلال الفترة ذاتها، حدثت مائة وخمسون ألف جريمة قتل في الولايات المتحدة الأميركية... فهل قتل المسلمون كل هؤلاء دفعة واحدة؟
من بين أهم الأسئلة التي تواجه الباحث في دائرة الشك واليقين الأميركية: مَن الذي يُروِّج لطروحات «الإسلام والمسلمين الإرهابيين» في الداخل الأميركي؟ والجواب بلا شك يتصل بطغمة معروفة من الكتاب والمذيعين والمفكرين الأميركيين، المعروفين بعدائهم التقليدي، والمصابين بـ«رهاب الإسلام» الذين يدورون في فلك جماعات المصالح المؤدلجة التي تحمل كراهية تقليدية للإسلام والمسلمين.
من بين تلك النماذج يمكننا الحديث عن الكتب العنصرية التي صدرت في أميركا خلال العقد الماضي، مثل كتاب «عندما نامت أميركا... كيف يهدم الإسلام المتطرف الغرب من داخله»، للكاتب الأميركي بروس باور، والكتاب تمتلئ صفحاته بالأكاذيب والمغالطات التي تؤكد جهل المؤلف بأبسط تعاليم الإسلام وسلوكياته، وتضعه ضمن أكثر المتطرفين في عدائه للمسلمين، فعبر صفحات الكتاب نجده يقارن في تحريض خبيث للغرب ضد المسلمين، بين الإسلام والنازية، غير أنه وبينما يلقى الكتاب تقديراً وإعجاباً من عدد من المرضى بنفس داء المؤلف، فقد لقي في نفس الوقت هجوماً حاداً من أعداد كبيرة من المثقفين والمؤرخين الأميركيين والأوروبيين المحايدين الذين يحترمون علمهم بسبب هذه المخالفات التي أوردها المؤلف.
كتاب آخر عنوانه «أميركا تقف وحدها: نهاية العالم كما نعرف»، للمؤلف والصحافي اليهودي مارك ستاين، يردد فيه أيضاً نفس النغمة النشاز التي تماثل الكتاب السابق، لكنه لا يكتفي بانتقاده للمسلمين بل يوجه هجوماً حاداً للأوروبيين الذين تركوا - على حد زعمه -الولايات المتحدة تقف وحدها في حربها ضد الإرهاب ولم يفهموا أن مصالحهم تقتضى التحالف مع الأميركيين في هذه الحرب.
وإلى أبعد من ذلك يذهب ستاين، إذ يرى أن العداء للأميركيين كما يشتعل بين جماعات المسلمين المتطرفين حسب وصفه، فهو قائم أيضاً بين المثقفين الأوروبيين، وقدر أميركا أن تقف بمفردها في هذه الحرب، ويكمل بأنه من المتوقع أن ينقسم العالم بين المؤيدين لأميركا والآخرين، لكن المؤكد لديه أن أميركا سوف تنتصر في النهاية.
ولعل المثير هنا هو أن كتاب ستاين عندما صدر كان من أكثر الكتب مبيعاً وانتشاراً، واستُقبِل بحفاوة بالغة من النقاد، بما يؤكد أن أكاذيبه وعنصريته تلقى استجابة من بعض القراء في أوروبا وأميركا ممن ينتمون إلى اليمين المتطرف المعادي للإسلام، وكأن هؤلاء يتعامون عن الخطر الحقيقي الذي يعيش بين جدران إمبراطوريتهم المنفلتة بحسب المؤرخ الكبير بول كيندي.
ومن مزايا الدراسة التي صدرت عن «معهد الأمة الأميركي» للأبحاث أنها تفتح عيون الأميركيين والمسلمين، وبقية شعوب العالم على حقائق معروفة للجميع، غير أن ذاكرة العوام لا تزيد عن ثلاثة أعوام، ولهذا ربما يجدر التذكير بها من جديد.
الدراسة تؤكد أن غالبية الهجمات الإرهابية التي شهدتها أميركا من 2008 إلى 2016 هي قصة تحتاج لقراءة موسعة قائمة بذاتها، ولكن هذا لا يمنع من إضاءات سريعة بشأنها.
على سبيل المثال سوف يبقى 19 أبريل عام 1995 شاهداً على الحقيقة التي يغمض كثير من الأميركيين أعينهم عنها، ففي ذلك النهار الأسود قام الشاب الأميركي الأبيض تيموثي ماكفاي بعملية إرهابية في مدينة أوكلاهوما، راح ضحيتها نحو 168 شخصاً أميركياً، وذلك عندما فخخ شاحنة مليئة بالمتفجرات في المبنى الفيدرالي للمدينة، وكان ماكفاي قد اختار توقيت انفجار الشاحنة مع ذكرى المواجهة المسلحة التي وقعت بين الشرطة الأميركية، ومجموعة «ديفيد كورش» المتطرف اليميني، الذي قتل على يد الشرطة الأميركية عام 1993... هل ارتفعت أصوات تندد بجرائم الرجل الأبيض وتنذر وتحذر من التطرف اليميني الأميركي وقبل سبتمبر 2001 بكثير؟
الشاهد أنه يحسب للرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، أنه كان ذلك الشخص الذي وضع الأميركيين أمام الحقيقة عارية دون تزييف أو تدليس.
في أعقاب تلك الحادثة قال كلينتون إن عملية ماكفاي إنما جاءت تتويجاً لمجموعة من العمليات الإرهابية التي بدأت تشنها مجموعات متطرفة منذ مطلع العقد التاسع من القرن الماضي. ولدى سؤال كلينتون عن المزاج العام للتنظيمات الأميركية المتطرفة وقتها مقارنة بما كانت عليه قبل ثلاثة عقود قال: «بات لدينا الآن عدد كبير من التنظيمات، وهي تعرض أفكارها اليوم بشكل واسع، وتعتبر أن الخلافات السياسية الحالية هي مقدمات لحرب أهلية».
ومن منتصف التسعينات حتى الآن جرت مياه كثيرة في مياه التطرف اليميني الأميركي.



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟