العالم يتحسب من خطورة المقاتلين الأجانب بعد «داعش»

يواجه العالم تحدي التطرف وثقافة الكراهية لدى المقاتلين المتطرفين بعد عودتهم من مناطق الصراع («الشرق الأوسط»)
يواجه العالم تحدي التطرف وثقافة الكراهية لدى المقاتلين المتطرفين بعد عودتهم من مناطق الصراع («الشرق الأوسط»)
TT

العالم يتحسب من خطورة المقاتلين الأجانب بعد «داعش»

يواجه العالم تحدي التطرف وثقافة الكراهية لدى المقاتلين المتطرفين بعد عودتهم من مناطق الصراع («الشرق الأوسط»)
يواجه العالم تحدي التطرف وثقافة الكراهية لدى المقاتلين المتطرفين بعد عودتهم من مناطق الصراع («الشرق الأوسط»)

يحتّم انحسار النفوذ الداعشي في كل من الموصل والرقّة، وبدء انهيار التنظيم النظر إلى ما بعد ذلك، وما سيؤول إليه مصير المقاتلين الأجانب الذين قد يستحيل أعداد منهم إلى قنابل موقوتة قد تتفجر في مكانٍ ووقتٍ مباغت. هذا الأمر يتطلب النظر في مرحلة ما بعد «داعش» مما قد يشكل أزمة فعلية ليست بجديدة إذ تأتي على نسق ما حدث في أعقاب عام 1979، أي في مرحلة ما بعد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، حين واجه العالم معضلة عودة المقاتلين الأجانب إلى أوطانهم مما انبثق منه أشخاص متشددون شكلوا تنظيمات وجماعات إرهابية كثيرة في مناطق متشعبة من العالم كتنظيم القاعدة وجماعة أبو سياف في الفلبين.
وفي سياق مماثل لمرحلة تية تشكل تنظيم داعش نتيجة انشقاق جزء من أعضاء انتموا في السابق لتنظيم القاعدة الأب ليخرجوا عن عباءته ويتفوقوا عليه بطشاً وعنفاً وقدرةً على استغلال التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي لصالحه. وكأن كل تنظيم أو تجربة قتالية متطرفة ينتج عنها تنظيم آخر أكثر تطوراً.
يواجه العالم تحدي التطرف وثقافة الكراهية التي أدت إلى ممارسات عنيفة نجمت عن التحولات الجيوسياسية وثورة التقنية والعولمة، مما أعطى للمقاتلين المتطرفين بعد عودتهم من مناطق الصراع انسيابية وقدرة أعمق على التواصل مع الجماعات والتنظيمات في كثير من البقاع في العالم، ليشكل ذلك تهديداً فعلياً يعيق محاولات إرساء السلام والأمني الدولي.
ويصعب تمييز حجم التهديد الذي يشكله المقاتلون الأجانب في مناطق النزاع مع استحالة إيجاد إحصائيات دقيقة لأعدادهم في كل من العراق وسوريا. وتظهر أبرز إحصائيات تم تداولها إعلاميا في عام 2016، تقديراً لعدد المقاتلين الأجانب المشاركين في مناطق النزاع منذ عام 2011 ما يتراوح بين 27 و31 ألف مقاتل أجنبي ويحملون جنسيات متعددة ما بين عربية وأوروبية وأخرى آسيوية. الأمر الذي أثر على الطبيعة الديموغرافية وتسبب بتهجير وتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين والنازحين من جهة، وأوجد طفرة في المقاتلين الأجانب الذين بدأوا بالتدفق إلى أماكن أخرى هربا من عمليات استهدافهم.
وقد عاد نحو 30 في المائة من هؤلاء المقاتلين إلى أوطانهم منذ عام 2016. ويقابل ذلك أعداد كبيرة ممن قتل بغارات وهجمات من قبل القوات الأميركية وقوات التحالف بعد استهداف أماكن تمركزهم، فيما نزح آخرون إلى مدن أخرى بدءاً بالموصل ومروراً بالرقة، وانتهاءً فيما بعد إلى انتقال أعداد أخرى إلى دير الزور شرق سوريا على الحدود العراقية بحثاً عن ملاذ آمن بعد أن تم تدمير مناطق تركز الداعشيين في الموصل والرقة، وإن اعتبر وجودهم في دير الزور حلاً مؤقتاً لأعضاء التنظيم المكوث فيه، إذ من السهل استهدافهم فيما بعد من قبل القوات الدولية.
ويشكل تضييق الخناق على أعضاء تنظيم داعش ورطة فعلية لأعضائه وخيارات صعبة أكثرها احتداماً اختيار الاستمرار في مناطق النزاع فيما يبدو كمحاولة مستميتة للصمود والتصميم إما على البقاء أو الموت من أجل تحقيق الغاية المنشودة للتنظيم. مثل هذا الخيار في الأغلب لمن لم يضع أي احتمال للعودة إلى دول أخرى خارج مناطق النزاع خوفاً من مواجهة الاعتقال والمحاكمة.
مثل هذه الخيارات المصيرية تكون لقادة التنظيم الذين يدركون استحالة عودتهم إلى أوطانهم سواء نتيجة قناعاتهم المترسخة التي من الصعب تغييرها، أو معرفتهم بحجم الفظائع والجرائم الإرهابية المرتكبة على أيديهم، بالأخص القياديين المطلوبين أمنياً إما في دولهم أو من خلال قائمة المطلوبين عبر مجلس الأمن.
وقد اقترن في حالات كثيرة مدى انتماء المتطرف بالتنظيم بالفترة الزمنية التي قضاها ومسيرته فيها وطبيعة الأعمال التي مارسها، وإن اشتهر تنظيم داعش بإعطائه المقاتلين بمختلف جنسياتهم مهام ميدانية وقتالية، فيما كانت في تنظيمات أكثر تقليدية كـ«القاعدة» حكراً على شخصيات معينة وجنسيات معينة كتفضيلهم للمقاتلين العرب وإعطائهم صلاحيات أكثر. بينما قد ظهر حرص كبير من قبل تنظيم داعش على توسيع دائرة الاستقطاب من أجل الحصول على شبكة دولية، ويظهر ذلك عبر حرصه منذ بداية الغارات الجوية على نقل المقاتلين الأجانب من جنسيات غير عربية من الرقة إلى دير الزور أولاً وقبل المقاتلين العرب، ليتم الاستفادة منهم في حال عودتهم إلى أوطانهم في نشر خلايا نائمة وتحقيق جرائم إرهابية، وفي حال انتقالهم إلى مناطق نزاع أخرى كاليمن وليبيا يتم الاستفادة من تنوعهم لاستقطاب المزيد.
وتعد محاولة الانتقال إلى مناطق نزاع أخرى الخيار الأفضل لمقاتلي «داعش»، إذ يعطيهم أملاً في إيجاد بقعة جديدة كمقر لهم، لا سيما مع استحالة عودة أعداد منهم إلى أوطانهم. وقد ترتبط استمرارية التنظيم بقدرته إيجاد مكان آخر يتمكن فيه من مد نفوذه. فيما فضل عدد كبير من المقاتلين الأجانب هجر الموصل في أعقاب استهدافها عبر هجمات وغارات جوية، وعبر عدد كبير منهم الحدود مروراً بتركيا حيث تم التواصل مع سفاراتهم بحثاً عن سبيل للعودة إلى أوطانهم. وهنا تواجه السلطات المحلية لكل دولة معضلة استقبال المتطرفين كمواطنين مرة أخرى وسبل التعامل معهم. لا سيما مع تفاوت أسباب الانضمام للتنظيم بما فيها مَن تعرَّض للتهديد أو التغرير دون وجود اقتناع فعلي بسلوكياتهم، أو من يحمل رغبة حقيقية في العودة لممارسة حياة طبيعية مستقرة بعيداً عن العنف ومناطق النزاع.
ويقابل ذلك مواجهة هذه الدول لأشخاص قد يمتلكون من الغضب والتطرف أوجه إذ هناك أبناء للمقاتلين تربوا ليصبحوا جيلاً نشأ على العنف والتوحش. إضافة إلى امتلاكهم الخبرة العملية والقدرة على استخدام الأسلحة ما يشكل خطورة فعلية تتضافر مع إمكاناتهم في التواصل مع متطرفين آخرين في مناطق مختلفة من العالم. فيما تأتي من مثل هذه التجارب القتالية ما يعطي المشاركين فيها شرعية وصيتاً كمناضلين مخضرمين يتفوقون على المتطرفين الآخرين تجربة وخبرة.
وحذرت وكالة العدل الأوروبية (يوروجست) في تقرير لها من المخاطر الناجمة عن عودة أسر المتطرفين الأوروبيين الموجودين في مناطق النزاع في كل من سوريا والعراق. وأفادت بأنه يتعين على السلطات في كل دولة تقدير مدى خطورة كل فرد من العائدين على حدة. مثل هذه الحيثيات تحتم ضرورة النظر في أسباب انضمام المقاتلين الأجانب إلى التنظيم وإن تمت أدلجتهم دينياً وتقمصهم للقناعات الداعشية أم أن لديهم قابلية للانصهار في المجتمع.
فقد امتاز التنظيم منذ بدايته بقدرته على التغلغل والتواصل الإلكتروني بدهاء وأسلوب يختلف حسب توجهات وميول المستهدفين وبأسلوب قادر على التأثير النفسي، مما جعل مسببات الانضمام للتنظيم لم تعد حكراً على الإيمان بمعتقدات دينية معينة كما في السابق وعلى غرار التنظيمات الأخرى الأكثر تقليدية. إذ تفشى في الآونة الأخيرة الانضمام إلى التنظيمات بأسباب وجودية هرباً من ضغوط اجتماعية معينة أو بحثا عن الإثارة وروح المغامرة. الأمر الذي وإن كان يسهل من قابلية تغيير التوجهات المتطرفة للشخص لدى عودته إلى بلاده، إذ تدلل مثل هذه المسببات لانضمامه على عدم أدلجته التامة كما يحدث مع من يمتلك القناعة الدينية المتشددة، إلا أن البحث عن الإثارة أو الأسباب الاجتماعية تعطي مثل هذا المقاتل دافعا آخر للبحث والانضمام لتنظيمات أخرى مشابهة، من أجل إيجاد تلك البيئة الحاضنة له، التي تتلاشى فيها الفروقات الاجتماعية، لا سيما نتيجة تعرض الداعشيين للتلقين المستمر الناتج عن الحملات الدعائية الداعشية والدروس الدينية والفكرية المتطرفة المكثفة التي يصعب اجتثاثها من أعماق المتعرضين لها. ويتسبب ذلك بضرورة معرفة مدى إمكانية القدرة على إعادة تأهيل المقاتلين الأجانب إثر عودتهم إلى أوطانهم، إذ لا بد أن تجربة الانغماس بتنظيم إرهابي ينجم عنها ضغوطات وتراكمات نفسية قد تتسبب بانعزال الأفراد وشعوره بالاضطهاد وعدم القدرة على الاندماج في المجتمع بعد تقمص ثقافة الكراهية وإلغاء الآخر، مما يؤدي إلى وجود قابلية قوية للانضمام لتنظيمات أو جماعات متطرفة أخرى تعيد لهم الألفة والحياة التي اعتادوا عليها. وتزيد القابلية للتطرف مرة أخرى في المجتمعات التي يواجه أفرادها فروقات كبيرة في طبيعة المجتمع كالمسلمين في الدول الأوروبية بالأخص مع تصاعد الإسلاموفوبيا، والشعور بالغربة داخل أوطانهم نتيجة اختلافهم عن بقية المجتمع وصعوبة اندماجهم فيه. ويتوجب النظر في القدرة على إعادة تأهيل العائدين إلى أوطانهم من مناطق النزاع ودمجهم بالمجتمع، واكتشاف من لديه قابلية على الاستمرار في التطرف أو حتى إنشاء خلايا نائمة تشكل تهديداً جديداً قد يحيلهم إلى جماعات متطرفة محلية، أو يتم استغلال قدرتهم على التواصل مع التنظيمات الدولية ليصبحوا بمثابة حلقات وصل ما بينهم وبين المتطرفين المحليين. إذ من السهل أن يتم انتقال قدرات وطاقات المقاتلين الأجانب إلى تنظيم آخر بديل أكثر قوة وقدرة على السيطرة.
من الضروري أن تعنى الدول برعاياها من المقاتلين الأجانب العائدين من مناطق النزاع، وتتقبلهم برحابة صدر وسعي في إعادة تأهيلهم، لا سيما أنهم يشكلون خطورة فعلية بامتلاكهم قدرات قتالية وخلفية آيديولوجية متطرفة وقدرة على التواصل مع متطرفين آخرين بشبكات خفية وطرق متشعبة للاستقطاب والتجنيد. لا سيما أنه لا تزال هناك بيئة خصبة تستقطب المتطرفين، في ظل وجود أسباب تستلهم العاطفة وتشعل الطائفية إضافة إلى الوضع المتردي في كثير من مناطق النزاع، كسوريا والعراق واليمن، وهشاشة الوضع الأمني والسياسي فيها.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.