العالم يتحسب من خطورة المقاتلين الأجانب بعد «داعش»

يواجه العالم تحدي التطرف وثقافة الكراهية لدى المقاتلين المتطرفين بعد عودتهم من مناطق الصراع («الشرق الأوسط»)
يواجه العالم تحدي التطرف وثقافة الكراهية لدى المقاتلين المتطرفين بعد عودتهم من مناطق الصراع («الشرق الأوسط»)
TT

العالم يتحسب من خطورة المقاتلين الأجانب بعد «داعش»

يواجه العالم تحدي التطرف وثقافة الكراهية لدى المقاتلين المتطرفين بعد عودتهم من مناطق الصراع («الشرق الأوسط»)
يواجه العالم تحدي التطرف وثقافة الكراهية لدى المقاتلين المتطرفين بعد عودتهم من مناطق الصراع («الشرق الأوسط»)

يحتّم انحسار النفوذ الداعشي في كل من الموصل والرقّة، وبدء انهيار التنظيم النظر إلى ما بعد ذلك، وما سيؤول إليه مصير المقاتلين الأجانب الذين قد يستحيل أعداد منهم إلى قنابل موقوتة قد تتفجر في مكانٍ ووقتٍ مباغت. هذا الأمر يتطلب النظر في مرحلة ما بعد «داعش» مما قد يشكل أزمة فعلية ليست بجديدة إذ تأتي على نسق ما حدث في أعقاب عام 1979، أي في مرحلة ما بعد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، حين واجه العالم معضلة عودة المقاتلين الأجانب إلى أوطانهم مما انبثق منه أشخاص متشددون شكلوا تنظيمات وجماعات إرهابية كثيرة في مناطق متشعبة من العالم كتنظيم القاعدة وجماعة أبو سياف في الفلبين.
وفي سياق مماثل لمرحلة تية تشكل تنظيم داعش نتيجة انشقاق جزء من أعضاء انتموا في السابق لتنظيم القاعدة الأب ليخرجوا عن عباءته ويتفوقوا عليه بطشاً وعنفاً وقدرةً على استغلال التقنية ووسائل التواصل الاجتماعي لصالحه. وكأن كل تنظيم أو تجربة قتالية متطرفة ينتج عنها تنظيم آخر أكثر تطوراً.
يواجه العالم تحدي التطرف وثقافة الكراهية التي أدت إلى ممارسات عنيفة نجمت عن التحولات الجيوسياسية وثورة التقنية والعولمة، مما أعطى للمقاتلين المتطرفين بعد عودتهم من مناطق الصراع انسيابية وقدرة أعمق على التواصل مع الجماعات والتنظيمات في كثير من البقاع في العالم، ليشكل ذلك تهديداً فعلياً يعيق محاولات إرساء السلام والأمني الدولي.
ويصعب تمييز حجم التهديد الذي يشكله المقاتلون الأجانب في مناطق النزاع مع استحالة إيجاد إحصائيات دقيقة لأعدادهم في كل من العراق وسوريا. وتظهر أبرز إحصائيات تم تداولها إعلاميا في عام 2016، تقديراً لعدد المقاتلين الأجانب المشاركين في مناطق النزاع منذ عام 2011 ما يتراوح بين 27 و31 ألف مقاتل أجنبي ويحملون جنسيات متعددة ما بين عربية وأوروبية وأخرى آسيوية. الأمر الذي أثر على الطبيعة الديموغرافية وتسبب بتهجير وتدفق أعداد كبيرة من اللاجئين والنازحين من جهة، وأوجد طفرة في المقاتلين الأجانب الذين بدأوا بالتدفق إلى أماكن أخرى هربا من عمليات استهدافهم.
وقد عاد نحو 30 في المائة من هؤلاء المقاتلين إلى أوطانهم منذ عام 2016. ويقابل ذلك أعداد كبيرة ممن قتل بغارات وهجمات من قبل القوات الأميركية وقوات التحالف بعد استهداف أماكن تمركزهم، فيما نزح آخرون إلى مدن أخرى بدءاً بالموصل ومروراً بالرقة، وانتهاءً فيما بعد إلى انتقال أعداد أخرى إلى دير الزور شرق سوريا على الحدود العراقية بحثاً عن ملاذ آمن بعد أن تم تدمير مناطق تركز الداعشيين في الموصل والرقة، وإن اعتبر وجودهم في دير الزور حلاً مؤقتاً لأعضاء التنظيم المكوث فيه، إذ من السهل استهدافهم فيما بعد من قبل القوات الدولية.
ويشكل تضييق الخناق على أعضاء تنظيم داعش ورطة فعلية لأعضائه وخيارات صعبة أكثرها احتداماً اختيار الاستمرار في مناطق النزاع فيما يبدو كمحاولة مستميتة للصمود والتصميم إما على البقاء أو الموت من أجل تحقيق الغاية المنشودة للتنظيم. مثل هذا الخيار في الأغلب لمن لم يضع أي احتمال للعودة إلى دول أخرى خارج مناطق النزاع خوفاً من مواجهة الاعتقال والمحاكمة.
مثل هذه الخيارات المصيرية تكون لقادة التنظيم الذين يدركون استحالة عودتهم إلى أوطانهم سواء نتيجة قناعاتهم المترسخة التي من الصعب تغييرها، أو معرفتهم بحجم الفظائع والجرائم الإرهابية المرتكبة على أيديهم، بالأخص القياديين المطلوبين أمنياً إما في دولهم أو من خلال قائمة المطلوبين عبر مجلس الأمن.
وقد اقترن في حالات كثيرة مدى انتماء المتطرف بالتنظيم بالفترة الزمنية التي قضاها ومسيرته فيها وطبيعة الأعمال التي مارسها، وإن اشتهر تنظيم داعش بإعطائه المقاتلين بمختلف جنسياتهم مهام ميدانية وقتالية، فيما كانت في تنظيمات أكثر تقليدية كـ«القاعدة» حكراً على شخصيات معينة وجنسيات معينة كتفضيلهم للمقاتلين العرب وإعطائهم صلاحيات أكثر. بينما قد ظهر حرص كبير من قبل تنظيم داعش على توسيع دائرة الاستقطاب من أجل الحصول على شبكة دولية، ويظهر ذلك عبر حرصه منذ بداية الغارات الجوية على نقل المقاتلين الأجانب من جنسيات غير عربية من الرقة إلى دير الزور أولاً وقبل المقاتلين العرب، ليتم الاستفادة منهم في حال عودتهم إلى أوطانهم في نشر خلايا نائمة وتحقيق جرائم إرهابية، وفي حال انتقالهم إلى مناطق نزاع أخرى كاليمن وليبيا يتم الاستفادة من تنوعهم لاستقطاب المزيد.
وتعد محاولة الانتقال إلى مناطق نزاع أخرى الخيار الأفضل لمقاتلي «داعش»، إذ يعطيهم أملاً في إيجاد بقعة جديدة كمقر لهم، لا سيما مع استحالة عودة أعداد منهم إلى أوطانهم. وقد ترتبط استمرارية التنظيم بقدرته إيجاد مكان آخر يتمكن فيه من مد نفوذه. فيما فضل عدد كبير من المقاتلين الأجانب هجر الموصل في أعقاب استهدافها عبر هجمات وغارات جوية، وعبر عدد كبير منهم الحدود مروراً بتركيا حيث تم التواصل مع سفاراتهم بحثاً عن سبيل للعودة إلى أوطانهم. وهنا تواجه السلطات المحلية لكل دولة معضلة استقبال المتطرفين كمواطنين مرة أخرى وسبل التعامل معهم. لا سيما مع تفاوت أسباب الانضمام للتنظيم بما فيها مَن تعرَّض للتهديد أو التغرير دون وجود اقتناع فعلي بسلوكياتهم، أو من يحمل رغبة حقيقية في العودة لممارسة حياة طبيعية مستقرة بعيداً عن العنف ومناطق النزاع.
ويقابل ذلك مواجهة هذه الدول لأشخاص قد يمتلكون من الغضب والتطرف أوجه إذ هناك أبناء للمقاتلين تربوا ليصبحوا جيلاً نشأ على العنف والتوحش. إضافة إلى امتلاكهم الخبرة العملية والقدرة على استخدام الأسلحة ما يشكل خطورة فعلية تتضافر مع إمكاناتهم في التواصل مع متطرفين آخرين في مناطق مختلفة من العالم. فيما تأتي من مثل هذه التجارب القتالية ما يعطي المشاركين فيها شرعية وصيتاً كمناضلين مخضرمين يتفوقون على المتطرفين الآخرين تجربة وخبرة.
وحذرت وكالة العدل الأوروبية (يوروجست) في تقرير لها من المخاطر الناجمة عن عودة أسر المتطرفين الأوروبيين الموجودين في مناطق النزاع في كل من سوريا والعراق. وأفادت بأنه يتعين على السلطات في كل دولة تقدير مدى خطورة كل فرد من العائدين على حدة. مثل هذه الحيثيات تحتم ضرورة النظر في أسباب انضمام المقاتلين الأجانب إلى التنظيم وإن تمت أدلجتهم دينياً وتقمصهم للقناعات الداعشية أم أن لديهم قابلية للانصهار في المجتمع.
فقد امتاز التنظيم منذ بدايته بقدرته على التغلغل والتواصل الإلكتروني بدهاء وأسلوب يختلف حسب توجهات وميول المستهدفين وبأسلوب قادر على التأثير النفسي، مما جعل مسببات الانضمام للتنظيم لم تعد حكراً على الإيمان بمعتقدات دينية معينة كما في السابق وعلى غرار التنظيمات الأخرى الأكثر تقليدية. إذ تفشى في الآونة الأخيرة الانضمام إلى التنظيمات بأسباب وجودية هرباً من ضغوط اجتماعية معينة أو بحثا عن الإثارة وروح المغامرة. الأمر الذي وإن كان يسهل من قابلية تغيير التوجهات المتطرفة للشخص لدى عودته إلى بلاده، إذ تدلل مثل هذه المسببات لانضمامه على عدم أدلجته التامة كما يحدث مع من يمتلك القناعة الدينية المتشددة، إلا أن البحث عن الإثارة أو الأسباب الاجتماعية تعطي مثل هذا المقاتل دافعا آخر للبحث والانضمام لتنظيمات أخرى مشابهة، من أجل إيجاد تلك البيئة الحاضنة له، التي تتلاشى فيها الفروقات الاجتماعية، لا سيما نتيجة تعرض الداعشيين للتلقين المستمر الناتج عن الحملات الدعائية الداعشية والدروس الدينية والفكرية المتطرفة المكثفة التي يصعب اجتثاثها من أعماق المتعرضين لها. ويتسبب ذلك بضرورة معرفة مدى إمكانية القدرة على إعادة تأهيل المقاتلين الأجانب إثر عودتهم إلى أوطانهم، إذ لا بد أن تجربة الانغماس بتنظيم إرهابي ينجم عنها ضغوطات وتراكمات نفسية قد تتسبب بانعزال الأفراد وشعوره بالاضطهاد وعدم القدرة على الاندماج في المجتمع بعد تقمص ثقافة الكراهية وإلغاء الآخر، مما يؤدي إلى وجود قابلية قوية للانضمام لتنظيمات أو جماعات متطرفة أخرى تعيد لهم الألفة والحياة التي اعتادوا عليها. وتزيد القابلية للتطرف مرة أخرى في المجتمعات التي يواجه أفرادها فروقات كبيرة في طبيعة المجتمع كالمسلمين في الدول الأوروبية بالأخص مع تصاعد الإسلاموفوبيا، والشعور بالغربة داخل أوطانهم نتيجة اختلافهم عن بقية المجتمع وصعوبة اندماجهم فيه. ويتوجب النظر في القدرة على إعادة تأهيل العائدين إلى أوطانهم من مناطق النزاع ودمجهم بالمجتمع، واكتشاف من لديه قابلية على الاستمرار في التطرف أو حتى إنشاء خلايا نائمة تشكل تهديداً جديداً قد يحيلهم إلى جماعات متطرفة محلية، أو يتم استغلال قدرتهم على التواصل مع التنظيمات الدولية ليصبحوا بمثابة حلقات وصل ما بينهم وبين المتطرفين المحليين. إذ من السهل أن يتم انتقال قدرات وطاقات المقاتلين الأجانب إلى تنظيم آخر بديل أكثر قوة وقدرة على السيطرة.
من الضروري أن تعنى الدول برعاياها من المقاتلين الأجانب العائدين من مناطق النزاع، وتتقبلهم برحابة صدر وسعي في إعادة تأهيلهم، لا سيما أنهم يشكلون خطورة فعلية بامتلاكهم قدرات قتالية وخلفية آيديولوجية متطرفة وقدرة على التواصل مع متطرفين آخرين بشبكات خفية وطرق متشعبة للاستقطاب والتجنيد. لا سيما أنه لا تزال هناك بيئة خصبة تستقطب المتطرفين، في ظل وجود أسباب تستلهم العاطفة وتشعل الطائفية إضافة إلى الوضع المتردي في كثير من مناطق النزاع، كسوريا والعراق واليمن، وهشاشة الوضع الأمني والسياسي فيها.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.