«فليت ستريت»... مجد الصحافة البريطانية وأطلالها

«مطابخ» التحرير ومكاتب الصحافيين تحولت إلى غرف محامين ومصرفيين

صورة أرشيفية لـ«فليت ستريت» من عام 1890 (غيتي) مع صورة للشارع اليوم (تصوير: جيمس حنا)
صورة أرشيفية لـ«فليت ستريت» من عام 1890 (غيتي) مع صورة للشارع اليوم (تصوير: جيمس حنا)
TT

«فليت ستريت»... مجد الصحافة البريطانية وأطلالها

صورة أرشيفية لـ«فليت ستريت» من عام 1890 (غيتي) مع صورة للشارع اليوم (تصوير: جيمس حنا)
صورة أرشيفية لـ«فليت ستريت» من عام 1890 (غيتي) مع صورة للشارع اليوم (تصوير: جيمس حنا)

تستقيم المباني من اليمين واليسار معانقة فليت ستريت. تلك المباني كانت يوماً مهداً لولادة مطبوعات بريطانيا. صنعت الصحافة مجدها هناك ثم هجر أهلها المكاتب وتناثروا. لا تزال المباني شاهدة على حقبة ذهبية عاشتها الصحف البريطانية العريقة. ولا يزال الشارع اللندني مزدحماً، لكن رواده اليوم تناثروا بين سياح ومحامين ومصرفيين.
زرت فليت ستريت الأسبوع الماضي على أمل العثور على أي أثر خلفه الصحافيون بعد عزوفهم عنه في ثمانينات القرن الماضي. مبنى «الديلي تلغراف» و«الديلي إكسبريس» أصبحا ملكاً لبنك «غولدمان ساكس»، ولم يتبقَ منهما غير ساعة التلغراف الشهيرة وطابع الإكسبريس المعماري المميز. كما تحول مكتب وكالة «رويترز» للأنباء إلى مطعم. المطبوعات الأخرى باتت مكاتب محاماة أو حتى بقالات.
لطالما ارتبط اسم فليت ستريت بالصحافة البريطانية المطبوعة، لكن ملامحه اليوم بددت ذلك الانطباع لدي مع أن تاريخه هو الذي استحقه لقب «شارع الصحافة». جلست لاحتساء القهوة أمام إحدى مقاهيه ولوهلة تخيلت نفسي هناك، لكن قبل 4 أو حتى 5 عقود. مراسلون يركضون إلى مكاتبهم لكتابة سبق صحافي في أمل التفوق على ما ستنشره الصحف المنافسة، رؤساء تحرير يتناولون وجبة الغداء في مطعمهم المعتاد على الشارع ذاته، وموظفو الطباعة يرشفون الشاي استعداداً لليلة طويلة من الصفحات والحبر. فجأة سألني سائح تائه عن الطريق إلى المترو وقطع رحلتي.

* تاريخ شارع الصحافة
في عام 1495، أنشأ وينكين دي ورد، أول مطبعة في «شو لين»، الممر المتقاطع مع «فليت ستريت»، وولدت في تلك الفترة أيضا دار نشر لريتشارد بينسون بقرب كنيسة سانت دنستان الواقعة على شارع فليت. وأصبح اسما دي ورد وبينسون مرتبطيْن بالكلمة المطبوعة والتنوير في بريطانيا منذ ذلك الحين. وتبعتهما مطابع ودور نشر أخرى إلى الشارع ذاته، وكان عملها الرئيسي هو توفير المواد القانونية لمحاكم العدل الملكية الواقعة في آخر الشارع، إلى جانب إصدارات نثرية ومسرحية.
وفي مارس (آذار) 1702، صدر العدد الأول من أول صحيفة يومية لندنية: «ديلي كورانت» من هناك، ثم صدرت الـ«مورنينغ كرونيكل». وبحلول عام 1712 أصبح في لندن 12 صحيفة مختلفة. وبمنتصف ثلاثينات القرن الثامن عشر ازدادت المطبوعات وأصبح لدى العاصمة البريطانية 6 صحف يومية، و12 صحيفة تصدر 3 مرات أسبوعيا، و13 صحيفة أسبوعية. وكان مجمل التوزيع الأسبوعي للمطبوعات مائة ألف نسخة، إلا أن النسخة الواحدة في تلك الأيام كان يقرأها نحو 20 شخصا.
شعبية الصحف قيدتها الضرائب المفروضة عليها في القرن التاسع عشر. لكن في منتصف القرن، أعفيت المطبوعات من الضرائب وأصبحت تكلفة النسخ لا تزيد على سنت واحد، مما شجع ولادة كثير من المطبوعات وتضاعف الشهية الشرائية. وبحلول عام 1880 وصل عدد الصحف إلى 15 جريدة يومية، و383 جريدة أسبوعية، إلى جانب «لندن غازيت» التي كانت تصدرها الحكومة.
وعلى مدار السنوات التالية تحول «فليت ستريت» إلى شارع الصحافة البريطانية وعصبها، وافتتحت جميع الصحف الشهيرة مقرات لها هناك في بدايات القرن العشرين، وانتقلت «ديلي إكسبريس» إلى بناية رقم 121 - 128 على الشارع عام 1931، من تصميم المهندس المعماري أوين ويليامز، وكانت أول بناية بحائط زجاجي «curtain wall» في لندن، وكانت جارتها منافستها «ديلي تلغراف» في بناية رقم 135 - 142 التي تتميز بساعة شهيرة لا تزال موجودة إلى يومنا هذا. وتربعت أمام الصحيفتين وكالة «رويترز» للأنباء بمبنى شامخ يعلو مدخله تمثال «الشهرة».
وصلت شهرة هذا الشارع لذروتها في ستينات وسبعينات القرن الماضي. كان القلب النابض للصحافة والمصدر الرئيسي للأخبار. وأطلق البعض عليه اسم «شارع الفضائح» لانتشار صحافييه ومراسليه في مطاعمه ومقاهيه بحثا عن تسريبات وقصص مثيرة من المنافسين. وكان مركزاً مهماً للمشوار المهني لأي صحافي في البلاد؛ إذ تدرج منه أعلام المهنة.
التكنولوجيا كانت محدودة في تلك الأيام والإرسال كان ضعيفا، فكان من الصعب إجراء الاتصالات، وكان اعتماد الصحافيين أيضا على الكتابة بالقلم، والاستعانة بالآلة الكاتبة لصف الأخبار. وكان لكل جريدة مطبعتها الخاصة القابعة في قبو البناية. لذلك لطالما وُجدت الشاحنات المحملة بلفائف الورق الضخمة وهي تحاول الدخول إلى الشوارع الجانبية لتوصيل شحناتها إلى المطابع. وكانت تعاود الكرة في المساء لتسلم الطبعات وتوزعيها.
* أهل الصحافة يهجرون مكاتبهم
بدأت سطوة شارع الصحافة في الانكماش، وغاب عنه الحبر تدريجيا، بعدما قرر روبرت ميردوخ، مالك شركة «نيوز إنترناشيونال» عام 1986، أن ينقل مطبوعاته «التايمز» و«الصن» و«أخبار العالم» إلى مقر جديد في «وابينغ»، بعيدا عن «فليت ستريت».
كان قرار ميردوخ ماديا بحتا؛ إذ رأى أنه من المستحيل أن تدر صحفه الأرباح في شارع كانت تحكمه سياسات الاتحادات المهنية التي كانت تعنى بحقوق عمال الطباعة والنشر والتوزيع، وأيدته آنذاك رئيسة وزراء البلاد المحافظة مارغريت ثاتشر. وقام ميردوخ بفصل جميع عمال الطباعة وتوظيف كادر جديد يعنى بالنشر الإلكتروني مع إدخال الكومبيوترات والتنقية الحديثة إلى مكاتبه الجديدة، مما أضعف موقف الاتحادات المهنية.
وأدى الأمر إلى خلاف شرس على مدار عام ومظاهرات تحولت إلى مواجهات عنيفة بين الموظفين ورجال الأمن على «فليت ستريت». لكن الأمر انتهى بهزيمة الاتحادات المهنية. وفي عام 1988، نُقلت كل الصحف الوطنية من شارع فليت إلى منطقة دوكلاندز، واعتمدت على طرق الطباعة الحديثة بالكومبيوتر، بدلا من الألواح المعدنية الساخنة، وأصوات الآلات الكاتبة. كما بدأت مطبوعات أخرى بالنزوح من «فليت ستريت» تدريجيا إلى كناري وورف وسوثارك. وكانت وكالة «رويترز» للأنباء من آخر الأسماء الشهيرة التي عزفت عن الشارع عام 2005.
ورحلت آخر مطبوعة شهيرة عن الشارع في أغسطس (آب) الماضي وهي «الصنداي بوست». وتدريجيا، استخدمت المباني التي خلفتها هذه المطبوعات استخدامات أخرى؛ بعضها أصبح محال تجارية أو مطاعم. كما أصبح الشارع مقرا لكثير من البنوك الاستثمارية والتجارية وشركات المحاماة الكبرى، لقربه من المحاكم الملكية. واستولى بنك «غولدمان ساكس» على مبنييْ «التلغراف» و«إكسبريس» الشهيرين. ومع أن الصحافيين هجروا «فليت ستريت»، إلا أن اسمه لا يزال مرتبطا بمسيرة تطور مجالات الطباعة والنشر في بريطانيا، والعالم، ليومنا هذا.
* ثرثرة صحافية على طاولة العشاء
 عُرف «فليت ستريت» آنذاك بوجود كثير من المطاعم والمطاهي التي ارتادها الصحافيون بشكل يومي. التقوا على مائدة الغداء أو العشاء مع منافسيهم من مطبوعات أخرى لتقييم المناخ الصحافي والتغيرات السياسية، وللبحث عن قصص وتسريبات. ومن أقدم وأشهر تلك المحلات مطعم «يي أولد تشيشاير تشيز» الذي تأسس عام 1666 وكان بقعة لكتاب شهيرين مثل تشارلز ديكينز وسامويل جونسون، ثم أضحى مع نشوء المطبوعات بجواره مقراً لهم.
عمل مايكل في المطعم منذ 50 عاماً، ولا يزال يشرف عليه إلى اليوم. ويقول لـ«الشرق الأوسط»: «كان جميع زبائننا من أهل الصحافة قبل أن يرحلوا عن هذا الشارع. وكان هذا المطعم هو المقر الأشهر الذي كانوا يرتادونه بعد ساعات الدوام أو في استراحة الغداء». ويضيف: «كان للمطعم هوية غريبة امتلكها طابع من الطبقية غير المعلنة». ويشرح الرجل السبعيني الإنجليزي مستطرداً: «كان يجلس الصحافيون والمراسلون دوماً في الطابق الأعلى من المطعم، بينما كان يتناول موظفو الطباعة وجباتهم في الطابق الأرضي، وعمال النظافة في المكاتب كانوا يجتمعون في الطابق السفلي (القبو)».
كان مايكل المشرف على طابق الصحافيين. وعن يومياته آنذاك يقول: «كان يرتاده محررون معروفون من المطبوعات المجاورة يتناولون العشاء وأطراف الحديث الذي كان يتحول أحيانا إلى نقاش صحافي أو سياسي ساخن». ويكشف أن صحافيي «أخبار العالم» التابعة لإمبراطورية روبرت مردوخ الإعلامية كانوا الأكثر صخباً ومشاكسة وكانوا يسهرون حتى موعد إغلاق أبواب المطعم.
ماذا عن رواد المطعم اليوم؟ يرد مايكل بحسرة: «تغير الحال اليوم وأصبح زبائن المطعم من المحامين وموظفي البنوك وأحاديثهم ليست شيقة كنقاشات أهل الصحافة». ويضيف: «يزور مطعمنا كثير من السياح بحثاً عن ذكريات شارع الصحافة. فضولهم يدفعهم لسؤالي عن أشهر الصحافيين والكتاب الذين جلسوا على مقاعدنا الخشبية لكتابة أعمالهم المميزة أو لتناول وجبة العشاء مع أقرانهم من أعلام الصحافة».
* الشارع شهد ولادة صحيفة «الشرق الأوسط»
قبل 39 عاما، وتحديدا في الرابع من يوليو (تموز) من عام 1978 ظهرت صحيفة «الشرق الأوسط» الدولية لأول مرة من ساحة «غف سكواير» الصغيرة المتصلة بشارع فليت ستريت، بعدما اشترت الشركة السعودية للأبحاث والتسويق عام 1976 وكالة «برس فوتو» وهي أقدم وكالة صور صحافية بريطانية، واشترت أيضا المبنى الذي كانت تشغله تلك الوكالة. وأصبح مقر الشركة موطئ القدم الأول للمجموعة السعودية في بريطانيا ومهدا لولادة صحيفة العرب الدولية، الخضراء.
هذه الساحة كانت تعبق بالتاريخ والذكريات ففيها وضع العلامة البريطانية ساميول جونسون قاموسه الأول للغة الإنجليزية في المبنى المجاور. وكان فليت ستريت في تلك الحقبة القلب النابض لصناعة الصحافة البريطانية، ولعل ذلك المكان أغرب مقر لتبدأ منه ثورة الصحافة العربية.
عين الأخوان الناشران هشام ومحمد علي حافظ الصحافي جهاد الخازن ليتولى رئاسة تحرير الصحيفة وطلبوا منه بناء كادر مؤهل لإطلاق «الشرق الأوسط». وظهر العدد الأول من الصحيفة متأخرا ساعات قليلة عن الموعد المحدد وكانت تلك السويعات كافية لإفساد البرنامج المعد للتوزيع، وتم استئجار طائرة لتوصيل 40 ألف نسخة إلى السعودية. ولكن في عام 1980 كانت «الشرق الأوسط» من أوائل من اعتمدوا على إرسال الصفحات عن طريق الأقمار الصناعية.
في بداياتها، تألف كادر الصحيفة من عائلة صغيرة منهم عرفان نظام الدين الذي شغل منصب مدير التحرير، وعادل الأحمر سكرتير التحرير، وضمت أسرة التحرير حافظ إبراهيم خير الله وعبد الباري عطوان وحافظ القباني وحسن فؤاد وعادل صلاحي وعادل بشتاوي ووفائي دياب وحسن لقيس ومتعاونين من «بي بي سي». إلى جانب الموظفين الآخرين كالخطاطين وصفافي الأخبار وقسم الإنتاج والتركيب.
وعندما انطلقت الصحيفة، جاء العدد الأكبر من فريق الإنتاج من لبنان، حيث كانوا يعملون في مطبوعات مثل "النهار" و"الحياة" و"الديلي ستار". وكان محمد الملاح رئيس فريق الانتاج، وظل يعمل في "الشرق الأوسط" حتى تقاعده. وأحضر الملاح معه ابن اخيه، واسمه ايضا محمد للعمل كمصور.
ولا يزال البعض من طاقمها المؤسس جزءا من أسرة «الشرق الأوسط» اليوم. منهم إياد أبو شقرا مستشار هيئة التحرير الذي انضم إلى الصحيفة في يوليو (تموز) عام 1979. ويتذكر أبو شقرا لندن والصحيفة في تلك الأيام بقوله «كنا كالعائلة وكانت لندن في تلك الأيام مدينة هادئة (تنام) في عطلة نهاية الأسبوع والمحلات تغلق أبوابها مبكرا لذا كنا نمضي أوقاتنا مع بعضنا البعض». وعن تجربته في غف سكواير يضيف، «كان حلم حياتي أن أكون من أحد صحافيي فليت ستريت، وتحقق ذلك... مؤسسات مثل رويترز والديلي تلغراف والديلي إكسبريس... كنت أسمع عنها في الإذاعة ومن ثم بات مقر عملي جارها». ويكشف الصحافي اللبناني أنه «وسط المطبوعات البريطانية العريقة، كانت تتربع («الشرق الأوسط») على ذات الأكشاك والأجانب عرفوها بلون صفحاتها الخضراء». ويستطرد، «في تلك الأيام لم نشعر أننا غرباء عن باقي قاطني الشارع، بل شعرنا أننا جزء من المنظومة الصحافية».
الصحافي المصري حافظ قباني كان حاضرا من قبل موعد إصدار الصحيفة وتولى الدوليات في بداياتها كما تسلم لاحقا إدارة قسم الترجمة. ويتذكر أيضا البدايات ويقول «العلاقات الإنسانية كانت وطيدة والمناسبات التي كانت تقيمها الشركة كانت مميزة». ويضيف، «كنا في بادئ الأمر نتناول الغداء من المطعم التركي لعدم إلمامنا بالمطبخ البريطاني، لكن بعد فترة تمكنا من اكتشاف المطاعم الأخرى منها مطعم (يي أولد تشيشير تشيز) الذي اشتهر بزبائنه من أهل الصحافة». ومن ذكرياته في فليت ستريت اكتظاظه بمركبات الشحن الخاصة بالمطابع التي كانت توزع الورق، والأمسيات التي كان يقضيها في نادي الصحافة الدولي لحضور فعاليات ثقافية إلى جانب أبرز الصحافيين.
نديم فرحات، رئيس قسم التنفيذ في «الشرق الأوسط» انضم لعائلتها بعد ثلاثة أشهر على تأسيسها عندما كانت الطبعة تتألف من 12 صفحة فقط. ويكشف أن عملية تركيب الصفحات حينذاك كانت معقدة جدا بقوله «كانت تأتي المادة من المحرر إلى صفيف الأخبار الذي كان يطبعها ثم يحمضها، ثم كنا نفصل العنوان ثم نضع المادة على الشمع ونقصها بالشفرة وننظف حوافها بالبنزين ونرسلها للطباعة. كانت مهمة معقدة». ويضيف «تذكرني رائحة الشمع والبنزين في تلك الحقبة التي لطالما كانت لدي جروح طفيفة على أصابعي فيها من شفرة التركيب». ويستطرد، «كان عددنا كبيرا وكان لدينا ثلاثة خطاطين لكتابة العناوين من ضمنهم زميلنا الحالي عبده الريس».
ويتذكر يومياته في قسم التركيب ويقول «كانت مليئة بالإبداع والاعتماد كان على المهارات اليدوية وليس الكومبيوتر وأعتقد أنني أصبت بالإحباط عندما أدخل الكومبيوتر إلى مجال التركيب لأن العمل اليدوي كان يستهويني».
وحول مقر الصحيفة بجوار المطبوعات البريطانية يقول «ولو اختفى أحد الموظفين في تلك الأيام من المحررين أو المركبين كنا نبحث عنه في أحد تلك المطاعم. ومن أشهرها مطاعم (الفيش أند تشيبز)». ويتذكر اليوم الذي تزوجت فيه الأميرة ديانا من الأمير تشارلز ويقول «اكتظ شارع فليت ستريت بالصحافيين والمصورين يتنافسون لالتقاط أفضل صورة للثنائي الملكي عند مرور موكبهم المتجه إلى سانت بولز».
مع أن المخرج الفني لدى صحيفة «الشرق الأوسط» عادل نعمان لم يبدأ مسيرته في المطبوعة منذ انطلاقها، إلا أنه كان شاهدا على ذكريات غف سكواير من خلال عمله مع مطبوعات المجموعة السعودية الأخرى مثل «سيدتي» و«المجلة». كان يستقل سيارته إلى العمل، الأمر الذي اعتبره ميزة مقارنة بزحمة وسط لندن اليوم. وعن يومياته في فليت ستريت يقول «أتذكر المطاعم المجاورة التي كانت تقدم أطباقا منزلية من المطبخ الإنجليزي. تلك الأطباق تماشت مذاقاتها مع طابع شارع الصحافة البريطانية». ويضيف، «أشتاق إلى غف سكواير نفسه، رونقه كان مميزا جدا وكانت أياما جميلة أمضيناها هناك».
التحق أبو بكر بـ«الشرق الأوسط» عام 1983 كساعٍ أو مراسل. وعن تلك الأيام يقول «كانت («الشرق الأوسط») منذ انطلاقها حديث الناس في فليت ستريت لأنها المطبوعة العربية ذات الصفحات الخضراء وهكذا اشتهرت وعرفها العرب والأجانب». ويضيف، «عندما بدأت كان الصحافيون يكتبون بالقلم وكانت وظيفتي أن أوصل المقالات إلى قسم صف الأخبار ومن ثم إلى قسم التركيب وكانت عملية طويلة وشاقة». ويستطرد، «كما كنت أنتظر وصول الصور من الوكالات وإيصالها للمحرر المناسب وحتى كنت أزور مكتب أسوشييتد برس لتسلم الصور منهم. كنا نكد قبل التطور التكنولوجي لكن تاريخ بدايات المطبوعة من أسباب نجاحها وسمعتها اليوم». ويختتم حديثه، «اليوم لدينا ساعيان في («الشرق الأوسط»)، في تلك الأيام كان عددنا 12».



«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
TT

«حرب الإعلام» التضليلية... الهاجس الجديد للاتحاد الأوروبي

مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)
مقر المفوضية الأوروبية في بروكسل (غيتي)

«المعارضة الحقيقية هي وسائل الإعلام، ومواجهتها تقتضي إغراقها بالمعلومات المفبركة والمضللة».

هذا ما قاله ستيف بانون، كبير منظّري اليمين المتطرف في الولايات المتحدة عندما كان مشرفاً على استراتيجية البيت الأبيض في بداية ولاية دونالد ترمب الأولى عام 2018.

يومذاك حدّد بانون المسار الذي سلكه ترمب للعودة إلى الرئاسة بعد حملة قادها المشرف الجديد على استراتيجيته، الملياردير إيلون ماسك، صاحب أكبر ثروة في العالم، الذي يقول لأتباعه على منصة «إكس» «X» (تويتر سابقاً): «أنتم اليوم الصحافة».

رصد نشاط بانون

في أوروبا ترصد مؤسسات الاتحاد وأجهزته منذ سنوات نشاط بانون ومراكز «البحوث» التي أنشأها في إيطاليا وبلجيكا والمجر، ودورها في صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة في غالبية الدول الأعضاء، والذي بلغ ذروته في انتخابات البرلمان الأوروبي مطلع الصيف الماضي.

وتفيد تقارير متداولة بين المسؤولين الأوروبيين بأن هذه المراكز تنشط بشكل خاص على منصات التواصل الاجتماعي، وأن إيلون ماسك دخل أخيراً على خط تمويلها وتوجيه أنشطتها، وأن ثمة مخاوف من وجود صلات لهذه المراكز مع السلطات الروسية.

درع ضد التضليل

أمام هذه المخاوف تنشط المفوضية الأوروبية منذ أسابيع لوضع اللمسات الأخيرة على ما أسمته «الدرع ضد التضليل الإعلامي» الذي يضمّ حزمة من الأدوات، أبرزها شبكة من أجهزة التدقيق والتحقق الإلكترونية التي تعمل بجميع لغات الدول الأعضاء في الاتحاد، إلى جانب وحدات الإعلام والأجهزة الرقمية الاستراتيجية الموجودة، ومنها منصة «إي يو فس ديسانفو» EUvsDisinfo المتخصّصة التي انطلقت في أعقاب الغزو الروسي لشبه جزيرة القرم وضمّها عام 2014. و«هي باتت عاجزة عن مواجهة الطوفان التضليلي» في أوروبا... على حد قول مسؤول رفيع في المفوضية.

الخبراء، في بروكسل، يقولون إن الاتحاد الأوروبي يواجه اليوم «موجة غير مسبوقة من التضليل الإعلامي» بلغت ذروتها إبان جائحة «كوفيد 19» عام 2020، ثم مع نشوب الحرب الروسية الواسعة النطاق ضد أوكرانيا في فبراير (شباط) 2022.

وإلى جانب الحملات الإعلامية المُضلِّلة، التي تشّنها منذ سنوات بعض الأحزاب والقوى السياسية داخلياً، تعرّضت الساحة الأوروبية لحملة شرسة ومتطورة جداً من أطراف خارجية، في طليعتها روسيا.

ومع أن استخدام التضليل الإعلامي سلاحاً في الحرب الهجينة ليس مُستجدّاً، فإن التطوّر المذهل الذي شهدته المنصّات الرقمية خلال السنوات الأخيرة وسّع دائرة نشاطه، وضاعف تداعياته على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي.

الهدف تعميق الاستقطاب

وراهناً، تحذّر تقارير عدة وضعتها مؤسسات أوروبية من ازدياد الأنشطة التضليلية بهدف تعميق الاستقطاب وزعزعة الاستقرار في مجتمعات البلدان الأعضاء. وتركّز هذه الأنشطة، بشكل خاص، على إنكار وجود أزمة مناخية، والتحريض ضد المهاجرين والأقليات العرقية أو الدينية، وتحميلها زوراً العديد من المشاكل الأمنية.

وتلاحظ هذه التقارير أيضاً ارتفاعاً في كمية المعلومات المُضخَّمة بشأن أوكرانيا وعضويتها في حلف شمال الأطلسي «ناتو» أو انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن معلومات مضخمة حول مولدافيا والاستفتاء الذي أجري فيها حول الانضمام إلى الاتحاد، وشهد تدخلاً واسعاً من جانب روسيا والقوى الموالية لها.

ستيف بانون (آ ب)

التوسّع عالمياً

كذلك، تفيد مصادر الخبراء الأوروبيين بأن المعلومات المُضلِّلة لا تنتشر فحسب عبر وسائط التواصل الاجتماعي داخل الدول الأعضاء، بل باتت تصل إلى دائرة أوسع بكثير، وتشمل أميركا اللاتينية وأفريقيا، حيث تنفق الصين وروسيا موارد ضخمة خدمة لمصالحها وترسيخ نفوذها.

كلام فون دير لاين

وفي الكلمة التي ألقتها أخيراً أورسولا فون در لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بمناسبة الإعلان عن مشروع «الدرع» الذي ينتظر أن يستلهم نموذج وكالة «فيجينوم» الفرنسية ورديفتها السويدية «وكالة الدفاع النفسي»، قالت فون دير لاين: «إن النظام الديمقراطي الأوروبي ومؤسساته يتعرّضون لهجوم غير مسبوق يقتضي منّا حشد الموارد اللازمة لتحصينه ودرء المخاطر التي تهدّده».

وكانت الوكالتان الفرنسية والسويدية قد رصدتا، في العام الماضي، حملات تضليلية شنتها روسيا بهدف تضخيم ظهور علامات مناهضة للسامية أو حرق نسخ من القرآن الكريم. ويقول مسؤول أوروبي يشرف على قسم مكافحة التضليل الإعلامي إن ثمة وعياً متزايداً حول خطورة هذا التضليل على الاستقرار الاجتماعي والسياسي، «لكنه ليس كافياً توفير أدوات الدفاع السيبراني لمواجهته، بل يجب أن تضمن الأجهزة والمؤسسات وجود إطار موثوق ودقيق لنشر المعلومات والتحقق من صحتها».

إيلون ماسك (رويترز)

حصيلة استطلاعات مقلقة

في هذه الأثناء، تفيد الاستطلاعات بأن ثلث السكان الأوروبيين «غالباً» ما يتعرضون لحملات تضليلية، خاصة في بلدان مثل اليونان والمجر وبلغاريا وإسبانيا وبولندا ورومانيا، عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتلفزيون. لكن المفوضية تركّز نشاطها حالياً على الحملات والتهديدات الخارجية، على اعتبار أن أجهزة الدول الأعضاء هي المعنية بمكافحة الأخطار الداخلية والسهر على ضمان استقلالية وسائل الإعلام، والكشف عن الجهات المالكة لها، منعاً لاستخدامها من أجل تحقيق أغراض سياسية.

وللعلم، كانت المفوضية الأوروبية قد نجحت، العام الماضي، في إقرار قانون يلزم المنصات الرقمية بسحب المضامين التي تشكّل تهديداً للأمن الوطني، مثل الإرهاب أو الابتزاز عن طريق نشر معلومات مضلِّلة. لكن المسؤولين في المفوضية الأوروبية يعترفون بأنهم يواجهون صعوبات في هذا المضمار؛ إذ يصعب وضع حدودٍ واضحة بين الرأي والمعلومات وحرية التعبير، وبالتالي، يضطرون للاتجاه نحو تشكيل لجان من الخبراء أو وضع برامج تتيح للجمهور والمستخدمين تبيان المعلومات المزوَّرة أو المضلِّلة.