«شباك» 2017... أعمال تستكشف الواقع العربي في لندن

أفلام من صنع النساء تركز على القضايا السياسية والفكرية

«عتمة» من إخراج سؤدد كدان
«عتمة» من إخراج سؤدد كدان
TT

«شباك» 2017... أعمال تستكشف الواقع العربي في لندن

«عتمة» من إخراج سؤدد كدان
«عتمة» من إخراج سؤدد كدان

كل عامين، تشهد لندن انعقاد مهرجان «شباك» الذي يعنى بالثقافة العربية المعاصرة على مستوى المدينة بأسرها. وعلى امتداد الأسبوعين الماضيين من يوليو (تموز)، جرى تنظيم أكثر من 60 فعالية بدأت بالاحتفال بعيد الفطر بميدان الطرف الأغر بحضور عمدة لندن، صديق خان.
ومع انتهاء الأسبوع الأول، انتهى برنامج الأفلام. بالنسبة لعام 2017، تضمن البرنامج مجموعة مختارة بعناية من الأفلام السينمائية السياسية المبدعة. وتنوعت مغامرات الأفلام ما بين الغوص في السراديب الشعرية للمفكرين وتاريخ الشخصيات الثورية والخيال السريالي في أعقاب الحرب، بجانب تعليقات على الأوضاع الحالية بالعالم العربي. إلا أن التركيز الأكبر للبرنامج دار حول أعمال المخرجات بمختلف أرجاء العالم العربي.
ويعتبر فيلم «لوبية حمراء» عملا سينمائيا موغلا في الخيال الجامح يبدو أقرب إلى الحلم. ويعكس هذا العمل السريالي أزلية الحروب السابقة داخل الجزائر، والفيلم من إخراج ناريمان ماري. وتبدأ الأحداث على الشاطئ في يوم شديد الحرارة، وتتمدد مجموعة من الصبية على الرمال وسط الأمواج، ويشدون بأغاني حب، ويشتكون من اللوبية التي يجبرون على تناولها، ويشكون كذلك من أنه ليس أمام السكان المحليين شيء آخر لتناوله، في إشارة إلى الخيارات الشحيحة الباقية أمام السكان المحليين، في الوقت الذي يستمتع فيه المحتلون الفرنسيون بوفرة في كل شيء. وتتطور القصة مع تعرض ضابط فرنسي لهجوم من جانب أحد الصبية، وينتهي الأمر باتخاذ الضابط قراراً بمعاقبة الصبي بإجباره على تناول الفول ذاته الذي فاض الكيل منه. وفي ثناياه، يطرح الفيلم قضايا الحرية من الماضي الاستعماري والحروب التي تلته، والحرية التي لا يزال الجزائريون في انتظارها بعد هذا التاريخ المرير. ويسلط الفيلم الضوء على نحو جريء وفريد على الجزائر فيما بعد الحقبة الاستعمارية.
ويلعب الأطفال دورا محوريا في فيلم آخر وثائقي بعنوان «عتمة» من إخراج سؤدد كدان. إلا أنه بعيداً عن اللعب، يمثل هذا الفيلم محاولة لاستكشاف أعراض اضطراب الكرب التالي للصدمة النفسية لدى الأطفال الذين عايشوا الحرب وصور العنف المفرط. أيضاً، يعلق الفيلم الصور التي خرجت من سوريا حتى الآن. كانت سعاد قد بدأت الفيلم بفكرة الغموض في مواجهة هذه الصور. وخلال عملية تسجيل المقابلات، كررت سؤالها لطفل يبلغ 6 أعوام يدعى أحمد: «من أين أنت؟» الواضح أن السؤال أثار خوفه، ما جعلها تدرك أن صمته أحد أعراض الكرب. وخلال جلسات السؤال والإجابة بعد التصوير، شرحت سعاد العملية التي اعتمدت عليها على النحو التالي: «في إطار الفيلم الوثائقي المبدع، لا نبدأ العمل حاملين في أذهاننا هيكلاً مصاغاً على نحو مسبق، وإنما الأمر يكون أقرب إلى عملية تفاعل مستمر بين المخرج والموضوع. لقد كنت أنا وأحمد مدركين أنه ليس ثمة إجابة، ومع ذلك مضيت في طرح السؤال. لقد أصبح الأمر أشبه بلعبة حول سؤال يتعين علينا الاستمرار في التفكير بشأنه».
أما هلا العبد الله، فطرحت جانباً مختلفاً من المنفى السوري من خلال فيلم «فاروق، محاصر مثلي» القائم على مقابلات مع الكاتب والشاعر فاروق مردام بك. في قلب الفيلم، تكمن مسائل التاريخ والهوية والثورة وفكرة الوحدة. وخلال الفيلم، نرى فاروق مردام بك أثناء استعداده لحضور حفل عشاء. وقال وهو يعصر ليمونة على «كوكتيل»: «لا نطهو عندما نكون بمفردنا». وشرح الدفء الذي يشعر به الأفراد في خضم الثورات. وأوضح أنه: «رغم الفوضى والتشتت والعنف، فإن الرغبة تعتمل في نفوس الأفراد، في احتضان وتقبيل الغرباء المجاورين لهم».
أما حفل العشاء، فيشكل الحدث المحوري بالفيلم، حيث يلتقي مفكرون سوريون بالمنفى في باريس لمناقشة التاريخ السياسي السوري، والتشارك في مشاعر التمزق على صعيد الهوية الوطنية.
أما الأفلام القصيرة فتركزت في معظمها على سيناريوهات مستقبلية لأزمات راهنة. ومن بين هذه الأفلام «الدولة القومية» للاريسا صنصور، حيث تدور الفكرة المحورية حول فلسطين مستقبلية. في إطار هذا السيناريو، تحقق حل الدولتين، ليس من خلال الحصول على أراض، وإنما عبر الحصول على مبنى شاهق، حيث يحمل كل دور من المبنى اسم مدينة مفقودة. على سبيل المثال، الدور الرابع: بيت لحم، والدور الخامس: القدس، وهكذا. وعلى غرار الأسلوب المميز لسنسور، ينتمي الفيلم لفئة الكوميديا السوداء حول الصراع الدائر على أرض كي يطلق عليها «فلسطين».
من ناحيتها، تشارك منية عقل بفيلم «الغواصة»، وهو فيلم قصير تدور أحداثه بعد سنوات قلائل من أزمة القمامة التي ضربت بيروت عام 2016. يدور الفيلم حول تسبب الأزمة في انتشار الأوبئة ومواجهة البلاد من جديد موجة نزوح جماعي إلى خارجها. إلا أن سيدة شابة تدعى هالة أبدت رفضها للتخلي عن وطنها. ويحمل هذا الفيلم القصير المعقد أصداء محطات سابقة بالتاريخ اللبناني أجبرت الشعب على الفرار إلى خارج الوطن، والأمجاد التي تداعت أمام أعين اللبنانيين.
بوجه عام، تضمن برنامج المهرجان مجموعة متنوعة من صور الإخراج المبدع والموضوعات الذكية والشيقة، والسيناريوهات المستقبلية المظلمة.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)