تبنّت مدينة فلادفوستوك الروسية، المطلّة على المحيط الهادئ، رمزا جديدا من رموز العولمة المتجاوزة للحدود؛ العمالة الكورية الشمالية. وعلى عكس العمال المهاجرين في أغلب بلدان الغرب، فإن الكوريين الشماليين يلقون ترحيبا واسعا في روسيا، التي أصبحت على غرار الصين أحد أكبر مستخدمي العمالة من الدولة المارقة.
تقول يوليا كرافشينكو (32 عاما)، وهي ربة منزل من سكان فلادفوستوك، عن عمال كوريين شماليين في قطاع تزيين المنازل: «إنهم يتميزون بالسرعة والموثوقية، ويتقاضون القليل، وهم أفضل بكثير من العمال الروس. وهم لا يفعلون شيئا سوى العمل من الصباح وحتى الأوقات المتأخرة من الليل».
وعادات العمل التي تسعد أصحاب المنازل في فلادفوستوك توفر أيضا التحويلات النقدية التي تشتد الحاجة إليها في البلد الأكثر عزلة في العالم، حيث إن النظام الديكتاتوري الوراثي في بيونغ يانغ بات قاب قوسين من امتلاك القدرات النووية القادرة على توجيه الضربات إلى الولايات المتحدة. وخلال الأسبوع الماضي فقط، بلغت كوريا الشمالية مستوى جديدا عبر اختبار أول صاروخ باليستي عابر للقارات.
ونظرا للعقوبات الاقتصادية الدولية الصارمة وعجز البلاد عن إنتاج كثير من السلع والبضائع التي يريد أي شخص خارج حدود كوريا الشمالية شرائها، باستثناء قطع غيار الصواريخ والمنسوجات والفحم والفطر، أرسلت حكومة البلاد عشرات الآلاف من المواطنين الفقراء إلى مختلف مدن وبلدات الاتحاد السوفياتي القديم لاكتساب الأموال وتحويلها إلى النظام.
وتقول جمعيات حقوق الإنسان إن هذه الحركة العمالية التي تسيطر عليها الحكومة تصل إلى حد تجارة الرقيق المحرمة دوليا، ولكن الأوضاع في الداخل بائسة للغاية، لدرجة أن العمال في أغلب الأحيان ما يدفعون الرشى للحصول على فرصة السفر إلى روسيا.
ولقد ساعدت العمالة من كوريا الشمالية في بناء ملعب جديد لكرة القدم في سانت بطرسبرغ لاستخدامه في مباريات كأس العالم المقرر انعقادها هناك العام المقبل، وهو المشروع الذي لقي فيه أحد العمال مصرعه على الأقل. وهم يعملون الآن على تشييد مجمع سكني فاخر في وسط موسكو، ولقد عثر على اثنين من العمال الكوريين الشماليين صرعى الشهر الماضي في فندق رخيص بالقرب من موقع المشروع. كما أنهم يعملون أيضا في مهام قطع الأشجار في مخيمات بعيدة مخصصة لهذا الغرض في أقصى الشرق الروسي، والتي تشبه معسكرات الاعتقال الشهيرة في عهد ستالين.
وترك العمال الكوريون الشماليون أكبر بصماتهم وأهمها في فلادفوستوك، إذ يوفرون العمالة الموجهة إلى شركات إصلاح وصيانة المنازل التي تتباهى أمام العملاء بمدى انضباط وجودة ورخص العمالة الكورية الشمالية مقارنة مع العمالة الروسية.
ويقول موقع إحدى الشركات في فلادفوستوك: «من المثير للاهتمام أن هؤلاء الناس يعملون بجد واجتهاد ونظام. وهم لا يحتاجون إلى أوقات كبيرة للراحة أثناء العمل، ولا يحاولون التملص من واجباتهم أبدا». وتعد صناعة إصلاح وصيانة المنازل من أحسن الصناعات التي يعمل فيها عمال كوريا الشمالية، إذ لا يخضع الرسامون وعمال الجبس في العموم إلى المعاملة الوحشية التي يتعرض لها أغلب الكوريين الشماليين العاملين في مخيمات قطع الأشجار الروسية أو في مواقع التشييد والبناء.
ويعاني هؤلاء العمال من ممارسات ظالمة أخرى، وصفتها جمعيات حقوق الإنسان بأنها صورة فظيعة من برنامج تصدير العمالة في بيونغ يانغ، وهي مصادرة جميع إيراداتهم من طرف الدولة.
وصدر تقرير مطول حول عمالة كوريا الشمالية في روسيا العام الماضي من قبل مركز قاعدة البيانات لحقوق الإنسان في كوريا الشمالية، وهي من الجمعيات الحقوقية في سيول، وخلص التقرير إلى استيلاء الحزب الحاكم على 80 في المائة من الأجور التي يجنيها عمال الغابات في روسيا، وعلى 30 في المائة على الأقل من الرواتب المدفوعة إلى العمال في قطاع التشييد. وتستولي الحكومة على مزيد من الأموال لتغطية نفقات المعيشة، والمساهمات الإلزامية لما يسمى بصندوق الولاء وغير ذلك من التبرعات. ويشكل هذا «الهيكل الاستغلالي»، كما وصفه التقرير، أحد الأسباب الأساسية لظروف العمل غير الإنسانية التي تعاني منها العمالة الكورية الشمالية في روسيا.
وقدرت جمعية حقوق الإنسان المذكورة أن السلطات الكورية الشمالية تجني نحو 120 مليون دولار في العام من العمالة المصدرة إلى روسيا، وهي من أهم مصادر الدخل للأسرة الحاكمة في البلاد التي تأسست بدعم روسي في عام 1948 على يد كيم إيل سونغ، ويرأسها حاليا الحفيد كيم جونغ أون البالغ من العمر 33 عاما. ويبلغ عدد العمالة الكورية الشمالية المتواجدة في روسيا نحو 50 ألف عامل، رغم أن دراسات أخرى تفيد بأن الرقم لا يتجاوز 30 إلى 40 ألف عامل، وهو رقم أكبر من العمالة الكورية في الصين وهي من الوجهات الرئيسية الأخرى. وقال رئيس شركة فلادفوستوك للديكورات، التي توظف عشرات من الكوريين الشماليين، إن كمية الأموال التي تستولي عليها الحكومة الكورية من العمال قد زادت بشكل كبير على مدى العقد الماضي، وارتفعت إلى المعدل الشهري الحالي البالغ 50 ألف روبل أو ما يساوي 841 دولارا أميركيا، من أصل 17 ألف روبل في الشهر في عام 2006. وقال رئيس الشركة أيضا إن عماله الذين يتقاضون الأجور العالية أصبحوا يفقدون في الوقت الحالي نصف رواتبهم الشهرية أو أكثر من خلال الاستيلاء الحكومي عليها، في حين أن قائد كل فريق من فرق العمل البالغة 20 إلى 30 عاملا يحصل على أجر إضافي بنحو 20 في المائة مقابل العثور على وظائف الديكور والرسم لعماله. ولقد طلب الجانب الروسي عدم الكشف عن هويته بسبب خشيته من معاقبة رقباء حزب العمال الكوري الحاكم أو منعه تماما من العمل لديهم.
ولقد ازداد معدل مصادرة الرواتب في أعقاب الهبوط الحاد في قيمة العملة الروسية مقابل الدولار الأميركي، وهو التطور المثير للقلق بالنسبة للنظام الكوري الحاكم الذي يرغب في الحصول على مزيد من العملة الأميركية وليس الروسية.
ولكن ارتفاع كمية الأموال الروسية المستولى عليها بأكثر من تعويض هبوط الروبل يعكس سعي بيونغ يانغ الحثيث للحصول على مزيد من الأموال منذ تولي كيم جونغ أون مقاليد الحكم في البلاد في ديسمبر (كانون الأول) لعام 2011، وتعزيز برنامج الصواريخ والبرنامج النووي في كوريا الشمالية. ولقد أسفرت العقوبات الاقتصادية والحظر الصيني على واردات الفحم الكوري الشمالي في فبراير (شباط) بعد سلسلة من التجارب الصاروخية عن مزيد من الضغوط التي تعرضت لها مصادر بيونغ يانغ الأخرى من الإيرادات الأجنبية، مما يجعل من تصدير العمالة، إلى جانب سلسلة من المطاعم المملوكة للدولة وغيرها من الشركات الأخرى الصغيرة في فلادفوستوك وأماكن أخرى، أحد السبل المتقلصة للنظام الكوري الحاكم في الحصول على العملة الصعبة.
وللحيلولة دون اللجوء إلى كوريا الجنوبية، يجبر العمال الكوريون الشماليون على العيش معا في أماكن مزدحمة ومنتشرة حول ضواحي فلادفوستوك، وهم ممنوعون من الاتصال مع المواطنين الروس وغيرهم من الأجانب خارج نطاق العمل.
ويتزامن ازدهار تصدير العمالة الكورية الشمالية إلى روسيا مع التوسع في الروابط الأخرى بين البلدين، بما في ذلك الزيادة الأخيرة في صادرات الفحم الروسي وبدء خدمات العبارات البحرية الجديدة مرتين في الأسبوع اعتبارا من مايو (أيار) بين فلادفوستوك وراسون، وهي المنطقة الاقتصادية الخاصة على الساحل الشرقي من كوريا الشمالية.
وفي أبريل (نيسان) من العام الماضي، بعد شهور من إعلان كوريا الشمالية عن اختبار قنبلة هيدروجينية مصغرة، اجتمع المسؤولون من روسيا وكوريا الشمالية جنوب مدينة فلادفوستوك للاحتفال بإعادة افتتاح منزل كيم إيل سونغ، البناء الخشبي المخصص لتخليد ذكرى الديكتاتور الراحل. ولقد أعيد بناء المنزل الخشبي على حساب روسيا بعد أن أتت عليه النيران تماما.
* خدمة «نيويورك تايمز»
كوريون شماليون يعانون من ظروف عمل قاسية في روسيا
كوريون شماليون يعانون من ظروف عمل قاسية في روسيا
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة