لا عنصر نقياً في الوجود بل عناصر متداخلة

بين هويات أمين معلوف القاتلة وغرباء جوليا كريستيفا

جوليا كريستيفا - أمين معلوف
جوليا كريستيفا - أمين معلوف
TT

لا عنصر نقياً في الوجود بل عناصر متداخلة

جوليا كريستيفا - أمين معلوف
جوليا كريستيفا - أمين معلوف

تشبه أطروحة أمين معلوف التي اقترحها في كتابه المشهور «الهويات القاتلة»، تشبه إلى حد كبير أطروحة الفيلسوفة البلغارية «جوليا كريستيفا»، من مواليد 1941، صاحبة كتاب عنوانه «غرباء بدواخلنا»، الذي كتبته لتبرز أن من نسميه: الغريب الأجنبي»، الذي نراه غصة خانقة في الحلق، والعدو المباشر الذي ينبغي محوه لضمان سلامة الجماعة، هو في حقيقة أمره الوجه الخفي لهويتنا. إنه يستوطن الذات ويقبع في أعماقها بشكل غريب، فالآخر كما تؤكد جوليا كريستيفا ينطلق غريبا في بدايته عن ذواتنا، ليصبح بعد ذلك جزءا لا يتجزأ منها. والأمثلة على ذلك لا حصر لها. فالمغاربة مثلا، وإلى حدود مستهل القرن العشرين، كانوا يعتبرون الفرنسي عدوا وغريبا ما دام يهدد أرضهم. وبعدما تمكن الفرنسيون من احتلال أرض المغرب وإعلان «الحماية»عليه سنة 1912، كان ذلك بمثابة الفيروس الذي وجب مناهضته، فازدادت العداوة ونشأت حركة مقاومة نتج عنها الاستقلال السياسي سنة 1956. لكن هذا الفرنسي المطرود بقي جاثما على المغاربة ثقافيا، فجل المعاملات الإدارية ما زالت تتم باللغة الفرنسية، بل حتى الدراسات الجامعية في العلوم الحقة ما زالت لم تعرب بعد. وهذا يعني أن الفرنسي أصبح طبقة من طبقات الذات المغربية، وجزءا لا يمكن فصله عن الهوية. وأما إذا عدنا إلى الماضي البعيد، فنحن نعرف أن المغاربة أمازيغ في أصلهم، لكن إبان الفتوحات الإسلامية جاء العرب إلى المنطقة بوصفهم ذلك الآخر الغريب، لكن ما لبث مع الزمن أن أصبح طبقة كبرى من الهوية المغربية، فمثلا إذا سألت عمن هو المغربي؟ فيستحيل عليك أن تقول إنه عربي فقط أو إنه أمازيغي فقط، فالهوية النقية الصافية الخالصة لا محل لها من الوجود، فالمغربي في عمقه هو مزيج من عدة عناصر، إنه: أمازيغي وعربي وإسلامي وحساني وأندلسي وأفريقي، بل حتى غربي على أساس أن بالمغرب برلمانا ودستورا وحكومة ومنظمات حقوقية بالمقاييس الغربية... إذن نحن نتحرك نعم بهوية واحدة، ولكن هي هوية مخصبة وهجين من عناصر تشكلت مع التاريخ، وهو الأمر الذي جعل جوليا كريستيفا تقول إن: «الغريب يسكننا على نحو غريب».
إذا ما سلمنا بفكرة جوليا كريستيفا كون الغير هو ليس فقط في الخارج بل هو في قلب ذواتنا، فالنتيجة التي تريد أن تصل إليها هي: أنه عوض بغض وكره الغريب الأجنبي وجب التسامح معه والقبول به؛ لأننا أصلا نحمل الأجانب في دواخلنا، وإذا لم نفعل ذلك، فلنستعد لتمزق الذات الجماعية، وهو ما يفسر لنا الحروب الطائفية داخل نفس الذات؛ لأن الجماعة في هذه الحالة لم تستوعب كون الأجنبي قابعا في نفس هذه الذات.
إذن وكما نرى هناك نوعا من التشابه بين أطروحة أمين معلوف وجوليا كريستيفا، فعندما يكبر الإنسان ويصل إلى سن الرشد، قد يسلك في حياته كما لو أنه يتملك هوية صافية ينعتها بالأنقى والأصفى وبكل ما يمت بالطهرانية بصلة، فنجده يدافع باستماتة عن هذه الهوية، ويعتبر كل ما عداها من الهويات ناقصة أو مهددة له، إلى درجة يصل معه الأمر إلى العنف حد التصفية الجسدية. لكن لو تأمل المرء ذاته لاكتشف أن ما يسميه الغير المختلف هو في حقيقته يعتمل في جوفه. فكل إنسان في حقيقته يحمل ليس طبقة واحدة يدعي أنها هي هويته، بل في حقيقة الأمر هو يحمل طبقات أخرى متراصة، منها البارز ومنها المخفي الذي يكاد يظهر، وكلها هويات قادمة من عمق التاريخ التي جاء بها الغير بأي سبيل يسمح بالتلاقح أو التثاقف، سواء كان بالغزو أو عن طريق الهجرة أو التجارة أو الترجمة.
ولكن دعنا بعد هذه الوقفة مع جوليا كريستيفا الداعمة للموقف المدافع عن الهوية المركبة، نعد إلى موقف أمين معلوف الذي طرح سؤالا حارقا، وهو: ما الأسباب التي تدعو كثيرين إلى القتل باسم عنصر واحد من عناصر هويتهم المعقدة، فنجد من يقتل باسم الدين أو باسم العرق أو باسم الانتماء القومي أو اللغوي؟ أو بعبارة أخرى: لماذا يهمل العنيف بقية العناصر المشكلة لهويته، ويركز على واحدة فقط ويعلي من شأنها ويضعها فوق كل الاعتبارات؟
يرد أمين معلوف بأن المرء أحيانا أو الجماعة، قد تعلي من شأن عنصر من عناصر هويتها بسبب ظروف تحياها وتهديد تتلقاه. فحينما يشعر الناس بأن إيمانهم مهدد، فإن هويتهم تختصر كلها في البعد الديني، أما إذا كان الخطر يحدق باللغة فإن السمة الغالبة للهوية تصبح لغوية، ونفس الأمر يقال حين يتم تهديد الجماعة عرقيا، ففي هذه الحالة قد يتقاتل الإخوة من نفس الدين، ليصبح هذا الأخير دون أهمية تذكر فيتوارى إلى الخلف، ويلقى به في مؤخرة سلم مكونات الهوية. ويحتل الصدارة عوضا عنه «مكون العرق» فهو من سيطفو هذه المرة إلى السطح على حساب كل المكونات الأخرى. وهنا يضرب لنا معلوف أمثلة تؤكد موقفه، وهو: أليس الأكراد والأتراك مسلمين على حد سواء؟ ولكن هل يعني هذا أن نزاعهم أقل دموية؟.
إن عناصر الهوية قد تصعد أو قد تختفي متوارية في دهاليز الهوية بحسب الظروف والتهديدات التي توجد عليها جماعة معينة.
باختصار: الحكمة عند أمين معلوف تستدعي الإيمان بالغير كساكن وكقابع في دواخلنا، فهو يؤثث الذات، وأي طرد له أو تهميش، هو حرق للذات وإعلان لتمزقها، والذي سيقود للعنف لا محالة. فحينما ترغم على أن تختار بين تعقيدات هويتك، فالاختيار مؤلم، وفيه تمزيق لعناصر الذات، والأجدر بالمرء أن يرى في نفسه الوحدة، ويعمل على توحيد شتات تفاصيل هويته في توليفة متناغمة وخلق الانسجام بينها ما أمكن، وآنذاك تصبح الهوية عنصر بناء وليس عنصر فتك. بكلمة واحدة السلام لن يتحقق إلا حينما تجاهر كل ذات بالانتماء المختلط.



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.