حليم يوسف: «الكردية» تتيح لي التعبير بحرية

الروائي الكردي السوري يقول إنه لم يهجر الكتابة بالعربية لكنها أصبحت في المرتبة الثانية

حليم يوسف
حليم يوسف
TT

حليم يوسف: «الكردية» تتيح لي التعبير بحرية

حليم يوسف
حليم يوسف

حققت الرواية الكردية في سوريا حضورا مهما في السنوات الأخيرة خصوصا مع الروائيين الشباب الذين اقتحموا المشهد الروائي الكردي ليس في سوريا بل في أنحاء كردستان. وهنا يحضر الروائي الكردي السوري حليم يوسف صاحب «مم بلا زين» و«الخوف الأدرد» و«عندما تعطش الأسماك»، التي ترجمت فور صدورها إلى التركية.
ولد حليم يوسف في عامودا 1967 سنة النكسة العربية لأب كردي هرب من تركيا إلى سوريا وأم كردية سورية ومع ذلك لم يكن الأب يجيد التركية ولا الأم تجيد العربية، وظلت الكردية لغة التواصل للعائلة الصغيرة رغم مشاريع التعريب في المناطق الكردية في سوريا.
هنا حوار أجري في العاصمة الهولندية حيث يقيم.. عن طفولته وعلاقته باللغتين الكردية والعربية وأحوال الرواية الكردية.

> حدثني عن علاقتك باللغتين العربية والكردية.
- دعني أضع المسألة في إطارها الحقيقي. من الطبيعي أن يكتب كل أديب بلغته الأم، وفي الحالات الاستثنائية يكتب الأدباء بلغات أخرى لها علاقة بالظروف التي تنتج تجاربهم الأدبية. وفي حالتي، ونظرا لسياسة المنع التي اتبعتها السلطات السورية منذ الاستقلال وحتى الآن تجاه اللغة الكردية، لغتي الأم، فقد بدأت الكتابة باللغة الرسمية التي فرضت علينا عنوة، وهي العربية فيما بعد، ونتيجة لجهود فردية بحتة، بعيدا عن أعين أجهزة المخابرات وملحقاتها، استطعت إعادة الأمور إلى نصابها وإتقان الكردية كتابة، إلى درجة أستطيع فيها التعبير بحرية عما يعتلج في داخلي، بحيث يحافظ فيه النص الأدبي الذي أكتبه على سويته الفنية. وعدت إلى الوضع الطبيعي لأي كاتب على وجه الأرض، وهو الكتابة باللغة الأم. علما بأنني لم أهجر العربية، لكنها تراجعت في إنتاجي الأدبي وأصبحت في الدرجة الثانية بعد الكردية. الأصح أنني كاتب باللغتين. فقد قمت بنفسي بترجمة كتبي الصادرة بالعربية إلى الكردية، وهي ليست ترجمة بالمعنى المتعارف عليه بقدر ما هي كتابة جديدة وإعادة إنتاج النص نفسه بلغة جديدة. وفي قادم الأيام سأعمل على ترجمة كل ما صدر لي إلى العربية. إن علاقتي باللغتين مستمرة ولم أهجر إحداهما لصالح الأخرى. وإن كانت الكردية بالنسبة لي لغة الروح، فإن العربية تظل اللغة التي ساهمت في تشكيل وعيي الأدبي والفكري والفلسفي، خاصة أنني تعرفت من خلالها على الآداب والعلوم الأخرى. هذا الدور المفتاحي الذي لعبته العربية في تشكيل الوعي الثقافي لي ولأبناء جيلي من الكتاب الكرد لم يكن متاحا للكردية القيام به في سوريا اللون الواحد.
> هل تعاني من مضاعفات الازدواج اللغوي.. درست بالعربية وكتبت بها بينما الكردية لغتك الأم؟ وما تأثير هذه المضاعفات والأعراض الجانبية على نصك؟
- تتوزع مضاعفات هذا الازدواج اللغوي بين بعدين متناقضين: الأول يكتسب طابعا مغرقا في السلبية، حيث التخريب الروحي لطفل يجبر على التعلم بلغة هي ليست لغة أمه وبطريقة وحشية تستند على معاقبته فيما إذا تحدث بلغة أمه في المدرسة. في صغري نلت حصتي من العقوبة في هذا المنحى. ما زلت أتذكر الوجه المتجهم للمعلم الذي كان غاضبا من بلاهتي المتجسدة في عدم فهم ما يقول، وحانقا على أهلي الذين لم يربوني جيدا ولم يساهموا في إعدادي وتأهيلي للدراسة، وذلك بأن يعلموني لغة المدارس والشرطة. وما لم يكن يعلم به معلمي الحلبي في الصف الأول أن أهلي أيضا لا يعرفون العربية، وأن أمي وأبي لم يتحدثا طيلة حياتهما سوى لغة وحيدة وهي ممنوعة في هذه البلاد. في باحة المدرسة وفي أوقات الاستراحة الفاصلة بين حصتين، كان مدير المدرسة يكلف عريف الصف بكتابة أسماء الأطفال الذين يتحدثون فيما بينهم بلغة غير اللغة الرسمية. ولم أنج من رقابة عريف الصف آنذاك والذي كان ابنا لشرطي قادم من حماه للعمل في عاموده.
ويكتسب البعد الآخر طابعا إيجابيا يتجسد في التعدد أو الازدواج اللغوي الذي يتيح لصاحبه معرفة أوسع وانفتاحا أكبر على ثقافتين وعلى عالمين يحويان الكثير من التفاصيل التي يظل الآخر غافلا عنها. أنا أعتبر نفسي محظوظا مقارنة مع كاتب سوري آخر غير كردي، لأنني أتقن لغة لا يعرفها هو، كذلك لدي الكثير من المواد الخام للكتابة الأدبية، تظل عصية على شريكي الآخر السوري. لذلك أعتبر نفسي أغنى منه وأكثر قابلية منه للاستفادة من تراث وعوالم اللغتين. كل لغة هي باب جديد ينفتح على الروح وعلى العالم. لذلك لست مستاء من تعلم العربية بقدر ما أنا مشمئز من الطريقة المؤذية والجارحة التي تعلمنا بها.
قد تكون المضاعفات النفسية لهذه الحالة مخيفة على الصعيد الشخصي والحياتي، لكنها تنعكس بشكل إيجابي على النص الأدبي المكتوب. فكل منا أصبح صاحب رأسمال ضخم من الألم الكثيف والعميق، هذا الألم الذي لا يعرفه إلا من قطع لسانه بسكين مسننة. ويعتبر هذا الحزن العظيم الذي ينتجه ذاك الألم ثروة أدبية كبيرة، فيما إذا تم استثمارها فنيا.
> أشعر بأن ثمة انفصاما ما يعاني منه الكاتب أو الشاعر الكردي سواء في سوريا أو في تركيا، هل هذا صحيح؟ هل تعاني أنت من مثل هذا الانفصام؟
- أنا منسجم مع نفسي إلى أبعد حد، لأنني لا أجد أي تناقض بين أن أكون كاتبا كرديا أكتب بلغتي الأم وانتمائي إلى سوريا الوطن المشترك للكرد والعرب وغيرهم. وما بالك وأنا أكتب بلغة شريكي في الوطن أيضا. قد تجد حالة الفصام التي تتحدث عنها لدى الكتاب الكرد الذين يكتبون فقط بالعربية. إذا تذكرنا حقيقة مفادها أن اللغة هي التي تحدد هوية الأدب، فلا يجوز تصنيف أدب هؤلاء على الأدب الكردي، وينزعج أغلبهم من تصنيف كتاباتهم في خانة الأدب العربي أو اعتبارهم كتابا عربا، وبذلك يعيشون حالة فصام بين انتمائهم القومي من جهة وبين انتماء أدبهم إلى أدب آخر من جهة أخرى. يستثنى من ذلك الكتاب الذين يكتبون باللغتين. وفي تركيا يعيش الكتاب الكرد، كما في سوريا، حالة شبيهة من الفصام الذي نتحدث عنه.
واللافت في هذا السياق أن الكتاب الكرد الذين يكتبون بالعربية يقدمون أنفسهم ككتاب يمثلون الكرد أو الأدب الكردي لدى قراء العربية، الأمر الذي لا يتجرأ على القيام به من يكتب بالتركية من الكتاب الكرد. لا شك أن هذه الظاهرة هي إحدى مخلفات السياسة الشوفينية المتبعة بحق الشعب الكردي الموزع وطنه بين دول تضطهده، تمنع لغته وتمنعه من إطلاق الأسماء الكردية حتى على أطفاله ولا تعترف بحقوقه القومية والإنسانية.
أعتقد أن حالة الفصام هذه وليدة الاستبداد وستزول بزواله، وذلك بأن تعود الحياة الإنسانية لهذه الشعوب إلى مجراها الطبيعي وأن تتعايش الثقافات واللغات في جو من الوئام والمحبة، بدلا من المنع والسجن والقتل والإبادة وصهر جميع الألوان في لون واحد أحد.
> روايتك «عندما تعطش الأسماك» صدرت ترجمتها بالتركية، ما سر هذا الاهتمام بالرواية الكردية السورية في تركيا؟
- «عندما تعطش الأسماك» هو كتابي الثالث الذي يصدر بالتركية بعد «موتى لا ينامون» 1997 و«خوف بلا أسنان» 2006. وقد وقع اختيار إحدى دور النشر التركية على هذه الرواية لترجمتها وإصدارها بعد نفاد الطبعة الأولى من الرواية بالكردية. ويأتي ذلك في سياق الاهتمام بالرواية الكردية التي باتت تلفت الأنظار إليها في السنوات الأخيرة، وذلك بعد غياب طويل للأدب المكتوب بهذه اللغة الممنوعة منذ عقود من الزمن على الجانبين التركي والسوري على السواء.
وما زالت الأوساط الرسمية التركية ودور النشر الدائرة في فلكها مستمرة في إهمالها لهذا الأدب الناهض وتتجنب ترجمته أو تبنيه بأي شكل من الأشكال. غالبا ما تجد نتاجاتنا صداها لدى الأوساط اليسارية في تركيا والبعيدة عن الآيديولوجيا الرسمية للدولة والمناهضة لها. في حين تقدم دور النشر الكبيرة، وتلك المقربة من الدولة، الجائزة تلو الأخرى للكتاب الكرد الذين يكتبون بالتركية. تطبع نتاجاتهم وتوفر لهم جميع مستلزمات الانتشار والشهرة.
> المشهد الروائي الكردي كيف تراه الآن؟ وهل الرواية ديوان الكرد؟
- بدأ الأدب الكردي الحديث بمختلف أجناسه ينتعش في العقدين الأخيرين، وتحديدا في تسعينات القرن المنصرم وحتى الآن. لا يمكننا فصل المشهد الأدبي الكردي عن تطورات المشهد الأدبي على صعيد العالم.. فكما أن الرواية بدأت تحتل صدارة هذا المشهد في عالم اليوم، أخذت الرواية الكردية أيضا هذا المنحى. وقد عانينا في إحدى الفترات من طوفان الشعر وكثرة الشعراء، ونعاني أخيرا من كثرة عدد الروائيين إلى درجة أن كل من فشل في كتابة جنس أدبي آخر بدأ يكتب الرواية. ما إن تسأل كل من له علاقة بالكتابة عن مشروعه القادم، حتى يحدثك عن كتابة رواية جديدة. ومن إحدى الخصوصيات المحزنة للأدب الكردي الحالي اختلاط الحابل بالنابل وغياب النقد المؤثر، بحيث يمكن لأسوأ كاتب في تاريخ الرواية أن ينصب نفسه الروائي الكردي الأول. قد يبدو المشهد كاريكاتيريا إلى حد ما، لكنه المشهد الأقرب إلى الواقع الحالي للرواية الكردية التي تعيش مرحلة انتقالية صعبة تفصل بين ماض يتسم بالانعدام المطلق وحاضر يحمل جنين الانبعاث العظيم.
> بالتأكيد هناك عمل روائي جديد لك هل تحدثنا عنه؟
- رواية تتحدث عني وعنك وعن وهم اسمه الوطن البديل. هناك في مكان ما من هذا العالم، شاءت الأقدار أن يحكم «النازيون» وطنا لأكثر من أربعة عقود، فيتحداهم «أحدهم» ويرفض أن يصبح ضحية عمياء. وعندما يكتشف أن بديل الانتحار يكمن في الهجرة، يهاجر تاركا وراءه نصف عمره، ظانا أنه فر بجلده ووجد وطنا بديلا لوطنه الذي بات مرتعا للثعابين. وستقرأ البقية في الرواية لدى صدورها، ربما، قبل انتهاء هذا العام.



متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»


قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة
TT

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

قصيدة الحداثة في مقاربات نقدية جديدة

أصدرت الهيئة العامة لقصور الثقافة كتاب «سيمياء الخطاب الشعري... مقاربات نقدية في الشعرية المعاصرة» للناقد والأكاديمي المصري الدكتورأحمد الصغير، أستاذ الأدب العربي.

يقدم الكتاب عبر (428) صفحة من القطع المتوسط، رؤى تأويلية لعوالم قصيدة النثر، من خلال رصد الملامح الجمالية والمعرفية في قصيدة الحداثة، ويعتمد على مقاربة سيميائية تأويلية من خلال إجراءات السيمياء والتأويل عند روبرت شولز، وبيرس، وجريماس، وسعيد بنكراد، وكمال أبو ديب، وعز الدين إسماعيل، وصلاح فضل، وجابر عصفور، ومصطفى ناصف... وغيرهم.

يتكون الكتاب من مقدمة وتمهيد وتسع عشرة قراءة نقدية، منها: بنية الخطاب الدرامي في الشعرية العربية المعاصرة، بناء الرمز في قصيدة محمد سليمان، بلاغة المفارقة في توقيعات عز الدين المناصرة، تعدد الأصوات في ديوان «هكذا تكلم الكركدن» لرفعت سلام، «قراءة في الشعر الإماراتي، عين سارحة وعين مندهشة» للشاعر أسامة الدناصوري، «في المخاطرة جزء من النجاة»... قراءة في ديواني «حديقة الحيوانات ومعجزة التنفس» للشاعر حلمي سالم، قراءة في ديوان «الأيام حين تعبر خائفة» للشاعر محمود خير الله، قراءة في ديوان «الرصيف الذي يحاذي البحر» للشاعر سمير درويش، قراءة في ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» للشاعر محمد القليني، أسفار أحمد الجعفري «قليل من النور، كي أحب البنات»، شعرية الأحلام المجهضة «لعبة الضوء وانكسار المرايا» للنوبي الجنابي، قراءة في «مساكين يعملون في البحر» للشاعر عبد الرحمن مقلد، وشكول تراثية في قصيدة علي منصور، وصوت الإسكندرية الصاخب في شعر جمال القصاص، وشعرية الحزن في ديوان «نتخلص مما نحب» للشاعر عماد غزالي، وشعرية المعنى في ديوان «في سمك خوصة» للشاعر محمد التوني، وشعرية المجاز عند أسامة الحداد.

يقول الصغير في المقدمة: تأتي أهمية هذا الكتاب من خلال الوقوف على طرح مقاربات نقدية استبصارية، معتمدة على المقاربات التطبيقية للقصيدة العربية المعاصرة تحديداً، وذلك للكشف عن بنية الخطاب الشعري في الشعرية العربية المعاصرة، مرتكزاً على منهجية معرفية محددة؛ للدخول في عوالم القصيدة المعاصرة، مستفيدة من مقاربات السيميائية والتأويلية بشكل أساس؛ لأن القصيدة العربية، في وقتنا الراهن، ليست بحاجة إلى شروح تقليدية، لأنها صارت قصيدة كونية، ثرية في المبنى والمعنى، تحتاج لأدوات نقدية متجددة، تسهم في عملية تفكيكها وتأويلاتها اللانهائية، كما يطرح البحث أدوات الخطاب الشعري التي اتكأ عليها الشعراء المعاصرون، ومن هذه الأدوات «الرمز الشعري، المفارقة بأنواعها، والدرامية، الذاتية، والسينمائية، السردية، وغيرها من الأدوات الفنية الأخرى».

يذكر أن أحمد الصغير، يعمل أستاذاً للأدب والنقد الحديث بكلية الآداب، جامعة الوادي الجديد. ومن مؤلفاته «بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربي الحديث»، و«النص والقناع»، و«القصيدة السردية في شعر العامية المصرية»، و«القصيدة الدرامية في شعر عبدالرحمن الأبنودي»، و«تقنيات الشعرية في أحلام نجيب محفوظ». و«آليات الخطاب الشعري قراءة في شعر السبعينيات»، و«التجريب في أدب طه حسين».