جيش جديد لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء

تحت شعار «جميعاً ضد التطرف من أجل الأمن والتنمية»

عناصر من «أفريكوم» المخصصة لمكافحة الإرهاب في الشمال الأفريقي («الشرق الأوسط»)
عناصر من «أفريكوم» المخصصة لمكافحة الإرهاب في الشمال الأفريقي («الشرق الأوسط»)
TT

جيش جديد لمحاربة الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء

عناصر من «أفريكوم» المخصصة لمكافحة الإرهاب في الشمال الأفريقي («الشرق الأوسط»)
عناصر من «أفريكوم» المخصصة لمكافحة الإرهاب في الشمال الأفريقي («الشرق الأوسط»)

تشكل منطقة الساحل والصحراء واحدة من المناطق الجيوسياسية الدولية التي تشهد صراعاً مريراً بين المجموعات الإرهابية من جهة؛ ودول المنطقة مدعومة بالقوى الدولية الكبرى من جهة ثانية. ويبدو وعي الطرفين بأهمية الجغرافيا السياسية للمنطقة كبيراً جداً بصفتها ممراً يتوسط دول جنوب الصحراء مع الشمال، وصولاً للبحر الأبيض المتوسط وأوروبا؛ مما يجعل المصالح الاستراتيجية للجماعات الإرهابية ومصالح دول المنطقة، في حالة حرب مستمرة.
جاءت قمة رؤساء دول الساحل والصحراء الأخيرة التي اختتمت قبل أيام، والمنظمة تحت شعار: «جميعاً ضد الإرهاب من أجل الأمن والتنمية»، لتدشن مرحلة جديدة من المواجهة الدولية للجماعات الإرهابية بالمنطقة. ويظهر أن عقد قمة وزراء الدفاع الخميس 4 مايو (أيار) 2017 لكل من بوركينافاسو، والنيجر، وموريتانيا، ومالي، وتشاد، والمغرب، الذي سبق قمة الرؤساء يعلن فعليا انتقال الصراع إلى مستوى آخر يتجاوز التعاون الأمني؛ ويعلن بداية التعاون العسكري.
وكان من اللافت إعلان انطلاق هذه المرحلة من العاصمة المالية باماكو بحضور طرفين أساسيين متحالفين مع دول المنطقة؛ فقد شارك المغرب في أشغال وزراء الدفاع؛ بينما شهدت القمة حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى جانب رؤساء الدول الأفريقية الخمس موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينافاسو وتشاد. وقد توصل المجتمعون لاتفاق بموجبه سيتم إنشاء قوة إقليمية مشتركة لمكافحة المجموعات الإرهابية بالمنطقة. ومن المنتظر أن يتكون هذا «الجيش»، من نحو من 5 آلاف عسكري، ويبدأ عمله قبل نهاية عام 2017 وبتمويل يصل إلى 423 مليون يورو، ستقدم فرنسا منها نحو 8 ملايين يورو، إضافة إلى 70 عربة عسكرية للقوة العسكرية لـ«التحالف من أجل الساحل».
* لماذا التحالف الآن؟
يبدو أن هذا التحالف يأتي بعد سلسلة من التحولات النوعية المهمة في منطقة الساحل والصحراء. أول هذه المستجدات يعزز جانب الجماعات الإرهابية، حيث تمكنت أهم الجماعات وكبراها في الصحراء الكبرى ومنطقة الساحل من الاندماج؛ بتاريخ الخميس 2 مارس (آذار) 2017، وتأسيس «جماعة أنصار الإسلام والمسلمين»، بزعامة إياد أغ غالي، وأعاد التنظيم تجديد بيعته لتنظيم «القاعدة»، معلنا بذلك توحيد مجموعة من التنظيمات هي: «جماعة أنصار الدين»، التي تأسست بزعامة القائد الأزوادي إياد أغ غالي في ديسمبر (كانون الأول) 2011 في مدينة كيدال بشمال مالي، و«كتيبة المرابطين في مالي»، التي تعد اندماجا بين مقاتلي جماعة «التوحيد والجهاد في غرب أفريقيا»، كما تضم جماعة «أنصار الإسلام والمسلمين» «كتيبة الملثمين» برئاسة مختار بلمختار، (المعروف بـ«الأعور» ويمثل الجناح الجزائري)، وتنشط هذه المجموعة في منطقة غاوة قرب الحدود المالية مع النيجر وبوركينافاسو. ونشير هنا أن التنظيم أدرجته الولايات المتحدة الأميركية في 18 ديسمبر (كانون الأول) 2013 على لائحة «المنظمات الإرهابية الأجنبية»، كما أنه تنظيميا توزع ولاؤه بين 2011 و2017 بين تنظيم القاعدة و«داعش». أما تنظيم «إمارة الصحراء الكبرى»، فيضم 6 كتائب كلها تابعة لـ«تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي»، فيما تعد «كتائب ماسنا» مجموعة إرهابية مقاتلة تتبنى فكر «القاعدة»، لكنها مؤسسة على أسس إثنية «الفلان».
ومنذ إعلانها، تمكنت «جماعة أنصار الإسلام والمسلمين»، من تنفيذ عمليات إرهابية كثيرة، كما أنها ما زالت تحتفظ ببعض الرهائن من جنسيات مختلفة؛ حيث نشر هذا التنظيم الإرهابي شريط فيديو على موقع «تليغرام» يوم السبت 1 يوليو (تموز) 2017، يظهر 6 رهائن على قيد الحياة اختطفوا أواخر 2016 في بلدة غاو شمال مالي، بينهم آرثر كينيث وهو طبيب أسترالي جراح، والروماني يوليان غيرغوت، وصوفي بيترونان وهي مواطنة فرنسية، إضافة للجنوب أفريقي ستيفن ماكغاون؛ والراهبة الكولومبية غلوريا سيسيليا نارفايز ارغوتي، وبياتريس ستوكلي المبشرة السويسرية.
من جهة أخرى، شن «أنصار الإسلام والمسلمين» هجومه بتاريخ الاثنين 19 يونيو (حزيران) 2017 في منتجع «كانغابا» السياحي قرب العاصمة المالية باماكو؛ مما أدى لمقتل 4 أشخاص؛ صيني وفرنسية وبرتغالي ومالي، كما أسفرت العملية عن قتل المهاجمين وعسكري مالي. وفي بداية نوفمبر (تشرين الثاني) 2016 قتل 5 عسكريين نيجريين وفقد 4 آخرون، بعد «هجوم إرهابي» وقع في قرية بانيبانغو في منطقة «والام»، على بعد نحو مائة كلم من العاصمة النيجرية نيامي.
هذه التطورات عززت من مكانة التنظيمات الإرهابية، ولوحظ توسع لدائرة استهدافاتها بالمنطقة، وأصبحت تحديا حقيقيا لدول الساحل. حيث أكد ألان ريشارد دونواهي، الوزير في حكومة الرئيس الإيفواري، المكلف بالدفاع، في قمة نظرائه من الساحل والمغرب، أن تطور الأعمال الوحشية للإرهابيين لا بد من أن يصاحب بعمل متخصص ومنسق لدول الساحل. وهو الاتجاه نفسه الذي دافع عنه كل من دانيال كابلان دونكان، نائب رئيس جمهورية كوت ديفوار، وإبراهيم ساني أباني الأمين العام لتجمع دول الساحل والصحراء، معتبرين أن مواجهة الإرهاب تتطلب مجهودا مشتركا على المستويات الأمنية والعسكرية والتنموية لدول المنطقة.
وفي سياق جواب وثيقة عمل قمة الرؤساء الأخيرة في باماكو على خلفيات بداية هذه المرحلة الجديدة وتكوين «جيش الساحل ضد الإرهاب»، في هذا الوقت بالذات؛ أكدت الوثيقة أن ميلاده جاء بعد أن «بات من المعروف أن الإرهابيين أنفسهم اعتدوا مؤخرا على بوركينافاسو وساحل العاج والنيجر ومالي». فيما أكد رئيس مالي إبراهيم أبو بكر كيتا، أنه «في مواجهة تصاعد التطرف، يجب توحيد الجهود لخوض التحديات، وعلينا أن نمضي أبعد». أما أحد المسؤولين الماليين، فقد أشار إلى أن «بلاده تواجه صعوبات، لكن الإرهابيين يغادرون دولا أخرى للقدوم إلى مالي»، وهو ما يتطلب تعاونا دوليا وإقليميا ضد هذه المجموعات.
وفي السياق نفسه، أكد الرئيس التشادي في خطابه بالقمة «ازدياد الهجمات الإرهابية في منطقة الساحل»، مشيرا إلى أن «التهديد يتخذ أبعادا جديدة، وإذا لم نتحرك سريعا، فإن منطقتنا ستصبح مع الوقت منطقة إرهابية».
* قوات محلية ودولية
ورغم أن النيجر وبوركينافاسو ومالي، حاولت الاعتماد على الإمكانات الذاتية وأعلنت في 24 يناير (كانون الثاني) 2016 عن إنشاء قوة عسكرية مختلطة لحفظ الأمن في منطقة ليبتاكو - غورما الواقعة بين الدول الثلاث، عادّةً أن هذه المنطقة «تكاد تتحول إلى معقل للمجموعات الإرهابية والإجرامية بأشكالها كافة»، فإن هذه الجهود المحلية ما زالت متعثرة، وتحتاج لمساندة دولية لوجيستيّاً وتدريبياً.
ففي أبريل (نيسان) سنة 2010 افتتح مقر قيادة العمليات المشتركة بين الجزائر وموريتانيا ومالي والنيجر، في محاولة لعمل مشترك على المستوى الإقليمي يهم التدريب والتنسيق، يواجه تنامي الجماعات الإرهابية والأطماع الأجنبية بالمنطقة.
وللحيلولة دون تحول الساحل والصحراء إلى جغرافية مسيطر عليها من الجماعات الإرهابية؛ جاء تأسيس «جيش الساحل ضد الإرهاب»؛ لتعزيز الجهود الدولية التي تقودها الأمم المتحدة، حيث رحبت فرنسا في 30 يونيو (حزيران) الماضي بقرار مجلس الأمن «2364» الخاص بتمديد عمل بعثة الأمم لتحقيق الاستقرار ومحاربة الإرهاب، والجريمة المنظمة في مالي المعروفة بـ«المينسما».
وقبل نحو 3 أسابيع، زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، القاعدة العسكرية الفرنسية بمدينة غاو شمال مالي، وأكد أن «التزام فرنسا بالوقوف إلى جانب مالي سيكون كاملا من أجل الأمن في مالي وفي الساحل (الأفريقي) أيضا، من خلال مواصلة التزام قواتنا (...)، وعبر مواصلة التزامنا بخريطة طريق دبلوماسية وسياسية». كما أشار إلى أن فرنسا عبر قواتها بالمنطقة «ستستمر، بالنيابة عن أوروبا، في تأمين مالي، غير أن بلدانا أوروبية أخرى بوسعها عمل المزيد من أجل التنمية».
وفي أكتوبر (تشرين الأول) الماضي زارت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل النيجر بعد زيارة لباماكو عاصمة مالي، وفي مؤتمر صحافي مشترك لميركل والرئيس النيجيري، طلب الأخير «دعم ألمانيا لمواجهة التهديدات الإرهابية التي تعيش على وقعها البلدان المجاورة، خصوصاً مالي»؛ وأعلن نشر جنود ألمان في بلاده، موضحا أن «الأمر لا يتعلق بإنشاء قاعدة عسكرية».
وعلى خلاف ذلك، قامت الولايات المتحدة الأميركية، بإنشاء قاعدة عسكرية بالنيجر، بمدينة أغدايس، وخصصت لها ميزانية بنحو مائة مليون دولار، وعدّتها واشنطن مشروعا استراتيجيا هو الأهم على المستوى الأفريقي. وتكمن هذه الأهمية في قدرة الولايات المتحدة على التدخل السريع في منطقة الساحل والصحراء، حيث انطلقت من القاعدة المشار إليها عدة طائرات أميركية نفذت هجمات في مالي وليبيا والنيجر في سنة 2016 والنصف الأول من سنة 2017.
استحضارا لمجموع التطورات الحاصلة في منطقة الساحل والصحراء، يمكن القول إن المعركة مع الإرهاب ستكون قاسية وطويلة، لما توفره البيئة الجغرافية والإثنية للمنطقة من عوامل توتر وعنف، تذكيها الصراعات الحدودية، وانتشار منظمات الجريمة العابرة للقارات، واستغلال جماعات الجريمة المنظمة والمتاجرة في المخدرات والبشر على المستوى المحلي. وهو ما يجعل الجهود الدولية والإقليمية الخاصة بتعزيز العلاقات الأمنية والعسكرية، في مواجهة مباشرة مع عوامل معقدة وشديدة الحساسية، كلها تلعب لصالح الجماعات الإرهابية بالمنطقة.

* أستاذ زائر للعلوم السياسية - جامعة محمد الخامس بالرباط



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.