جون رولز والديمقراطية التداولية

حدد ثلاثة شروط لتحقيقها في المجتمعات

جون رولز
جون رولز
TT

جون رولز والديمقراطية التداولية

جون رولز
جون رولز

قبل الانتقال إلى الفلاسفة الذين تحاوروا مع رولز وقدموا أطروحات نقدية لنظريته في العدالة من المهم التوقف عند قضية جوهرية في فلسفته وهي مفهومه للديمقراطية التداولية «Deliberative Democracy». في الدولة الديمقراطية الليبرالية كما يرى رولز يتحمل الفرد عبئا مهما له دلالته وآثاره الكبرى وهو «عبء الحكم». أي أن الفرد في هذه الدولة مطالب باتخاذ قرارات وإصدار أحكام لها علاقة بالمجال العام، تتفاوت من التصويت لمرشحي الانتخابات مرورا بالتصويت على القوانين الكبرى والتعديلات الدستورية وصولا إلى المشاركة الاجتماعية والسياسية بكل أشكالها. هذا العبء يتطلب إذن مجالا عاما وخاصا يجعل من القيام بهذه المهمة ممكنا. يقول رولز في كتابه الليبرالية السياسية «الديمقراطية التداولية تدرك أنه دون تعليم منتشر يعنى بالمبادئ الأساسية للحكومة الديمقراطية الدستورية، وكذلك دون مجتمع واع بالمشكلات الضاغطة، فإن القرارات السياسية والاجتماعية الجوهرية لا يمكن اتخاذها» (ص449). هذا يجعل من هذه الدولة بالضرورة دولة تداولية فكرتها الحاسمة تكمن في التداولية ذاتها.
يذكر رولز ثلاثة عوامل جوهرية للديمقراطية التداولية (الليبرالية السياسية، ص 448). أولا فكرة العقل العام، ثانيا: الإطار العام للمؤسسات الديمقراطية الدستورية التي تحدد ظروف وشروط مجالات التداول التشريعية. ثالثا: المعرفة والرغبة من طرف المواطنين بشكل عام لمتابعة العقل العام وإدراك أهدافه. العقل العمومي فكرة مثيرة لدى رولز، فهي حالة خاصة من التداول الديمقراطي وفق ظروف معينة. أهم هذه الظروف المؤسسة لهذا التداول هو حقيقية التعدد والاختلاف في المجتمع بالإضافة إلى حقيقة أن التفكير في هذا المجال هو تفكير للجميع وليس تفكيرا للذات. بمعنى أن التداول في المجال العام محكوم بأن نتائج هذا التداول متعلقة بالجميع مما يجعل الفرد يأخذ بعين الاعتبار مواقف وآراء شركائه في المجال العام. هذه المهمة تجعل من الضروري على الفرد القيام بعملية فكرية واجتماعية معقدة. وهي أن عليه إدراك حدود وصلاحية التفكير العمومي فيما يتعلق بحريات وخصوصيات الناس. بمعنى أن على كل فرد أن يدرك أنه التفكير العمومي لا يسعى لصياغة قوانين تحدد للناس مخططات حياتهم، فهذه المهمة يتولاها الناس بأنفسهم. العقل العمومي محكوم بحريات وحقوق مصونة لجميع الناس بالتساوي. هذه المهمة تتطلب عند الفرد ما يسميه رولز حس العدالة. أي وعي الفرد بأنه كما أنه يمتلك القدرة والحق في اختيار مفهومه الخاص للحياة الخيرة والجيدة، فإن الآخرين أيضا يملكون هذا الحق وتلك القدرة. هذا يجعل من الضروري أن لا ينفي الخطاب العمومي هذه المعاني الجوهرية. هذا يتطلب من الأفراد الوعي بأننا غالبا ننطلق في أحكامنا من مذاهب شمولية دينية أو فلسفية تعطينا معنى وتفسيرا للكون والحياة والإنسان، ولكننا نعلم في الوقت ذاته أن الآخرين أيضا لديهم مذاهبهم الشمولية التي تعطيهم معاني للكون والحياة والإنسان. حالة الاختلاف هذه تتطلب من كل فرد تقديم رأيه للآخرين دون أن يترتب بالضرورة على موافقتهم له التخلي عن مرجعياتهم الشاملة والدخول في مرجعيته الخاصة. بمعنى أن المواطن المسيحي في المجال العام يفترض أن لا يجعل من مداولاته مع شركائه في الوطن تشترط عليهم الدخول في المسيحية ليكون رأيه معقولا، رأي من هذا القبيل: «أريد منع الإجهاض لأن المسيح أمرني بذلك». هذا المبرر الذي يقدمه هذا المواطن لا يحمل معنى كافيا لمواطن آخر لا يؤمن بالمسيح. المواطن المسيحي مطالب بتقديم محاججة قابلة للتداول من أفراد يختلفون معه في المرجعية. المسيحي أو الماركسي لا بد أن يدرك أنه شريك لغير مسيحيين وغير ماركسيين وأنه لا يتميز عنهم في الحقوق والواجبات.
العقل العام أو التداول العام «كامل» كما يرى رولز. بمعنى أنه قادر على التعامل مع كل القضايا العمومية. هذا مبدأ جوهري في الديمقراطية وهو أن الشعب قادر على حل مشكلاته. لا توجد هنا مساحة لفرض أي منطق متعال، بدعوى قصور في قدرة الناس على إدارة شؤون حياتهم العامة. الحل الوحيد أمام الناس في هذا الظرف هو المزيد من التداول والحوار والجدل. في الأخير لن يأتيهم أحد بالجواب النهائي من خارجهم. هذه الفكرة تعني أن يثق الناس، ليس فقط في قدرتهم الذاتية على التفكير والتدبير، بل أيضا في قدرة الآخرين على القيام بالمهمة ذاتها. هذه الثقة تتطلب من الفرد صياغة محاججاته العمومية بناء على احترام وإدراك لقدرة الآخرين على فحصها، وتعديلها، وقبولها أو رفضها.
هذا التداول العمومي مرتبط جدا عند رولز بتطوير إمكانات وقدرات مهمة عند الأفراد. أهم هذه القدرات هي مهارة التعقل. أي أن التداول العمومي عن الأفراد ينمي عندهم القدرة على وزن الأدلة والبراهين والمحاججات والتعامل معها نقديا. هذا مرتبط ليس فقط بالتعليم والجامعات ومراكز الأبحاث، بل حتى بوسائل الإعلام والتعبير في المجتمع. توفر المعلومات للجميع كما توفر الحماية للجميع في المشاركة والتعبير والحوار والتداول عبر كل الوسائل هي في الأخير سمات جوهرية للديمقراطية التداولية كما يدعو لها رولز.
في الأخير من المهم القول إن هذا الفضاء العام للتداول يتطلب توفر ثلاثة شروط أساسية: أولا ضمان الحقوق والحريات والفرص الأساسية للمواطنين الأحرار المتساوين. ثانيا: أن تعطى تلك الحقوق والحريات والفرص الأولوية على القيم الاجتماعية والسياسية. بمعنى أن يقدم الحق على الخير. مثلا (حق) الفرد في التعبير بما يتضمن نقد المسيحية له الأولوية على ما قد يعتقد الغالبية أنه من (الخير) عدم نقد المسيحية. الثالث: أن توفر المؤسسات العامة للأفراد الشروط الضرورية لجعل من مشاركاتهم العمومية مؤثرة وفاعلة. هذا الشرط الثالث يعني التزام المؤسسات العامة بتوفير دعم مادي للحملات العمومية العاجزة عن توفير دعم ذاتي، كما يشمل الالتزام بتوفير تعليم عام للجميع يهيئهم للمشاركة العمومية، كما يشمل أيضا توفير شرط صحي يجعل من هذه المشاركة ممكنة وفاعلة أيضا.



عازفو «الأوركسترا» يتوجون الفائزين بـ«جائزة سلطان العويس الثقافية»

مجلس أمناء مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية والفائزين بالدورة الـ19 للجائزة (الشرق الأوسط)
مجلس أمناء مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية والفائزين بالدورة الـ19 للجائزة (الشرق الأوسط)
TT

عازفو «الأوركسترا» يتوجون الفائزين بـ«جائزة سلطان العويس الثقافية»

مجلس أمناء مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية والفائزين بالدورة الـ19 للجائزة (الشرق الأوسط)
مجلس أمناء مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية والفائزين بالدورة الـ19 للجائزة (الشرق الأوسط)

وسط حضور شخصيات أدبية وثقافية وإعلامية، من الإمارات والعالم العربي؛ كرّمت مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية، مساء الخميس، الفائزين بـ«جائزة سلطان العويس الثقافية» للدورة الـ19، خلال حفل أقيم في دبي، شهد أداءً موسيقياً ساهراً لأوركسترا «أكاديمية الفجيرة للفنون الجميلة»، شارك فيه 45 مغنياً وعازفاً، قدّموا ألواناً من الموسيقى العربية الأصلية.

وتحدث في الحفل الدكتور أنور قرقاش رئيس مجلس أمناء المؤسسة، مؤكداً أن تكريم الفائزين في هذه الدورة يأتي «تقديراً لعطائهم وجهودهم، واعتزازاً بإسهامهم في صياغة الوعي الجمالي والفكري والثقافي لأمتنا».

ووصفَ الفائزين بـ«جائزة العويس الثقافية» بأنهم «منارات الفكر والإبداع في عالمنا العربي، يضيفون إلى تراثنا الغني مزيداً من العمق والتجدد، ويغذّون مسيرة الإبداع العربي بما يفتح آفاقاً جديدة للفكر والمعرفة».

الدكتور أنور قرقاش رئيس مجلس أمناء «مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية» أثناء إلقاء كلمته في حفل تكريم الفائزين (الشرق الأوسط)

وقال قرقاش: «يسرّنا أن نرحّب بكم جميعاً في الإمارات العربية المتحدة، أرض اللقاء والانفتاح، التي تؤمن بقدرة العرب على النهوض والتطور والنجاح، وترى في الإبداع والثقافة جسراً للتواصل الإنساني وبناء المستقبل».

وأضاف: «هذه الجائزة تُجسّد تقديراً مستحقاً لجهودهم المتميّزة في ميادين الأدب والفكر والعلوم، ودافعاً لمواصلة العطاء والتميّز».

وزاد رئيس مجلس الأمناء: «لقد كان عام 2025 عاماً مميزاً في مسيرة المؤسسة، إذ احتفلنا بمئوية الشاعر سلطان بن علي العويس - رحمه الله - من خلال سلسلة من الفعاليات الثقافية التي امتدّ صداها عربياً وعالمياً، احتفاءً برمزٍ جعل من الكلمة جسراً للتنوير، ومن الشعر رسالةً للإنسان والحياة».

وتابع: «لقد كان سلطان بن علي العويس نموذجاً للمثقف العربي الأصيل الذي عبّر بصدق عن اعتزازه بالأدب العربي، وآمن بأن الثقافة هي زاد الأمة وضميرها، فأسّس هذا الوقف الحضاري تكريماً للكلمة المبدعة والعقل المستنير، ليكون منارة تُنير دروب الفكر والإبداع العربي لأجيال متعاقبة».

وأضاف قرقاش: «في هذه الأمسية التي نحتفي فيها بالفائزين ونثمّن إسهاماتهم الثرية في إثراء المشهد الثقافي العربي، نؤكد على التزام مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية بدورها في دعم الإبداع، وتكريم رموزه، وصون القيم الثقافية التي تُعلي من شأن الفكر والكلمة والإنسان».

وأكّد: «إن الأدب والثقافة والفكر ليسوا ترفاً، بل ضرورة إنسانية وحضارية، بهم تُبنى القيم، وتترسّخ الهوية، ويتعمّق الوعي. فهم المرآة التي تعكس تطور المجتمعات، والبوصلة التي توجه الإنسان نحو الخير والجمال والمعرفة. وفي زمنٍ تتسارع فيه التحولات، يبقى دور الثقافة راسخاً في الحفاظ على التوازن الإنساني، وصون الذاكرة، وإلهام المستقبل».

كلمة المكرمين

وفاز بـ«جائزة العويس الثقافية»، في دورتها الـ19، كل من الشاعر العراقي حميد سعيد بجائزة «الشعر»، والروائية العراقية إنعام كجه جي بجائزة «القصة والرواية والمسرحية»، والناقد المغربي حميد لحمداني بجائزة «الدراسات الأدبية والنقد»، والمفكر التونسي عبد الجليل التميمي بجائزة «الدراسات الإنسانية المستقبلية».

وألقت الروائية والصحافية العراقية إنعام كجه جي كلمة الفائزين، قالت فيها: «أودّ التعبير عن الشكر والاعتزاز بهذه اللفتة النبيلة والكريمة. نبيلة لأنها تحمل اسم أديب شاعر ولد في هذه البلاد الطيبة. وتعرفون جميعاً منزلة الشعر لدى العرب. وكريمة لأنها تأتي من رجل اجتهد طوال حياته لكي يخدم اقتصاد بلاده، وأن يؤسس ما يسمح له برعاية العديد من المشاريع التربوية والثقافية، بعطاء جزل».

تقرير التحكيم

وتحدث الكاتب الإماراتي علي عبيد العامري عن لجنة التحكيم، معتبراً أن لجنة تحكيم الجائزة قرّرت فوز هذه المجموعة من الأدباء والمفكرين العرب، وذلك لتميزهم، كل في مجاله، ولأعمالهم التي أسهمت في تطور الأدب والثقافة في العالم العربي.

وأضاف أن لجنة التحكيم قررت منح «جائزة الشعر» للشاعر العراقي حميد سعيد لما تتمتع به تجربته الشعرية من تماسك واطلاع واسع على التراث العربي والإنساني من جهة، ووعي عميق بحداثة القصيدة العربية في مراحلها الفنية والتاريخية المترابطة من جهة أخرى، فقصيدته تغترف مادتها وجمالياتها من حياة محتشدة بالألم والأمل والوعي بتحديات العصر، وصولاً إلى قصيدة مؤثرة ومقلقة تتماهى مع تطلعات الأمة إلى حياة أكثر جمالاً وعدلاً.

الفائزون بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية (الشرق الأوسط)

كما قرّرت اللجنة منح جائزة «القصة والرواية والمسرحية» للروائية إنعام كجه جي، لما تميزت به كتابتها الأدبية من قدرة على المزج بين الجانبين التوثيقي والأدبي. فقد برزت في أعمالها موضوعات الهوية، والمنفى، والاغتراب، والتشظي النفسي، والحنين الذي يعيد اكتشاف الماضي ويطرحه برؤية نقدية جديدة، وهو ما عبّرت عنه شخصيات عاشت على أطراف التاريخ، ولم تجد من يروي حكاياتها، ومنها نساء واقعات في قلب الحياة، يحضرن في منجزها الأدبي بقوتهن، وضعفهن، ونجاحاتهن، وانكساراتهن، وبكل ما يلقين من تناقضات وتحديات.

وقرّرت اللّجنة منح جائزة حقل «الدراسات الأدبية والنقد» للنّاقد المغربي حميد لحمداني؛ لما يتمتع به منجزه النّقدي من أصالة منهجيّة، وتراكم معرفي، واستمراريّة نقديّة لمشروع ضخم ومتراكم، بدأ تقريباً في سبعينات القرن العشرين، ولا يزال مستمرّاً في تحقيق التّثاقف المعرفي بين النقد العربي والغربي، حيث تنفتح تجربته على المنجز الغربي بوعي يتمثّل معطياته، ويعيد إنتاجه في سياق معرفي جديد، من خلال تقديم المنهج ومراجعته ونقده، والاشتغال على النقد التطبيقي.

وقررت اللجنة منح جائزة «الدراسات الإنسانية والمستقبلية» للمؤرخ التونسي عبد الجليل التميمي، وهو أحد أبرز المؤرخين العرب المعاصرين، وتمثل أعماله البحث التاريخي كما جرى تطويره في الفكر المعاصر، إضافة إلى تنوع مجال اهتمامه التاريخي، حيث انصبّت أعماله على دراسة تاريخ الموريسكيين في الأندلس، وتاريخ الولايات العربية في العهد العثماني، وتاريخ تونس المعاصر، وتعدّ أعماله نموذجاً للتوثيق التاريخي المستند إلى القواعد الجديدة في الكتابة التاريخية.

جانب من الحضور في حفل تكريم الفائزين بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية (الشرق الأوسط)

يذكر أن هذه الدورة من الجائزة تحتلّ أهمية خاصة، كونها تتزامن مع مئوية الشاعر سلطان بن علي العويس، وتم فيها رفع قيمة الجائزة لكل فائز إلى 150 ألف دولار.

وتهدف «جائزة العويس الثقافية» إلى تكريم المبدعين الذين حصلوا عليها في مختلف الحقول الثقافية والعلمية، وتُساهم في تشجيع الإبداع والابتكار في العالم العربي، وتعزيز دور الثقافة في التنمية والتقدم.


الروائية العراقية إنعام كجه جي: أقتلُ أبطال رواياتي… خاصة إذا كانوا رجالاً!

الروائية العراقية إنعام كجه جي تتحدث في ندوة حوارية نظمتها مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في معرض الشارقة الدولي للكتاب وأدارتها الروائية الإماراتية صالحة عبيد (الشرق الأوسط)
الروائية العراقية إنعام كجه جي تتحدث في ندوة حوارية نظمتها مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في معرض الشارقة الدولي للكتاب وأدارتها الروائية الإماراتية صالحة عبيد (الشرق الأوسط)
TT

الروائية العراقية إنعام كجه جي: أقتلُ أبطال رواياتي… خاصة إذا كانوا رجالاً!

الروائية العراقية إنعام كجه جي تتحدث في ندوة حوارية نظمتها مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في معرض الشارقة الدولي للكتاب وأدارتها الروائية الإماراتية صالحة عبيد (الشرق الأوسط)
الروائية العراقية إنعام كجه جي تتحدث في ندوة حوارية نظمتها مؤسسة سلطان بن علي العويس الثقافية في معرض الشارقة الدولي للكتاب وأدارتها الروائية الإماراتية صالحة عبيد (الشرق الأوسط)

حملت الروائية العراقية إنعام كجه جي، هموم عراقها، وغربتها، والهوية والمنفى، ومعها انكسارات أبطال رواياتها، إلى الخليج الذي لا يبعد عن عراقها سوى بضعة أميال تفصلها عن وطنٍ لا يغيب، وعن ذاكرةٍ تقاوم النسيان.

فضمن الدورة التاسعة عشرة لـ«جائزة سلطان بن علي العويس الثقافية»، أقيمت للروائية العراقية الفائزة بالجائزة هذا العام ندوة لتروي شهادتها، وندوة حوارية خاصة في قاعة الفكر بمعرض الشارقة الدولي للكتاب، وسط حضور ثقافي من الأدباء والمثقفين وجمهور معرض الشارقة، وأدارت الندوة الروائية الإماراتية صالحة عبيد.

في هذه الندوة، تحدثت إنعام كجه جي، عن تجربتها في عالم الكتابة: صحافة ورواية، وعن غربتها والحنين للعراق الذي يطلّ بجراحه وآلامه أمامها كل يوم.

وقالت الروائية العراقية إنها حملت العراق بين جوانحها إلى باريس، وإن الغربة منحتها جواز سفر تتنقل فيه... «لكنّ كم شخصاً يُتاح له أن يكون عراقياً». لكنها أضافت، أنها تفتقد في غربتها وجود «حياة اجتماعية حقيقية» ففي باريس «لا يمكن إلا أن تكون غريباً رغم ما كل بذلتُ من جهود للتعرف عليها».

فازت إنعام كجه جي بجائزة سلطان بن علي العويس الثقافية في دورتها التاسعة عشرة، فرع (القصة والرواية والمسرحية)، «لما تميزت به كتابتها الأدبية من قدرة على المزج بين الجانبين التوثيقي والأدبي». وبرزت في أعمالها موضوعات الهوية، والمنفى، والاغتراب، والتشظي النفسي، والحنين الذي يعيد اكتشاف الماضي ويطرحه برؤية نقدية جديدة، وهو ما عبّرت عنه شخصيات عاشت على أطراف التاريخ ولم تجد من يروي حكاياتها، ومنها نساء واقعات في قلب الحياة، يحضرن في منجزها الأدبي بقوتهن، وضعفهن، ونجاحاتهن، وانكساراتهن، وبكل ما يلقين من تناقضات وتحديات.

الروائية العراقية إنعام كجه جي: العيش في الاغتراب هو سمة معظم شخصيات قصصي ورواياتي (الشرق الأوسط)

قلق الهوية

وهي لم تبد قلقاً على الهوية التي انغمست في الثقافة الباريسية نصف قرن، وأبدت استغرابها من مفهوم الاستلاب الثقافي... وقالت: «لا أفهم معنى الاستلاب الثقافي، ولا أفهم معنى الغزو الثقافي... من كانت أصوله قوية لا ينبغي له أن يخاف، وأنا أشعر أنني قوية، وأن الآخر عليه أن يشعر بالخوف من قدرتي على التأثير فيه».

لكن قلق الهوية لا يغادر إنعام، فهي تصف الهوية، بأنها «مفردة التي تكاد تهترئ من كثرة التداول!»، وتقول: «كلما التقيت صحافياً أراه يطرح عليّ سؤال الهوية. وأنا أخشى هذا السؤال. لا بمعنى المناورة والتهرّب، بل لأنني لم أتوصّل إلى جواب شافٍ. بعد أربعين عاماً ونيّف من الإقامة في البلد الغريب لم أتوصل إلى جواب شافٍ. هل ضاعت هويتي أو سقطت مني؟ هل اضمحلّت وبت أرتدي هوية غيرها؟ ما كان الأمر يهمنّي قبل دخولي ميدان الكتابة الأدبية. كنت أعرف أنني فلانة. أنتمي لمسقط رأس في بغداد ولي دين أهلي ولغتي العربية ولهجتي المحلية. وهمومي الوطنية وآمال في مستقبل أفضل لأمتّي».

وعن السرد والغربة والهوية في العراق، تقول: «نصف ما يُكتب من روايات عراقية يصدر اليوم بأقلام مهاجرين. سرديات لا فكاك لها من هوياتها. العيش في الاغتراب هو سمة معظم شخصيات قصصي ورواياتي. وجدت حولي في مهجري مصائر فالتة من مداراتها. وأنا أفضل دائماً أن أعدّ نفسي مهاجرة. إذ لم أكن لاجئة ولا منفية. وهكذا، ومن دون تخطيط مسبق، سيطرت على رواياتي شخصيات قلقة تعيش تذبذب الهوية، تتعلق بوطن سابق تعذبّت فيه وتستقر في بلد يؤمن لها العيش دون أن تأتمنه تماماً. ولأنني من جيل سابق، شعرت أن من واجبي توثيق تلك المصائر».

وفي لحظة اعتراف لافتة، قالت إنعام: «أعترف بأن لديّ سادية كامنة... فأنا أقتل أبطال رواياتي في النهاية... وخاصة إذا كانوا رجالاً».

وقدمت إنعام أمام جمهور معرض الشارقة صورة سريالية لعالمها في الكتابة، فهي التي تكتب من شقة في برج سكني تطل من خلاله على شتاء باريس وثلوجه، تصطلي صفحات رواياتها بأحداث مفجعة ومؤلمة... وهي تقول «التضاد بين الثلج خارج نافذة بيتي وأنا أكتب في مواجهة لهيب القيظ داخل رواياتي يخلخلني».

الروائية العراقية إنعام كجه جي: الغربة منحتني جواز سفر... لكنّ كم شخصا يُتاح له أن يكون عراقياً (الشرق الأوسط)

وتبدو إنعام سعيدة، حيث أتاح لها الأدب فرصة للتواصل مع محيطها، وكسر طوق الغربة، وخاصة بعد أن ترجمت بعض أعمالها للغة الفرنسية، «كانت سعادتي كبيرة يوم أن ترجمت إلى الفرنسية لكي يقرؤها جيراني وأبنائي الذين لم يجيدوا العربية وعاشوا عمرهم يظنون أن أمهم كانت تكتب أحجية وتمائم... كذلك فإن نظرة الفرنسي تتغير إذا عرف أنك تنتمي لعالم الكتابة أو العمل الأكاديمي».

إنعام كجه جي، التي وصفت نفسها بأنها «صحفية عجوز وروائية شابة»، قالت إنها «صحفية أكثر من كوني روائية» وأبدت وفاءها للمهنة التي قالت عنها: «هي المهنة التي عشتُ منها وزودتني بشخصيات رواياتي»، وتحدثت عن علاقتها بالصحافة، وكيف أثرت تجربتها الصحافية على كتابتها للرواية، وقالت: «علمتني الصحافة كيف أختصر وأزيل الترهلات من الكتابة الروائية».

وعن فوزها بجائزة سلطان العويس الثقافية، قالت: «شعرتُ وكأنها مكافأة نهاية الخدمة»، يذكر أن إنعام كجه جي لديها مشوار مع الجوائز الأدبية، فقد وصلت رواياتها للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية ثلاث مرات.


«معجم الأدباء السعوديين» يترجم لـ1544 أديباً وأديبة عبر 150 عاماً

غلاف كتاب «معجم الأدباء السعوديين»
غلاف كتاب «معجم الأدباء السعوديين»
TT

«معجم الأدباء السعوديين» يترجم لـ1544 أديباً وأديبة عبر 150 عاماً

غلاف كتاب «معجم الأدباء السعوديين»
غلاف كتاب «معجم الأدباء السعوديين»

صدر للأديب وباحث الببليوغرافي السعودي، خالد بن أحمد اليوسف، كتاب «معجم الأدباء السعوديين»، الذي يرصد أسماء وتراجم الأدباء السعوديين، على مدى 150 سنة، ووصل عدد السير والتراجم فيه إلى 1544 أديباً وأديبة.

صدر «معجم الأدباء السعوديين»، عن «مؤسسة الانتشار العربي» في بيروت والشارقة، 2025. ويقع في 720 صفحة، مجلداً تجليداً فاخراً، ومعروف عن اليوسف اشتغاله بالأعمال التوثيقية لحركة التأليف والنشر الأدبي في السعودية.

يتكون هذا المعجم من مقدمة تفصيلية، فيها جميع المعلومات المتعلقة بمحتواه، وتاريخ كتب التراجم والسير في المملكة، ومسيرة المؤلف مع هذا المعجم، ثم كشاف الأسماء للأدباء والأديبات، وقد وضع الكشاف بحسب اسم الشهرة وأمام كل اسم الرقم التسلسلي، لكي يتم الوصول إليه بيسر وسهولة، ثم السير والتراجم، ثم المراجع والمصادر، علماً بأن المؤلف لم يترك كتاباً أدبياً سعودياً إلا ورجع إليه، وإلى الصحافة بكل أنواعها، بخلاف الاتصال المباشر مع الأدباء.

ويعنى هذا الكتاب بكل أديب له نتاج مطبوع في مجالات الإبداع الأدبي، أو أديب له نتاج منشور في جميع الوسائط المقروءة، ويشهد عليه ما أنتجه والوسط الأدبي والثقافي، وليس له كتاب مطبوع، وكذلك من درس أو كتب أو أرخ للأدب السعودي، وهو بطبعه الإلمام بالأدب السعودي.

ويترجم لكل الأدباء الذين شهدوا وعاشوا بدايات المملكة العربية السعودية، وهم سعوديون، وتتفق المراجع على ذلك.

وقد وضع المؤلف لهذا المشروع مخططاً ليكون شاملاً محيطاً لكل الأدباء، مؤكداً أنه لم يهمل أحداً «إلا من رضي بذلك، ويتحمل هو مسؤولية عدم وجوده في الكتاب».

الأديب والباحث الببليوغرافي السعودي خالد بن أحمد اليوسف (الشرق الأوسط)

وعن البداية يقول خالد اليوسف: في عام 1992 كلفت تطوير كتاب «دليل الكاتب السعودي»، وبعد ثلاث سنوات من العمل الحثيث صدر كتابي: «دليل الكتاب والكاتبات»، وهو كتاب تراجم وسير للأحياء الذين لهم كيان ووجود في الكتابة الأدبية والثقافية، واعتبر المرجع الأول لكل من يبحث في هذا المجال، وبعده بـ15 سنة أصدرت كتاب «أنطولوجيا القصة القصيرة في المملكة العربية السعودية»، وبالإضافة إلى أنه متخصص في «القصة القصيرة - نصوص متميزة»، فإن هناك السير والترجمة الجديدة والمركزة عن كل كاتب مشارك.

يضيف: «بعد اطلاعي على عشرات الكتب التي صدرت في هذا المجال، وجدت ضرورة أن أضع معجماً شاملاً لكل الأدباء السعوديين، لأن بعضها خاص بأدباء منطقة واحدة، وجاء فيها المجاملة وعدم التوازن في الترجمة، وهناك من أهمل الكثير والكثير من الأدباء، وهناك من تخصص في مجال أدبي معين، ومن هنا سعيت لوضع هذا المعجم منذ عام 2014».

وعن عمله في إعداد المعجم، يقول اليوسف: «كونت قاعدة لهذا المعجم؛ أن يكون متوازناً، منصفاً، لا يحمل أي كلمة إطراء أو مدح أو ثناء، لا تفاضل فيه ورفع شخصية دون شخصية أخرى. الكل في مرتبة واحدة هي الأدب، ولهذا تم ترتيبه هجائياً باسم العائلة الأصلي. وهناك مدخل آخر باسم الشهرة، وفرضت على كل مشارك أن تتكون معلوماته هي: الاسم الرباعي، اسم الشهرة، مكان الميلاد وتاريخه، آخر شهادة علمية يرغب ذكرها وتخصصها ومن أي جامعة وتاريخ التخرج، وصف الأديب وصفاته الأدبية وبعض نشاطه البارز في حدود أربعة أسطر، ذكر ستة كتب من مؤلفاته لمن تزيد عن ذلك مع ذكر نوعها وتاريخ الصدور، هذه المعلومات المهمة بصفته الأدبية، وهي لا تتجاوز لكل شخصية سبعين كلمة.

وعن المتاعب التي واجهته، يقول: «هناك مئات الأدباء الذين لهم إصدارات أدبية، وليس لهم اهتمام بوضع سيرة لهم في كتبهم أو في أي مكان مرجعي عنهم، وهم من أُرهقت منهم، ومن التواصل معهم، أو مع معلوماتهم الغائبة، ولهذا مع البحث بدأت أجمع كل معلومة وأدونها حتى تكتمل وتتكون سيرهم الكاملة، وكنتُ أتمنى ألا تطول وأن أنتهي قريباً».