سرقات أدبية... أم «تناص»؟

يبدو أن السرقات الشعرية ليست بحالة جديدة تنم عن الفقر الإبداعي، بحسب ما يكشفه كتاب المجلة العربية «السرقات الشعرية والتناص... نقاط التقاطع ومسارات التوازي» الصادر هذا الشهر للمؤلف إبراهيم بن سعد الحقيل، الذي جاء في 119 صفحة مزيدة بالمراجع الأكاديمية. ويقول المؤلف إن السرقة الأدبية ظهرت بشكل جلي «مع حدوث الصراع بين أنصار المذهب الجديد في الشعر الذي قاده أبو تمام في مقابل أنصار المذهب القديم، انطلاقاً من حركة التغيير والتحول الفكري التي هَبَّت رياحها على المجتمع العربي فكان أثرها كبيراً».

قديماً لم يطلق النقاد على سارق الشعر «لصّاً» ولهذا قال الفرزدق: «خير السرقة ما لم تقطع فيه يد»، وابن قتيبة (276هـ) الذي استبدل بمصطلح «السرقة» مصطلح «الأخذ»، فلم يرد في كتابه «الشعر والشعراء»، مصطلح السرقة إلا في موضع واحد. وتابعه أبو الفرج في كتابه «الأغاني» فلم يأتِ بالسرقة إلا في مواضع ليست من إنشائه بل أخبار ينقلها عن غيره، وكذلك عبد القادر الجرجاني (471هـ) الذي تحاشى مصطلح السرقة مستبدلاً به مصطلحات أخرى، مثل «الاستمداد» و«الاستعانة» و«الأخذ».
ويكشف الحقيل أن مصطلح السرقات الشعرية في العصر الجاهلي والإسلامي كان يشير إلى سرقة الشعر بمجمله، حين كانت الرواية الشفهية تجعل ذلك متاحاً، لخفاء بعض الأشعار وعدم سيرورتها بين الناس. وضرب عدداً من أمثلة الشعراء الذين سرقوا شعر أساتذتهم دون علمهم، ويخلص إلى أن السرقة في العصر الجاهلي وصدر الإسلام كانت تعني انتحال الشعر وضمَّه، فمثلا قال حسان بن ثابت:
لا أسرق الشعراء ما نطقوا
بل لا يوافق شعرهم شعري
ويلفت المؤلف إلى أن مفهوم السرقات الشعرية لم يتبلور إلا بعد تدوين الشعر والانتقال من الرواية الشفاهية، ثم تطور المصطلح في أواخر القرن الثاني الهجري. لكن لم يتوطد مفهوم السرقات الشعرية إلا مع تقدم الدرس الأدبي والنقدي في العصر العباسي الأول. ونستدل من قول الأعشى حين سجن ليمتحن في قوله الشعر:
ما أنا أم ما انتحالي ألقوافي
بعد المشيب كفى ذاك عارا!
ويوضح الحقيل أن الناقد المصري محمد مندور في كتابه «النقد المنهجي عند العرب»، أشار إلى أن مصطلح السرقة لم يتوطد ويصبح من أدوات النقد، إلا بعد الخصومة بين أنصار أبي تمام وخصومه. ويعدد المؤلف أسباب شيوع البحث في السرقات الشعرية وأولها: إظهار الرواة وأهل العلم بالشعر اتساع رواياتهم، وقدرتهم على استحضار الشعر القديم، ومن ثم الموازنة بينه وبين الشعر المحدث. أما السبب الثاني فيتمثل في الخصومة بين النقاد والرواة الذين كانوا في الغالب من مناصري مذاهب القدماء، وينظرون لمعاصرين من الشعراء من علوّ. والثالث: الخصومات، سواء ما بين الشعراء أو فئات من الناس، ومن ذلك الخصومة بين البحتري وابن الرومي جعلت الأخير يهاجم البحتري ويصمه بسرقة المعاني:
ما إن تراه لابساً حللاً
أسلاب قومٍ مضوا في سالفِ الحقبِ
ويسلط الكتاب الضوء على «نظرية السرقات الشعرية»، مشيراً إلى أنها «منبثقة من تقديس القديم والغض من المحدث الجديد، تقابلها حتمية التغيير والتطور الذي لحق بالمجتمع العربي، فتجلت تلك النظرية ولم تخب إلا بخبو الشعر وذهاب دولته، في عصور الانحطاط، ولما نبغ الغرب في عصوره الحديثة والمعاصرة خرجت من عباءة نقاده ومنظريه نظريات نقدية، نظرت للنص من جوانب عدة، فمنها التي جعلته دائرة مغلقة، لا يمكن الخروج منها أو الإحالة إلى خارجه، جاعله النص لا مرجعية له (كالبنيوية والأسلوبية)، ومنها نظريات انفتحت على النص، فجعلته متصلاً بالفضاء النصي الذي لا يزال يتوالد في نصوص أخرى، ويستبطن ما سبقه من النصوص ويشتمل على ما سيأتي من النصوص، رافضه إغلاقه، تلك هي نظرية التناص التي كانت ردّاً مماثلاً في القوة ومعاكساً في الاتجاه لتلك النظريات الشكلانية ثم البنيوية. وإن استعارت منها ذوبان المؤلف وذهاب صداه وأثره في النص».
ويذهب المؤلف إلى أن نظرية التناص التي كانت بدايتها مع الناقد الروسي ميخائيل باختين، فتحت أفاقاً جديدة في النقد الأدبي، إذ أصبحت نظرية السرقات الشعرية، كالسيف المسلط على رقاب الشعراء العرب ردحاً طويلاً من الزمن، موضحاً أن النقاد العرب انقسموا لفريقين، منهم من يرى أن نظرية السرقات الشعرية مواطئة للتناص، والبعض الآخر يدفع بذلك، لذا أراد المؤلف أن يظهر نقاط التقاطع والتوازي بينهما من خلال عرض المبادئ والأسس النظرية والمنهج، وأيضاً التطبيقات على النصوص الأدبية والتلقي.
يشير الحقيل إلى أن نظرية السرقات الشعرية «خرجت متشبعة بروح عصر العلم والفكر والفلسفة، واستطاع النقاد أن يطوعوها في خدمة النقد العربي، لكن الخمود النقدي والفكري جعل النظرية لا تتابع طريقها نحو فضاء أرحب من الشعر».
ويوضح أن التناص كمصطلح فرنسي الأصل ظهر في مرحلة (ما بعد البنيوية) ليشير إلى استحالة وجود نص نقي، وأن كل نص صدى لنص آخر إلى ما لا نهاية. وكل نص أدبي يجب أن يُقرَأ في ضوء سياقاته التاريخية والثقافية. ثم يقدم الحقيل مسحاً شاملاً للتراث معرجاً على التعريفات الفرنسية والعربية للمصطلح من قبل النقاد والأكاديميين، لكن «على الرغم من تقادم المصطلح وتماسكه منذ سبعينات القرن الماضي إلا أننا نجد أن تناوله لم يصل لمرحلة الكمال بعد.
ويشير الحقيل إلى أنه اقتصر في نظرته لنظرية التناص على جانب استخدامها في المجال الأدبي مع التركيز على نقاط تقاطعها وتوازيها مع نظرية السرقات الشعرية، ومن بينها أن الناقد والمتلقي يمكنه توظيف النظريتين في معالجة جميع النصوص سواء التراثية أو الحديثة المعاصرة، كما أن النظريتين تتبعان النصوص باعتبارها محكومة بالتوالد، وأن المبدع ليس إلا معيداً لإنتاج سابق. وأن النص الجديد في باطنه نص سابق، وأنه لا يوجد نص مغلق أو نص مكتفٍ بذاته.
يفند الكتاب أيضاً مسارات الاختلاف بين النظريتين بأسلوب سهل وسلس ممتع للقارئ بلغة مرنة مع استشهادات توضيحية. ويخلص في الخاتمة إلى أن الدعوة لإلباس التناص ثوب السرقات الشعرية جزء من أزمتنا الثقافية، التي تتخبط بين الإحياء والتحديث والتجديد، فكلما انبثق جديد من نظريات النقد الغربي هرولنا مقيمين علاقة بينه وبين تراثنا القديم عن طريق التماثل أو الملابسة، وكأن الجديد لا يصلح لنا إلا إذا كان ملابساً للقديم، وكأن التراث صالح لكل شيء، وهي أزمة تعبر عن البحث عن الذات أكثر ما تعبر عن العجز.
ولكن يؤخذ على الكتاب قلة الأمثلة التطبيقية على النصوص المعاصرة لا سيما أن موضوع البحث سيكون له أثر أكبر إذا ما تناول نصوصاً حداثية معاصرة مقارنة بنصوص تراثية.