الاقتصاد يعيد نفسه

الاقتصاد يعيد نفسه
TT

الاقتصاد يعيد نفسه

الاقتصاد يعيد نفسه

من آثار الأزمة الاقتصادية الأخيرة أنها علمت العالم أن الأوضاع الاقتصادية تعيد نفسها ولو بلباس جديد وقوة أكبر. خطر للمسؤولين أن من المفيد أن تستعد المؤسسات المالية والتجارية والأوساط الحكومية كذلك لاحتمالات التطورات الاقتصادية، نفعا أو ضررا، تستقريء الماضي وتحسب حساباته. ظهرت الحاجة إلى دراسة التاريخ الاقتصادي وما تفتقت عنه من تطورات. هكذا، وربما لأول مرة راح المسؤولون يحتضنون علماء الاقتصاد وأساتذة وتلامذة الجامعات، يستفتونهم ويستمعون إليهم ويقرؤون مطالعاتهم.
تهالكت أسواق النشر على إصدار المطبوعات التي تلقي أضواء على الماضي الاقتصادي للعالم. تدفقت الكتب، فرأينا الدكتور نائل القشطيني، أستاذ التاريخ الاقتصادي في كلية لندن للاقتصاد، التابعة لجامعة لندن، قد أصدر خلال العامين الماضيين ثلاثة كتب تتناول مستجدات التاريخ الاقتصادي. كان آخرها كتابه الشيق «تاريخ صغير للاقتصاديات» (A Little History of Economics). والكتاب من منشورات جامعة ييل الأميركية.
وقد أثنت الصحافة البريطانية، وفي مقدمتها «الفاينانشيال تايمز»، على هذا الكتاب الذي لقي صدى واسعاً في الأوساط الجامعية.
الغلاف الأمامي للكتاب يحمل صورة تخطيطية في الأعلى للإنسان القديم يحرث ويبذر، وصورة تخطيطية أخرى في الأسفل للدخان المتصاعد من مداخن المعامل الصناعية للعصر الحديث. تلخص هاتان الصورتان مسيرة المؤلف في كتابه هذا، مسيرة الاقتصاد البشري منذ فجر التاريخ حتى أيامنا هذه.
هكذا، نجد أن الفصل الأول «رؤوس باردة وقلوب دافئة» يتناول صراع الشعوب الفقيرة في سعيها للبقاء والنهوض. وبعد كلمات دافئة من المؤلف تتعاطف مع سعي هذه الشعوب نراه ينتقل من مدرسة إلى مدرسة من مدارس الاقتصاد، من عهد اليونان والرومان إلى عهود القرون الوسطى، أكويناس وأوغستين، ثم تطل الثورة الفرنسية وما جاءت به من أحلام، فورير وروبرت أوين وبقية المثاليين حتى تفيقهم الثورة الصناعية انطلاقا من آدم سميث إلى ماركس والمدرسة الاشتراكية.
يسرد المؤلف كل ذلك بأسلوب واضح وسلس يدخل الذهن من دون استئذان. العيب الرئيسي في الكتاب أن المؤلف يحصر منظاره تقريبا في الساحة الغربية وما توصل إليه علماؤها من اجتهادات وتصورات ونظريات، كل ذلك رغم اهتمامه الواضح بمشاكل شعوب العالم الثالث.



كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر
TT

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

كتاب جديد يكشف خبايا حملة نابليون على مصر

يتناول كتاب «حكايات في تاريخ مصر الحديث» الصادر في القاهرة عن دار «الشروق» للباحث الأكاديمي، الدكتور أحمد عبد ربه، بعض الفصول والمحطات من تاريخ مصر الحديث؛ لكنه يتوقف بشكل مفصَّل عند تجربة نابليون بونابرت في قيادة حملة عسكرية لاحتلال مصر، في إطار صراع فرنسا الأشمل مع إنجلترا، لبسط الهيمنة والنفوذ عبر العالم، قبل نحو قرنين.

ويروي المؤلف كيف وصل الأسطول الحربي لنابليون إلى شواطئ أبي قير بمدينة الإسكندرية، في الأول من يوليو (تموز) 1798، بعد أن أعطى تعليمات واضحة لجنوده بضرورة إظهار الاحترام للشعب المصري وعاداته ودينه.

فور وصول القائد الشهير طلب أن يحضر إليه القنصل الفرنسي أولاً ليستطلع أحوال البلاد قبل عملية الإنزال؛ لكن محمد كُريِّم حاكم الإسكندرية التي كانت ولاية عثمانية مستقلة عن مصر في ذلك الوقت، منع القنصل من الذهاب، ثم عاد وعدل عن رأيه والتقى القنصل الفرنسي بنابليون، ولكن كُريِّم اشترط أن يصاحب القنصل بعض أهل البلد.

تمت المقابلة بين القنصل ونابليون، وطلب الأول من الأخير سرعة إنزال الجنود والعتاد الفرنسي؛ لأن العثمانيين قد يحصنون المدينة، فتمت عملية الإنزال سريعاً، مما دعا محمد كُريِّم إلى الذهاب للوقوف على حقيقة الأمر، فاشتبك مع قوة استطلاع فرنسية، وتمكن من هزيمتها وقتل قائدها.

رغم هذا الانتصار الأولي، ظهر ضعف المماليك الذين كانوا الحكام الفعليين للبلاد حينما تمت عملية الإنزال كاملة للبلاد، كما ظهر ضعف تحصين مدينة الإسكندرية، فسقطت المدينة بسهولة في يد الفرنسيين. طلب نابليون من محمد كُريِّم تأييده ومساعدته في القضاء على المماليك، تحت دعوى أنه -أي نابليون- يريد الحفاظ على سلطة العثمانيين. ورغم تعاون كُريِّم في البداية، فإنه لم يستسلم فيما بعد، وواصل دعوة الأهالي للثورة، مما دفع نابليون إلى محاكمته وقتله رمياً بالرصاص في القاهرة، عقاباً له على هذا التمرد، وليجعله عبرة لأي مصري يفكر في ممانعة أو مقاومة نابليون وجيشه.

وهكذا، بين القسوة والانتقام من جانب، واللين والدهاء من جانب آخر، تراوحت السياسة التي اتبعها نابليون في مصر. كما ادعى أنه لا يعادي الدولة العثمانية، ويريد مساعدتهم للتخلص من المماليك، مع الحرص أيضاً على إظهار الاحترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين؛ لكنه كان كلما اقتضت الضرورة لجأ إلى الترويع والعنف، أو ما يُسمَّى «إظهار العين الحمراء» بين حين وآخر، كلما لزم الأمر، وهو ما استمر بعد احتلال القاهرة لاحقاً.

ويذكر الكتاب أنه على هذه الخلفية، وجَّه نابليون الجنود إلى احترام سياسة عدم احتساء الخمر، كما هو معمول به في مصر، فاضطر الجنود عِوضاً عن ذلك لتدخين الحشيش الذي حصلوا عليه من بعض أهل البلد. ولكن بعد اكتشاف نابليون مخاطر تأثير الحشيش، قام بمنعه، وقرر أن ينتج بعض أفراد الجيش الفرنسي خموراً محلية الصنع، في ثكناتهم المنعزلة عن الأهالي، لإشباع رغبات الجنود.

وفي حادثة أخرى، وبعد أيام قليلة من نزول القوات الفرنسية إلى الإسكندرية، اكتشف القائد الفرنسي كليبر أن بعض الجنود يبيعون الملابس والسلع التي حملها الأسطول الفرنسي إلى السكان المحليين، وأن آخرين سلبوا بعض بيوت الأهالي؛ بل تورطت مجموعة ثالثة في جريمة قتل سيدة تركية وخادمتها بالإسكندرية، فعوقب كل الجنود المتورطين في هذه الجريمة الأخيرة، بالسجن ثلاثة أشهر فقط.

يكشف الكتاب كثيراً من الوقائع والجرائم التي ارتكبها جنود حملة نابليون بونابرت على مصر، ويفضح كذب شعاراته، وادعاءه الحرص على احترام ومراعاة مشاعر وكرامة المصريين.

لم تعجب هذه العقوبة نابليون، وأعاد المحاكمة، وتم إعدام الجنود المتورطين في هذه الحادثة بالقتل أمام بقية الجنود. وهكذا حاول نابليون فرض سياسة صارمة على جنوده، لعدم استفزاز السكان، وكان هذا جزءاً من خطته للتقرب من المصريين، وإرسال رسائل طمأنة إلى «الباب العالي» في الآستانة.

وكان من أول أعمال نابليون في الإسكندرية، وضع نظام حُكم جديد لها، استند إلى مجموعة من المبادئ، منها حرية الأهالي في ممارسة شعائرهم الدينية، ومنع الجنود الفرنسيين من دخول المساجد، فضلاً عن الحفاظ على نظام المحاكم الشرعية، وعدم تغييرها أو المساس بقوانينها الدينية، وكذلك تأليف مجلس بلدي يتكون من المشايخ والأعيان، وتفويض المجلس بالنظر في احتياجات السكان المحليين.

ورغم أن بعض بنود المرسوم تُعدُّ مغازلة صريحة لمشاعر السكان الدينية، فإن بنوداً أخرى تضمنت إجراءات شديدة القسوة، منها إلزام كل قرية تبعد ثلاث ساعات عن المواضع التي تمر بها القوات الفرنسية، بأن ترسل من أهلها رُسلاً لتأكيد الولاء والطاعة، كما أن كل قرية تنتفض ضد القوات الفرنسية تُحرق بالنار.

وفي مقابل عدم مساس الجنود الفرنسيين بالمشايخ والعلماء والقضاة والأئمة، أثناء تأديتهم لوظائفهم، ينبغي أن يشكر المصريون الله على أنه خلصهم من المماليك، وأن يرددوا في صلاة الجمعة دعاء: «أدام الله إجلال السلطان العثماني، أدام الله إجلال العسكر الفرنساوي، لعن الله المماليك، وأصلح حال الأمة المصرية».