سيرة جوبز تقدم صورة مغايرة لما نعرفه من الرجل

{آيفون} لم يكن عملاً ابتكره عبقري واحد

ستيف جونز
ستيف جونز
TT

سيرة جوبز تقدم صورة مغايرة لما نعرفه من الرجل

ستيف جونز
ستيف جونز

صدر حديثا عن دار نشر «بانتام» كتاب «اللوح الواحد» لراين ميرشانت، الصحافي الأميركي ومحرر مدونة التكنولوجيا الخاصة بـ«فايس ميديا». وهو سيرة لمخترع الآيفون ستيف جوبز. لكن ميرشانت يقول منذ البداية، في عرض للكتاب نشرته جريدة «الغارديان» البريطانية في التاسع والعشرين من الشهر الماضي، إن جهاز الـ«آيفون» ليس حقاً اختراعاً مذهلاً أصيلا، بل مجرد نموذج يجمع ما سبقه من تطورات في هيكل واحد صغير سهل الاستخدام، أو كما يصفه أحد الخبراء في الكتاب بـ«تكنولوجيا الالتقاء»، حيث لم يكن عملا ابتكره عبقري واحد، بل ثمرة تعاون طويل بين المصممين، والمهندسين، وبعض العاملين في شركة «آبل»، والكثير من الأفراد في مختلف أنحاء العالم في مجال البحث العلمي والتصميم الصناعي.
ويقوم ميرشانت في بعض أفضل أقسام كتاب «الجهاز الواحد» «ذا وان ديفايس» باستعادة بعض الرواد المنسيين. ويتضمن الأمر الكثير من المفارقات؛ فقد اخترع علماء يعملون لدى شركة «إكسون» بطاريات الليثيوم المستخدمة في أجهزة الـ«آيفون» خلال أزمة النفط التي حدثت في سبعينات القرن الماضي، وتم التخلي عما توصلوا إليه حين عاودت أسعار الغاز الانخفاض مرة أخرى. وابتكر وين ويسترمان، مهندس كهربائي شاب ألمعي، نظاما متعدد اللمس يستخدم حالياً في «آيفون» من أجل تخفيف حدة ما يشعر به من أعراض «متلازمة النفق الرسغي». مع ذلك كان عليه إغلاق شركته، ولم يستمر إنتاج لوحة المفاتيح المريحة الشهيرة، واستحوذت عليها شركة «آبل». أما زجاج «غوريلا» الذي يتم استخدامه في تصنيع شاشات الـ«آيفون»، والمقاوم للكسر، فقد ابتكره مجموعة من المهندسين في شركة «كورنينغ غلاس» في بداية الستينات، وكانوا قد نجحوا في ذلك من خلال وضع ألواح الزجاج في حمامات من أملاح البوتاسيوم. كانت المشكلة هي عدم توصلهم إلى طريقة لاستخدام هذا الزجاج شديد القوة والمتانة. وقد فكروا في استخدامه في صناعة الزجاج الأمامي للسيارات، لكن وجدوا أنه كان قاسيا إلى درجة أدت إلى تكسير الناس له، لذا أصبح هذا الزجاج في طي النسيان إلى أن ظهر ستيف جوبز وأعاده إلى المشهد مرة أخرى.
تلك اللحظة، التي التقطها والتر إيزاكسون في كتابه عن سيرة جوبز، تقدم لنا صورة عن الرجل. بدأ جوبز الاجتماع من خلال التعبير عن شكه فيما إذا كان الزجاج جيداً بما يكفي لاستخدامه في صناعة الـ«آيفون»، وبدأ يوضح لويندل ويكس، الرئيس التنفيذي لشركة «كورنينغ»، أكبر شركة لتصنيع الزجاج في البلاد، كيفية صناعة الزجاج، فقاطعه ويكس قائلا: «هل يمكن أن تصمت وتجعلني أعلمك قدراً من العلم؟» لم يكن جوبز يتحلى بفضيلة الصبر، وكان مستبداً، وضحلا، وقاسيا، وجاهلا، ومصاباً بالنرجسية، وكثيراً ما يكون على خطأ.
هذه المرة خضع جوبز، لكن كانت كلمته هي القانون في أكثر الأوقات. وحاول الكثير من تابعيه الحديث مثله ومحاكاة أسلوبه في ارتداء الملابس، حيث كان يخشون دائماً اعتراضه. وكان يتم إخفاء أكثر النسخ الأولية من الـ«آيفون» منه حتى لا يجهض المشروع في المهد.
وتم إنجاز المرحلة الأولى من المشروع في صمت ودهاء. وقد حرصت «آبل» على السرية في أكثر مشروعاتها، لكن المدة التي تم الحفاظ خلالها على سرية الهاتف كانت مذهلة، حيث يشير ميرشانت إلى تقديم مواصفات لمشروعات غبية إلى الموردين، ومهندسين يعملون وراء الأبواب المعدنية المغلقة. بعيداً عن لوحة المفاتيح، كان من النادر تجربة أي عنصر من العناصر المكونة للهاتف «آيفون» بمساعدة مستخدمين. وعندما كانت هناك حاجة إلى إحضار مهندسين من أقسام أخرى للتعامل مع بعض جوانب الهاتف، لم يكن يتم السماح لهم برؤية الشاشات، وحين كان من الضروري التنقل بالنماذج الأولية في أنحاء الشركة، كانوا يغطونه بقطعة قماش سوداء حتى إنه كان يبدو مثل قديس تائب.
وكان جوبز طوال ذلك الوقت يحفز على العمل، ويدقق في التفاصيل الصغيرة، ويعاقب، مع الحرص على عدم معرفة أي أحد لما يقوم به فريق العمل. من الأمور غير المتوقعة من كتاب «الجهاز الواحد» هي الصورة السلبية التي رسمها عن الرئيس التنفيذي الأسطوري. رغم أن تلك الأمور كانت على هامش السيرة، هناك إشارات إلى عدم تحلي جوبز بالصبر، وقسوته، وجهله، وإصابته بالنرجسية، وكونه على خطأ في أكثر الحالات باستثناء مرات قليلة كان فيها مصيباً ومحقاً تماماً.
وبحسب تقدير أحد المسؤولين التنفيذيين في شركة «آبل»، كان يتم ترجمة ولع جوبز بالسرية إلى مئات الملايين من الدولارات في التسويق، إلى جانب عشرات الملايين من الدولارات التي تم جنيها من مبيعات الـ«آيفون» فقط. مع ذلك ما هو الإنجاز الذي حققوه، بعيداً عن تحقيق ثروة هائلة؟ عندما أعلن جوبز عن الجهاز كان يقول عنه إنه «منتج ثوري»، من نوعية تلك المنتجات التي «تغير كل شيء».
وقد كان محقاً من عدة أوجه، حيث يصفه ميرشانت بأنه عنصر من عناصر «تحول على المستوى الحضاري»، وأنه أول تكنولوجيا محمولة يكون عليها أكبر طلب على مستوى العالم منذ الملابس. مع ذلك مع اقتراب الكتاب من نهايته، يتراجع قليلا عن هذا الوصف، وتظهر بعض إمارات التواضع من مهندس ساعد في تقديم هذا المنتج إلى العالم، حيث يوضح أن الأجهزة بطبيعتها تحدث جلبة حين تظهر للمرة الأولى. يقول: «زوجتي رسامة، وترسم لوحات زيتية، وعندما ترسم تقدم شيئا يدوم إلى الأبد؛ أما التكنولوجيا أمر مختلف، فمن سيهتم بالآيفون بعد 15 عاماً من الآن؟».
ويحاول ميرشانت في أجزاء متفرقة من الكتاب استعراض مسألة سعر هاتف الـ«آيفون» في مقابل الجانب الأخلاقي. لهذا الغرض قام بجولة حول العالم بحثاً عن سلسلة التوريد من المناجم الموجودة في بوليفيا، التي يتم منها توريد معدن القصدير إلى مدينة المصانع الصينية في شنغن، حيث يتم تجميع الهواتف، إلى مكبّات النفايات في كينيا، التي يتم منها إحضار الهواتف التالفة. لا يوجد في الكثير من الأمور التي يجدها ما هو مشجع، حيث تحسنت طريقة معاملة العمال في شركة التجميع «فاكسون» منذ موجة الانتحارات الشهيرة عام 2010. لكن لا تزال ظروف العمل سيئة. يتم الحصول على معدن الكوبلت والتنغستين بالأساس من جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي يتم فيها توظيف أرباح التعدين في دعم عمليات الجماعات المتمردة العنيفة. تشبه المناجم في بوليفيا، التي يتم منها استخراج القصدير والفضة اللازمين لتصنيع الهواتف على ارتفاع 14 ألف قدم فوق سطح البحر، الصورة التي تظهر في أعمال الروائي تشارلز ديكنز. طبقاً لقواعد السلوك التي تتبعها شركة «آبل»، يجب على الموردين توفير ظروف عمل آمنة للعمال ومعاملتهم بكرامة واحترام.
ما الذي ينبغي علينا عمله باستخدام هذه المعلومات؟ التعقيد الشديد، الذي يتسم به جهاز مثل «آيفون» يجعل من الصعب إجراء حسابات أخلاقية كما هو الحال في إنتاج سلع أبسط مثل الألماس أو الذهب. يمثل التاريخ الممتد، الذي يقدمه لنا ميرشانت، بداية إجابة أو حل. مع ذلك من أجل حساب التكلفة البشرية مقابل السعر، ربما نكون بحاجة إلى التحول إلى فلاسفة أخلاقيين. منذ عدة سنوات، تساءل بيتر سينغر عما إذا كانت قيمة حياة طفل أقل من ثمن زوج من الحذاء؛ وبالمثل هل يستحق جهاز «آيفون» كل ذلك؟
كتاب «الجهاز الواحد» صادر عن دار نشر «بانتام»



«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»
TT

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة أو أن تُحسب دراسته، على الرغم من التفصيل والإسهاب في مادة البحث، أحدَ الإسهامات في حقل النسوية والجندر، قدر ما يكشف فيها عن الآليات الآيديولوجية العامة المتحكمة في العالمَين القديم والجديد على حد سواء، أو كما تابع المؤلف عبر أبحاثه السابقة خلال أطروحته النظرية «العالم... الحيز الدائري» الذي يشتمل على أعراف وتقاليد وحقائق متواصلة منذ عصور قديمة وحديثة مشتركة ومتداخلة، وتأتي في عداد اليقين؛ لكنها لا تعدو في النهاية أوهاماً متنقلة من حقبة إلى أخرى، وقابلة للنبذ والنقض والتجدد ضمن حَيِّزَيها التاريخي والاجتماعي، من مرحلة الصيد إلى مرحلة الرعي، ومنهما إلى العصرَين الزراعي والصناعي؛ من الكهف إلى البيت، ومن القبيلة إلى الدولة، ومن الوحشية إلى البربرية، ومنهما إلى المجهول وغبار التاريخ.

ويشترك الكتاب، الصادر حديثاً عن دار «الياسمين» بالقاهرة، مع أصداء ما تطرحه الدراسات الحديثة في بناء السلام وحقوق الإنسان والعلوم الإنسانية المتجاورة التي تنشد قطيعة معرفية مع ثقافة العصور الحداثية السابقة، وتنشئ تصوراتها الجديدة في المعرفة.

لم يكن اختيار الباحث فالح مهدي إحدى الظواهر الإنسانية، وهي «المرأة»، ورصد أدوارها في وادي الرافدين ومصر وأفريقيا في العالمَين القديم والجديد، سوى تعبير عن استكمال وتعزيز أطروحته النظرية لما يمكن أن يسمَى «التنافذ الحقوقي والسياسي والقانوني والسكاني بين العصور»، وتتبع المعطيات العامة في تأسس النظم العائلية الأبوية، والأُمّوية أو الذرية، وما ينجم عن فضائها التاريخي من قرارات حاكمة لها طابع تواصلي بين السابق واللاحق من طرائق الأحياز المكانية والزمانية والإنسانية.

إن هذه الآليات تعمل، في ما يدرسه الكتاب، بوصفها موجِّهاً في مسيرة بشرية نحو المجهول، ومبتغى الباحث هو الكشف عن هذا المجهول عبر ما سماه «بين غبار التاريخ وصورة الحاضر المتقدم».

كان الباحث فالح مهدي معنياً بالدرجة الأساسية، عبر تناول مسهب لـ«المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ، بأن يؤكد أن كل ما ابتكره العالم من قيم وأعراف هو من صنع هيمنة واستقطاب الآليات الآيديولوجية، وما يعنيه بشكل مباشر أن نفهم ونفسر طبيعةَ وتَشكُّلَ هذه الآيديولوجيا تاريخياً ودورها التحويلي في جميع الظواهر؛ لأنها تعيد باستمرار بناء الحيز الدائري (مفهوم الباحث كما قلت في المقدمة) ومركزة السلطة وربطها بالأرباب لتتخذ طابعاً عمودياً، ويغدو معها العالم القديم مشتركاً ومتوافقاً مع الجديد.

إن مهدي يحاول أن يستقرئ صور «غبار التاريخ» كما يراها في مرحلتَي الصيد والرعي القديمتين، ويحللها تبعاً لمسارها في العهد الحداثي الزراعي الذي أنتج النظم العائلية، وبدورها أسفرت عن استقرار الدول والإمبراطوريات والعالم الجديد.

يرصد الكتاب عبر تناول مسهب «المرأة» وعلاقات القوى المؤثرة في وجودها الإنساني عبر مسار التاريخ في ظل استقطاب آيديولوجيات زائفة أثرت عليها بأشكال شتى

ويخلص إلى أن العصر الزراعي هو جوهر الوجود الإنساني، وأن «كل المعطيات العظيمة التي رسمت مسيرة الإنسان، من دين وفلسفة وعلوم وآداب وثقافة، كانت من نتاج هذا العصر»، ولكن هذا الجوهر الوجودي نفسه قد تضافر مع المرحلة السابقة في عملية بناء النظم العائلية، وأدى إليها بواسطة البيئة وعوامل الجغرافيا، بمعنى أن ما اضطلع به الإنسان من سعي نحو ارتقائه في مرحلتَي الصيد والرعي، آتى أكله في مرحلة الزراعة اللاحقة، ومن ثم ما استُنْبِتَ في الحيز الزراعي نضج في الحيز الصناعي بمسار جديد نحو حيز آخر.

ومن الحتم أن تضطلع المعطيات العظيمة التي أشار إليها المؤلف؛ من دين وفلسفة وعلوم وآداب زراعية؛ أي التي أنتجها العالم الزراعي، بدورها الآخر نحو المجهول وتكشف عن غبارها التاريخي في العصرَين الصناعي والإلكتروني.

إن «غبار التاريخ» يبحث عن جلاء «الحيز الدائري» في تقفي البؤس الأنثوي عبر العصور، سواء أكان، في بداية القرن العشرين، عن طريق سلوك المرأة العادية المسنّة التي قالت إنه «لا أحد يندم على إعطاء وتزويج المرأة بكلب»، أم كان لدى الباحثة المتعلمة التي تصدر كتاباً باللغة الإنجليزية وتؤكد فيه على نحو علمي، كما تعتقد، أن ختان الإناث «تأكيد على هويتهن».

وفي السياق نفسه، تتراسل دلالياً العلوم والفلسفات والكهنوت والقوانين في قاسم عضوي مشترك واحد للنظر في الظواهر الإنسانية؛ لأنها من آليات إنتاج العصر الزراعي؛ إذ تغدو الفرويدية جزءاً من المركزية الأبوية، والديكارتية غير منفصلة عن إقصاء الجسد عن الفكر، كما في الكهنوت والأرسطية في مدار التسلط والطغيان... وهي الغبار والرماد اللذان ينجليان بوصفهما صوراً مشتركة بين نظام العبودية والاسترقاق القديم، وتجدده على نحو «تَسْلِيع الإنسان» في العالم الرأسمالي الحديث.

إن مسار البؤس التاريخي للمرأة هو نتيجة مترتبة، وفقاً لهذا التواصل، على ما دقّ من الرماد التاريخي بين الثقافة والطبيعة، والمكتسب والمتوارث... حتى كان ما تؤكده الفلسفة في سياق التواصل مع العصر الزراعي، وتنفيه الأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا في كشف صورة الغبار في غمار نهاية العصر الصناعي.